أفيون الشعب في زمن الإبادة.. كيف يوظف إسلاميون الدين لإضعاف فلسطين
تاريخ النشر: 26th, August 2025 GMT
حظيت مقولة ماركس عن الدين بوصفه "أفيون الشعب" مكانة مهمة في النقاش، ليس فقط في أوساط الشراح الماركسيين، ولكن بين كلّ من اهتمّ بموقع المسألة الدينية من القضية الاجتماعية والسياسية، ولاسيما بعد التوظيف السياسي اللينيني لهذه المقولة بنحو أحاديّ ألغى ما يراه بعضهم جانبًا إيجابيًّا بنحو ضمنيّ في مقولة ماركس التي كتبها في "مقدمة نقد فلسفة الحق عند هيغل"، حيث قال: "إنّ البؤس الدينيّ هو في الوقت نفسه تعبير عن البؤس الفعليّ واحتجاجٌ على البؤس الواقعيّ.
الدين هو زفرةُ الإنسان المسحوق، روحُ عالم لا قلب له، كما أنّه روحُ وضعٍ هجرته الروحُ. إنّه أفيون الشعب." بينما كتب لينين في "الاشتراكية والدين": "أولئك الذين يشقون ويعيشون في فاقة طوال حياتهم يُعلَّمون بالدين أن يكونوا خاضعين وصبورين وهم على الأرض، وأن يتعزّوا بأمل الثواب السماوي. أما الذين يعيشون بعمل غيرهم فيُعلَّمون بالدين ممارسة الصدقة وهم على الأرض، وهكذا يُقدَّم لهم أسلوب رخيص لتبرير وجودهم كله كمستغلين، ويُباع لهم بتذكرة زهيدة الثمن سعادة في السماء. الدين أفيون الشعب. الدين نوع من الخمر الروحي الذي يغرق فيه عبيد الرأسمال صورتهم الإنسانية، أي مطلبهم في حياة أكثر أو أقل جدارة بالإنسان."
يُلاحظ والحالة هذه أمران، الأول إلغاء لينين الجانب الاحتجاجي في الدين حتى لو كان انعكاسًا للأوضاع المادية للمقهورين بحسب التفسير الماركسي لأصل البنى التحتية في تكوين البنى الفوقية، بينما هو لدى ماركس نتاج من عالم مقلوب، يحمل تعزية مخدرة، ولكنه زفرة المقهور، والثاني كون الفاعلية في تحويل الدين إلى أيدولوجيا مخدّرة لدى لينين مفروضة على الشعب من الرأسماليين المستغلين، الذين يعلمون الكادحين الصبر والخضوع، ثم يريحون ضمائرهم ويشرعنون استغلالهم بالصدقة، بينما يراها ماركس كامنة داخل الشعب ذاته، وليست مجرد أداة للاضطهاد الطبقي.
جاء توظيف ماركس للأفيون للتعبير عن الدين، وهو في مرحلة تحول عن الهيغيلية اليسارية، أولاً في سياق تاريخي كان فيه الأفيون في أربعينيات القرن التاسع عشر سلعة قانونية مهدئة ومهلوسة، وتستخدم للتخدير في الأغراض الطبية، وبسببها دارت الحرب بين بريطانيا والصين بين عامي 1839 و1842، وثانيًا في استثمار من ماركس لتاريخ طويل من نقد الدين في الفلسفة الألمانية، والتي حضر الأفيون في تعبيرات العديد من فلاسفتها، ومن ثمّ وفي هذا المسار نجد كتابات كانط، وهيغل، وهاينريش هاينه، وبرونو باور، وموسى هس، ولودفيغ فويرباخ، بحيث نجد آثار نقدهم للدين، في نقد ماركس، نفسه، لكن، ولأنّ موضوعنا هنا ليس نقد الدين نفسه، أو نقد النقد الماركسي له، قد تجدر الإشارة إلى التقاطع الضمني بين كانط الذي نقد الدين بوصفه أيديولوجيا خارقة لكنه أفسح له المجال تاليًا بوصفه ممارسة أخلاقية مرتبطة بالضمير الفردي والقانون الأخلاقي الكوني، وكذلك ماركس الذي نقد الدين بوصفه أفيونًا يسكن البؤس ويعطي سعادة وهمية (زهور وهمية تزين بها سلاسل العبودية) ولكنه أصرّ أيضًا على أنّه يحمل بعدًا احتجاجيًّا على الواقع البائس.
