سيدي القاضي، أكتب لك ليس بصفتي المهنية، بل كأم، استيقظت على خبر اخترق قلبها قبل أن يستوعبه عقلها. استيقظت على تفاصيل اعتداء تعرّض له أطفال أبرياء في مرحلة الروضة، أطفال لم يتجاوزوا الخامسة من العمر. يرتادون مدرسة دولية كان يفترض أن تكون مكانًا أكثر أمنًا وانضباطًا ورقابة، فإذا بها (وفق ما هو معلن) تتحول إلى مساحة مظلمة تختبئ فيها جريمة بشعة.
سيدي القاضي، التفاصيل المعلنة بشعة. الاعتداء على براءتهم بأيدٍ من كان يفترض أن يوفّر لهم الحماية ينتقل من الأزمة إلى الكارثة. شهادات تتحدث عن لحظات كان فيها الأطفال يُوثقون بالحبال ويُهدَّدون بآلات حادة «سكين». حتى التعبير عن النفس والاعتراض على الجريمة لم يكن متاحًا. الجناة منعوهم منه. أولاد وبنات في عمر الزهو تعرّضوا لانتهاكات يشيب لها الولدان، مُجبرين بحكم الخوف المصنوع على الصمت.
سيدي القاضي، لدي طفل في العمر نفسه. منذ أن سمعت الخبر وأنا أراقبه، بينما السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن لقلب صغير كقلبه أن يتحمل فزعًا كهذا؟ كيف نطالب طفلًا لم يتعلم بعد كيف يصف مشاعره، بأن يشرح خوفًا لم يفهمه أصلًا؟ كيف يمكن لصغير أن يرفع عينيه إلى أمه ويقول: «ماما، في حد خوّفني»، دون أن ينهار عالمها كله أمام تلك الجملة؟
سيدي القاضي، كيف يمكن لهؤلاء الأطفال أن يجدوا كلمات تصف لحظة شعروا فيها بأن شيئًا حادًا يقترب من رقابهم، أو أن أيديهم توثّق بالحبال، بينما هم لا يعرفون معنى تهديد أو ابتزاز، بل لا يعرفون من العالم سوى الألعاب والألوان؟
أتخيل أمهات المدرسة ووجوههن المرتجفة، الأم التي اندفعت إلى بوابة المدرسة واحتضنت طفلها بكل ما فيها من خوف، تتفرّس في عينيه لتسأله السؤال الذي تخجل منه السماء: «يا حبيبي، حد أذاك؟». أتخيل صوتها وهو يتجمد، والطفل ينظر إليها، لا يفهم لماذا تبكي ولا يدرك سبب ارتعاش يديها، لكنه يشعر بانقباض قلبها. كل أم في ذلك اليوم احتضنت طفلها وكأنها تحاول إخفاءه داخل قلبها.
سيدي القاضي، كلما فكرت في الأمهات، تذكرت الأطفال أنفسهم. ليسوا «ضحايا» فقط بحسب التحقيقات والأوراق الرسمية. أطفال كانوا يرسمون ويغنون، يتعلمون كيف يمسكون أقلام التلوين، وفجأة وجدوا أنفسهم في مساحة ضيقة خانقة اسمها المخزن.
لا نعرف كيف تسارع نبضهم، ولا كيف ارتجفت أيديهم الصغيرة، ولا كيف بحثت أعينهم عن معلمة أو مشرفة «دادة» قد تظهر فجأة لتنقذهم مما يتعرضون له. لا نعرف ماذا دار في رؤوسهم حين اشتد الحبل على رسغهم الصغير، ولا كيف تحول عالمهم الصغير إلى رعب، وكيف تحولت الدهشة إلى فزع، والفزع إلى صمت طويل سيعشّش في ذاكرتهم مدى الحياة.
سيدي القاضي، أنتم رمز العدالة الإلهية على الأرض. الملف الآن يأخذ مجراه الطبيعي. نثق في حسمكم. إذا ثبتت الجريمة، وإذا قالت الأدلة ما لا نريد سماعه، وإذا تأكد أن هذه الأرواح الصغيرة طُعنت في أمانها فإننا (باسم كل الأمهات) نطالب بتطبيق أقصى عقوبة، لردع كل من تسوّل له نفسه ترويع الأبرياء، فالإرهاب ليس جماعات وميليشيات فقط، لكن يقدم عليه بعض من يعيشون بيننا ويتآمرون على أمننا الاجتماعي والنفسي.
سيدي القاضي، آزر ضعف الأمهات اللواتي لم يذقن النوم منذ الإعلان عن وقعة التحرش والاغتصاب في المدرسة الشهيرة، وآزر الأطفال الذين سيكبرون وهم يحملون ظل خوف لا يعرفون اسمه. ارحم مجتمعًا يريد أن يطمئن أن المدرسة، النادي، ليست بابًا إلى المجهول المظلم، وأن الأطفال لن يُساقوا يومًا إلى مخزن يواجهون فيه أبشع خيانة: خيانة الأمان.