حسنًا، نحن مؤمنون، ونعتقد أنّ الدين أصيل ومنزل من عند الله، وليس انعكاسًَا في أصله للأوضاع الاقتصادية، ولكن ثمّة استخدامات للدين تعيد تحريفه لخدمة أغراض المستغلين (بكسر اللام) بوعي في بعض ذلك، وهو ما يعود إلى الجانب التوظيفي من فوق للدين، أي من المستغلين والطغاة، وبعضه بغير وعي، أي ينبع من الداخل، من داخل الناس، أو داخل المشتغلين في الحقل الديني، الذين ينزع بعضهم، لتحريف الدين، ولكن بلا وعي، وبما يفضي إلى مهمة مزدوجة؛ خدمة المستغلين، وتخدير الناس عن واجبهم إزاء القضايا المطروحة.
سوف نلاحظ هذا التقاطع، وقدرة المستغلين على استثارة النوازع الذاتية لتحريف الدين وإعادة تشكيله؛ من خلال القضية الغزية، أي حرب الإبادة الجماعية الجارية على غزة، وتقاطعاتها مع الأحداث الإقليمية، ومن أهمها في هذا التوقيت العدوان الإسرائيلي على سوريا، ومحاولته اللعب على التناقضات الأهلية السورية الداخلية، وما تبع ذلك من لقاءات سرية وعلنية بين مسؤولين من الإدارة السورية الجديدة ومسؤولين إسرائيليين.
سوف أتخذ مثلين اثنين من مشتغلين في الحقل الديني، من اتجاهين مختلفين؛ في التعاطي مع هذه القضية المتشابكة مع أبعادها المحيطة، الأوّل كما يبدو بحسب تعريفه لنفسه دكتور منضمّ إلى عدد من الاتحادات والأربطة "العلمائية" التي يفهم أنّها تنتمي لتيار الإخوان المسلمين، وإحدى هذه الأربطة فلسطينية. أبدى الدكتور رأيًا في أنه لا بأس من مدّ اليد للعدوّ ما دامت النية سليمة والقلب نظيف، وقد أضاف إلى ذلك قواعد فقهية من قبيل "إذا ضاق الأمر اتسع"، وذلك في التعقيب على اللقاءات السورية الإسرائيلية.
لن نكون في صدد مناقشة هذه الكيفية في معالجة حدث سياسيّ بالغ الخطورة يأتي في غمرة الإبادة على الفلسطينيين، ولكن القضية في كون صاحب هذا الرأي سبق له ونصح حماس بالتوقف عن أيّ مدح لإيران أو ثناء عليها، عادًّا سلوكها هذا دافعًا للأمة للفظها والابتعاد عنها ونزع الثقة منها، قائلاً إنه لا شفاء في رجس، وأنّ الغاية لا تبرر الوسيلة، وأنّ من ترك شيئًا لله عوضه خيرًا منه، وهنا لم تشتغل مع حماس في مجرد ثنائها على من دعمها، إذ ثناؤها متعلق بهذا الدعم لا بمطلق سياسات الداعم، قاعدة "إذا ضاق الأمر اتسع"، ولا قاعدة النية والقلب النظيف والنية السليمة! (حذف الأخ لاحقًا منشوراته المتعلقة بلقاءات السوريين بالإسرائيليين؛ مشكورًا).
الثاني، سلفي مشهور ونشيط، مهتم بقضايا الأمّة مشكورًا، وله تجربة اعتقال مؤلمة، بيد أنّه سوّغ لقاءات السوريين بالإسرائيليين بالقواعد التالية: "الضرر يزال"، "الضرورات تبيح المحظورات"، "الضرورات تقدر بقدرها"، ثمّ أردف قائلاً: "وكما أنّنا نعذر قادة غزّة بسبب علاقتها مع من سفك دماء مليون مسلم ودمّر المدن وهتك الأعراض بسبب الاضطرار، فكذلك نعذر قادة سوريا في علاقاتها بسبب الاضطرار."، ثم قال إنّ من عذر أحد الطرفين دون الآخر فهو ظالم مجحف يرى بعين عوراء.
بهذه المعالجة يتضح، كيف يحوّل مشتغلون في الحقل الديني من المنتمين للتيارات الإسلامية الحركية الدين إلى أفيون، ليس بوصفه انعكاسًا لبؤس المظلومين، بل بجعله أداة تُسخَّر لصالح المستغِلين (بكسر اللام) أو القوى الدولية، علاوة على كون هذه الممارسة تتسم بقدر من الامتهان للدين، وتحويله إلى خادم للأهواء الشخصية أو الحزبية أو الفكرية أو الغريزية، بمعزل عن المعطى المادي الواقعي، أو عن واجب الموالاة الإيمانية على أسس شرعية متسقة ومطردة وغير متناقضة،في آراء الأخ المطروحة هذه؛ ما يستدعي النقض من جوانب متعددة، وهو أمر قد يتسع له مقام آخر، بيد أنّ المهمّ هو في فحص صدق دعوى الأخ، من حيث مساواته بين الطرف الفلسطيني والسوري، وذلك على فرض تنزلنا وقبولنا بمنطلقاته كلها حول تراتبية الأعداء والموقف من الفرقاء في المنطقة وتوصيف الأحداث وما يتصل بذلك من معطيات وأرقام.
زعم الأخ أنّه سبق له وعذر قادة غزة، ومن ثمّ فالواجب أن يعذر قادة سوريا، ونحن الآن نفحص صدق الدعوى، ولا نناقش الموقف من تصريحات قادة غزة أو الموقف من لقاءات السوريين بالإسرائيليين. بالعودة إلى منشورات سابقة للأخ يعقب فيها على تصريحات قادة غزة، وجدنا في تغريدة له في 16 أيلول/ سبتمبر 2022 ما يلي، اتهامهم بالتشبث بالسلطة دون انتخابات (متبنّيًا دعاية خصومهم عازلاً المسألة، أي السلطة والانتخابات، عن جميع ملابساتها وسياقاتها)، أنّ حماس اختارت السلطة على المبادئ، باعت دماء السوريين، وفي تغريدة أخرى له في 16 أيلول/ سبتمبر 2022: جعل السلطة لدى حماس غاية لا وسيلة (وهي التي هدمت معبد سلطتها على رأسها في السابع من أكتوبر)، ثم قال إنّها ترفض الانتخابات، وتخذل المستضعفين، وتقف مع أبشع جزار عرفه التاريخ، ثم ختم بالقول: إنّ خذلان حماس للسوريين يبرر لغيرهم خذلان فلسطين. وفي تسجيل آخر له، لم أتبين من تاريخه، أقسم فيه أنّه لو أقام السوريون علاقة بإسرائيل لإسقاط بشار الأسد لكانوا أعظم اضطرارًا من حماس في تحالفها مع إيران، مرددًا الكلام المكرور عمن هو أكثر إجرامًا، وعن كون دم المسلم أعظم حرمة من المسجد الأقصى (وكأن إسرائيل كانت تسكب العصير للفلسطينيين لا دماءهم!).
حينما، ذكّره بعضهم بهذا كلّه، قال إنّ هذه كانت نصيحة، ونحن لو وافقناه تنزلاً فيما قاله كلّه في طريقة تعاطيه مع الموقفين، يبقى أن يسأل أن إعذاره لحماس الذي زعمه؟! كيف نسي الأخ أنه وبعدما سوى أخيرًا بين اضطرار السوريين والفلسطينيين، أنّه ظالم مجحف ينظر بعين عوراء، لأنّ نصيحته لحماس كانت اتهامًا مباشرًا، صريحًا وقاطعًا، ولم تكن في أكثرها تساؤلات أو تخمينات أو إبداء مخاوف، اتهامات من قبيل الخذلان، وبيع دم المسلمين، والتشبث بالسلطة، ورفض تداولها.. الخ، بينما بخصوص لقاء السوريين بالإسرائيليين شغل قواعد الضرورة، وإزالة الضرر، وزعم أنّه فعل الشيء نفسه مع حماس، ثم تبين أنّه فعل العكس تمامًا؟!
فحص مصداقية الدعوى لدى المثلين المذكورين، لا تُقصد به المحاكمة، ولكن كيف ينزع بعض المشتغلين في الحقل الديني لتوظيف الدين بما ينسجم مع كوامن نفسية خفية وتوجهات أيدولوجية، فالقواعد الفقهية أقحمت للاعتذار للإخوة السوريين في لقاءاتهم بالإسرائيليين، بينما غيبت تمامًا حينما تعلق الأمر بحماس، وهذا توظيف مهين للدين يزري به، لأنه لا يعبّر عن منطق فقهي متماسك، ولا توجه أخلاقي صلب، ولا تصوّر سياسي صحيح، ولا عدالة في المحاكمة بين أطراف المسلمين، وإنما يُعبّر عن انحيازات تخدم أصحاب القدرة على الاستغلال وتحريف الدين من فوق، وهكذا يتوظف المصلح المشتغل في الحقل الديني ليخدم، دون وعي؛ إرادة السياسي المستغلّ!
اشتغل السياسي المستغل، ومن خلفه الاستعماري الأكثر استغلالاً، من خلال الضخ الإعلامي، وتوجيه السياسات، وتكثير المنصات، لاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي، للاستثمار في الفتنة الطائفية (التي تتحمل إيران وحزب الله مسؤولية جوهرية عنها جراء سياساتهما في سوريا تحديدًا والتي اتخذت في بعض أحوالها الطابع الإمبريالي والإجرامي علاوة على الخطاب الطائفي الصريح)، وذلك، أي استثمار السياسي والاستعماري في الفتنة الطائفية، بغرض إعادة هندسة المنطقة سياسيًّا، بإخراج إسرائيل من دائرة العداء، وإحلال إيران مكانها، أو تأخير إسرائيل إلى الخلف، وفي حين جرى تسهيل ذلك بالخطاب الطائفي الصريح، فقد عُزِّز سياسيًّا بإعادة صياغة للمشهد على أساس هذه الأسئلة: من الأكثر إجرامًا؟! من الأولى بالعداء في الظرف الراهن؟! وقد احتاج ذلك للتقليل من شأن معاناة الفلسطينيين: إسرائيل أكثر رحمة، قتلت منهم أقلّ، وكذلك أعيد تعريف مفهوم الاحتلال، فصارت إسرائيل تحتل عاصمة عربية واحدة، بينما تحتل إيران أربعة (بحسب هذا المفهوم ثمّة تجريد لحلفاء إيران في اليمن والعراق ولبنان وسوريا من مواطنتهم وتحويلهم لإيرانيين محتلين). هذه الهندسة تبنّاها إسلاميون من مشارب متعددة، وأعادوا تدويرها في إطار من الخطاب الديني السطحي المضمن تصورات سياسية غاية في السذاجة والغريزية، حيث تغلب فيها الثأرية السنية على أيّ اعتبار آخر لحوح، كالإبادة الجارية على غزة الآن.
بهذه المعالجة يتضح، كيف يحوّل مشتغلون في الحقل الديني من المنتمين للتيارات الإسلامية الحركية الدين إلى أفيون، ليس بوصفه انعكاسًا لبؤس المظلومين، بل بجعله أداة تُسخَّر لصالح المستغِلين (بكسر اللام) أو القوى الدولية، علاوة على كون هذه الممارسة تتسم بقدر من الامتهان للدين، وتحويله إلى خادم للأهواء الشخصية أو الحزبية أو الفكرية أو الغريزية، بمعزل عن المعطى المادي الواقعي، أو عن واجب الموالاة الإيمانية على أسس شرعية متسقة ومطردة وغير متناقضة، وهو أمر يذكر بما جاء في الحديث القائل: "يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل"، وبما روي عن ابن عباس أنّه قال في تفسير قوله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) "الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل"، إذ تصبح الذات، بما فيها من هوى شخصي أو حزبي، مناط الموقف الشرعي، لا الحقيقة كما هي في الواقع!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه سوريا لقاءات الرأي الاحتلال سوريا احتلال رأي لقاءات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نقد الدین أفیون ا
إقرأ أيضاً:
هذه أبرز محطات العام الثاني من حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة
شهد العام الثاني من حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة العديد من المحطات، والتي شكّلت علامات بارزة في المشهد الفلسطيني، لعل أبرزها التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار لمدة ستين يوما، وتخلله عمليات تبادل أسرى استمرت على مدى ستة أسابيع.
بعد أكثر من عام على بدء حرب الإبادة، استشهد قائد حركة المقاومة الإسلامية حماس يحيى السنوار خلال اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، ذلك بتاريخ 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2024.
استشهاد يحيى السنوار
ورغم أن اغتيال السنوار كان صدفة، إلا أنّه شكل علامة بارزة في العام الثاني من حرب الإبادة، خصوصاً أنه اشتبك مع جيش الاحتلال قبيل استشهاده في حي تل السلطان غرب مدينة رفح، وذلك في عملية عسكرية وُصفت بأنّها "غير مخطط لها وعشوائية".
ووُصف السنوار بأنّه مهندس طوفان الأقصى الذي نفذتها كتائب القسام الجناح المسلح لحركة حماس في السابع من أكتوبر 2023، وقاد حماس في غزة منذ 2017، وكرّس حياته لتعزيز قوة المقاومة وتوطيد العلاقات مع إيران وحزب الله، وأصبح أكثر الشخصيات تأثيراً في الساحة الفلسطينية.
ورغم أنه كان هدفا دائما لقوات الاحتلال، إلا أنه لم يتراجع أو يختبئ، وظل يقاتل على الأرض حتى النهاية، مرتديا زيه العسكري وحاملا بندقيته، وترك السنوار وراءه إرثا من المقاومة والإرادة لأجيال قادمة، وهو الذي طالما قال إن الموت في سبيل الوطن والدين شرف لا يخافه.
وقف مؤقت للإبادة
وبعد نحو 3 شهور من استشهاد السنوار، وافق الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس على اتفاق وقف إطلاق النار بتاريخ 15 كانون الثاني/ يناير 2025، ودخل الاتفاق حيز التنفيذ في 19 من الشهر ذاته، ويتضمن مقترح الاتفاق ثلاث مراحل تبدأ بوقف إطلاق النار لمدة ستة أسابيع، ومن ثم الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين، ثم وقف دائم لإطلاق النار وانسحاب كامل لجيش الاحتلال من غزة، وعملية إعمار تستمر من 3 إلى 5 سنوات.
ونصت المرحلة الأولى على إجراء عملية تبادل أسرى تشمل 33 أسيراً إسرائيلياً معظمهم من النساء، مقابل إطلاق سراح 30- 50 فلسطينيا (بدءا بالنساء والأطفال) عن كل إسرائيلي، وخلال هذه المرحلة، يتوجب على الاحتلال الإسرائيلي السماح بكميات كافية من المساعدات الإنسانية وعودة النازحين إلى منازلهم.
وتتضمن هذه المرحلة أيضا بدء الانسحاب التدريجي لجيش الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، إلى جانب بدء مفاوضات لوقف دائم لـ"الأعمال العدائية".
وفي المرحلة الثانية، يقبل الاحتلال بوقف دائم لإطلاق النار وتطلق حماس الأسرى الذكور المتبقين (مدنيين وعسكريين) مقابل إطلاق سراح عدد محدد من الأسرى الفلسطينيين. وفي المرحلة الثالثة، ستفرج حماس عن جثث الأسرى المتوفين. وفق مقترح 5 أيار/ مايو 2024، وتلتزم إسرائيل برفع الحصار عن غزة.
شهدت الصفقة ثماني جولات من تبادل الأسرى بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس، منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وُجهت اتهامات مستمرة لإسرائيل بانتهاكه، من خلال قتل الفلسطينيين بشكل شبه يومي وعرقلة وصول المساعدات.
في 1 آذار/ مارس 2025، وهو اليوم الذي كان من المقرر أن تنتهي فيه المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، رفضت حماس اقتراحا إسرائيليا بتمديد المرحلة وإطلاق المزيد من الأسرى. وأكدت حماس أن المرحلة الثانية يجب أن تمضي كما تم الاتفاق عليها في الأصل.
صرح مكتب نتنياهو بأن إسرائيل وافقت على خطة أمريكية لتمديد الهدنة في غزة خلال فترتي رمضان وعيد الفصح. وبموجب هذه الخطة، سيتم إطلاق نصف الأسرى الأحياء والأموات في اليوم الأول من الهدنة الممتدة، وسيتم إطلاق بقية الأسرى في نهاية الفترة إذا تم التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم. وذكرت المصادر أن الاتفاق الأولي سمح لإسرائيل باستئناف الحرب في أي لحظة بعد 1 آذار/ مارس 2025 إذا اعتبرت المفاوضات غير فعالة.
بعد رفض حماس تمديد وقف إطلاق النار وفقًا للخطة الأمريكية، أوقفت إسرائيل دخول المساعدات إلى غزة في اليوم التالي بتاريخ 2 آذار/ مارس 2025، وأدان الوسطاء مصر وقطر، بالإضافة إلى الأمم المتحدة، الحصار المفروض على المساعدات الإنسانية، معتبرين أنه انتهاك لوقف إطلاق النار، والذي نص على أن المرحلة الأولى سيتم تمديدها تلقائيًا طالما أن مفاوضات المرحلة الثانية مستمرة.
استئناف الإبادة
في فجر يوم الثلاثاء 18 آذار/ مارس 2025، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي هجوما جويا واسعا على جميع أنحاء قطاع غزة، معلنا بذلك انهيار وقف إطلاق النار قبل التوصل إلى المرحلة الثانية، واستئناف العدوان على غزة، وشنت طائرات الاحتلال عدوانا واسعا أسفر عن استشهاد أكثر من 300 فلسطيني وجرح المئات في أول ثلاث ساعات.
وفي 23 آذار/ مارس 2025، صدّق الكابينت السياسي الأمني على إقامة مؤسسة حكومية إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، أُطلق عليها اسم "مديرية نقل سكان غزة طوعيًا إلى دول أخرى"، ما شكّل سابقة في تاريخ مخططات الاحتلال لتهجير الفلسطينيين، والتي دأبت دوما على إبقاء مثل هذه القرارات سرية.
وحدد الكابينت السياسي الأمني لمديرية تهجير الفلسطينيين من القطاع مجموعة من المهمات، من بينها الاستعدادات اللازمة لتوفير الممرات الآمنة لسكان القطاع لإخراجهم إلى دول أخرى، وذلك بتمهيد الطرق وتأمين تحرّكهم فيها، وإقامة مراكز فحص للمشاة في الممرات المزمع إنشاؤها، والتنسيق لإقامة بنية تحتية في داخل القطاع وإسرائيل تتيح عبور الطرق البرية والبحرية والجوية إلى الدول التي سيتم تهجير الفلسطينيين إليها من غزة.
وتحدث نتنياهو في مستهل اجتماع حكومته في 30 آذار/ مارس 2025، أن الضغط العسكري الإسرائيلي المرافق للضغط السياسي هو الأمر الوحيد الذي يعيد الأسرى الإسرائيليين، مشيرا إلى أن خطة الحكومة الإسرائيلية لليوم التالي للحرب هي: نزع سلاح حماس وإبعاد قادتها إلى خارج قطاع غزة، ووضع الأمن العام في القطاع تحت سيطرة إسرائيل، وتنفيذ خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لـتهجير الفلسطينيين طوعيا من قطاع غزة.
وتصاعدت حرب الإبادة خلال تزامنا مع تشديد الحصار ومنع إدخال مساعدات، وأصدرت 28 دولة بتاريخ 11 تموز/ يوليو 2025، بيانا مشتركا يدعو إلى إنهاء الحرب في غزة على الفور، قائلة إنها وصلت إلى مستويات جديدة من حيث معاناة المدنيين.
وتأكدت المجاعة في مدينة غزة لأول مرة بتاريخ 22 آب/ أغسطس 2025، بعد أن رفعت الهيئة الأممية المسؤولة عن مراقبة الأمن الغذائي تصنيفها إلى المرحلة الخامسة، وهي أعلى وأسوأ مستوى، وأفاد التصنيف المرحلي المتكامل أن أكثر من 500 ألف شخص يواجهون "الجوع والعوز والموت".
محاولة اغتيال وفد حماس المفاوض في الدوحة
شكّلت غارات الاحتلال الإسرائيلي في العاصمة القطرية الدوحة بتاريخ 9 أيلول/ سبتمبر 2025 علامة بارزة جديدة في العام الثاني للإبادة، والتي حاولت اغتيال وفد حركة حماس المفاوض، ويعد الهجوم الإسرائيلي الفاشل هو الأول لتل أبيب الذي يطال إحدى الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي.
وأدانت قطر الغارة الجوية ووصفتها بأنها "هجوم إسرائيلي جبان" وانتهاك للقانون الدولي والسيادة. ونفت وزارة الخارجية القطرية على لسان متحدثها ماجد الأنصاري ما يُتداول من تصريحات حول إبلاغ دولة قطر بالهجوم مسبقا، مؤكدة أن الاتصال الذي ورد من أحد المسؤولين الأمريكين جاء خلال سماع دوي الانفجارات.
وأعلنت حركة حماس فشل الاحتلال الإسرائيلي في اغتيال قادة الحركة في الوفد المفاوض، واعتبرت أن المحاولة جريمة بشعة وعدوان سافر وانتهاك صارخ لكل الأعراف والقوانين الدولية، وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن نتنياهو وحكومته لا يريدان التوصل إلى أي اتفاق للسلام.
خطة ترامب لإنهاء الحرب
قدم الرئيس الأمريكي في 29 أيلول/ سبتمبر 2025 خطة شاملة من عشرين بندا لإنهاء الحرب الدائرة منذ عامين في قطاع غزة، وتتضمن البنود وقف القتال، وإطلاق سراح الأسرى، وإدخال المساعدات وإعادة إعمار القطاع، إلى جانب نزع سلاح حماس وإقامة حكم انتقالي.
وأعلن رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو موافقته على خطة ترامب، بينما منح الأخير مهلة لحركة حماس بالموافقة على الخطة، عقب اجتماع عقده مع عدد من الدول العربية والإسلامية في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفي 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، أعلنت حركة حماس موافقتها على إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين ضمن خطة ترامب، وسارع الأخير إلى دعوة الاحتلال الإسرائيلي لوقف القصف فورا، تمهيدا لتنفيذ المرحلة الأولى من الخطة.
وبتاريخ 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، بدأت محادثات غير مباشرة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي في مدينة شرم الشيخ المصرية، لبحث آلية تنفيذ خطة ترامب وتهيئة الظروف الأمنية والميدانية للشروع في صفقة تبادل أسرى، إلى جانب مناقشة بنود تتعلق بالانسحاب الإسرائيلي من غزة وضمانات لإنهاء الحرب.