سيدي القاضي، قطعًا، لا أستهدف التأثير على مسار الملف قضائيًا، ولا أتدخل في سير العدالة، فنحن نثق في أحكام القضاء وثباته ونزاهته، ولا نريد الظلم لبريء، لكن غلبني قلقي وتسرب الخوف إلى قلبي، من واقع تفاصيل لا تليق بمجتمعنا، وحاضرنا الذي هو امتداد لحضارتنا، وكلاهما رأس ماله العادات والتقاليد واحترام القانون.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: الدبابات الروسية الأصول السيادية الروسية أصول روسية مجمدة تعويضات الحرب لأوكرانيا مفاوضات السلام روسيا وأوكرانيا وقف إطلاق النار فوري خطة السلام لإنهاء الحرب جهود ترامب للسلام سیدی القاضی
إقرأ أيضاً:
هل يمكن أن تستمر أوروبا المُجَزَّأة في الازدهار
ترجمة قاسم مكي
ما الذي حققه الرومان لنا (نحن الأوروبيون)؟
في فيلم «حياة برايان» للفرقة الكوميدية البريطانية «مونتي بايثون» شملت الإجابات على هذا السؤال قنواتِ الري والحمّامات والسلام. لكن ماذا إذا كانت الإجابة الصحيحة هي أن ما حققوه لنا هو سقوطُ إمبراطوريتهم؟
باختصار، يعود دور أوروبا في تغيير تاريخ العالم إلى غياب إمبراطورية أوروبية على امتداد القارَّة. أوجد ذلك الوضع ما يدعوه مؤرخ التاريخ القديم والتر شيدل التشظي التنافسي لأوروبا الغربية (تفتتُها من إمبراطورية رومانية موحَّدة إلى دول محلية متنافسة- المترجم) أفضى التنافس فيما بينها إلى التحولاتِ التجارية والفكرية والتقنية والقانونية والسياسية التي قادت في النهاية إلى الثورة الصناعية، وعقب ذلك تغيّر كل شيء.
الفائدة التي تحققت من تجزئة أوروبا تشكل الفكرةَ المركزية في كتاب شيدل «الهروب من روما» والذي نشر في عام 2019. إنها ليست فكرة جديدة.
لكن شيدل بعث فيها الحياة بتجذيره تقدم أوروبا الغربية في عدم قدرة أي قوة لاحقة على تكرار ما فعلته روما، فخلافا لما حدث في الصين والشرق الأوسط والهند لم تتأسس في أوروبا أبدا إمبراطورية أخرى تلمّ شملها.
طوال 1500 سنة نافست الدول الأوروبية بعضها البعض، ويمكن تصوّر هذه الدول «كعقارب في زجاجة» خلال هذه الفترة من تاريخ أوروبا. كانت هذه العقارب بحاجة إلى تطوير لدغات سامة لكي تظل على قيد الحياة وتزدهر في هذه البيئة الضارية. لقد فعلت ذلك في الحقيقة إلى حدّ أن جزيرة أوروبية صغيرة (بريطانيا) أخضعت جزءا كبيرا من العالم وابتدرت الثورة الصناعية.
خرجت بعض الدول من المنافسة، لكن الابتكارات والأفكار التي قُمِعَت في بعض الأماكن انتقلت ببساطة إلى أماكن أخرى.
أسس الأوروبيون إمبراطوريات في باقي العالم ولكن ليس في أوروبا. وذلك هو الشيء المهم كما يقول شيدل.
يقارن شيدل التنافس الأوروبي بالركود الإمبراطوري في أماكن أخرى. وكتب أن الإمبراطوريتين الرومانية والصينية تشتركان «في قدر من التكامل في السوق والنمو غير المتكافئ الذي قيَّده ضعف قدرة الدولة وانتشار تعدِّي النخب على الموارد والافتقار الدائم لكل من الابتكار وتشكيل رأس المال البشري والنمو الشومبيتري الذي يقوده الابتكار» (النمو الذي ينتج عن التدمير الخلاق على نحو ما شرح ذلك الاقتصادي شومبيتر- المترجم).
تُقدِّم الإمبراطوريات السلام لبعض الوقت، لكنها «آلات» لاستخراج الريع، وفي أوروبا مثل هذه الأنظمة هزمتها تلك التي نجحت في تعزيز الابتكار.
السؤال: لماذا ظلت أوروبا مجزأة؟ الإجابة كما يبدو هي الجغرافيا وتحديدا الجبال والبحار. فالمناطق الخصبة والتي يمكنها إعاشة أعداد كبيرة من السكان وبالتالي دفع ضرائب مرتفعة لم تكن كبيرة ولا قريبة بما يكفي. كما لم تُستنسخ الكفاءة العسكرية النسبية لروما.
في القرنين التاسع عشر والعشرين شهدت اقتصادات أوروبا الغربية نمو مثيرا. ففي عام 2022 كان الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد في أوروبا الغربية يساوي 19 ضعف حجمه قبل 200 سنة مضت. وارتفع متوسط العمر أيضا من 36 سنة في عام 1820 إلى 82 سنة في عام 2020. لقد انتشرت الثورة (الصناعية) من أوروبا عبر العالم. وصار اقتصاد الولايات المتحدة قائد الركب في العالم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي وقت أقرب تعاظم ازدهار الصين. لقد تغير العالم. إنه أكثر ثراءً إلى بعيد.
أيضا فتحت الاختراقات التقنية المجال لتنافس عالمي حامي الوطيس. ولذلك دلالات ضخمة. فحتى وقت قريب كان الاقتصاد الوحيد المتقدم تقنيا وبحجم قارة هو اقتصاد الولايات المتحدة. حاول الاتحاد السوفييتي أن يكون كذلك، لكنه فشل باستثناء تقدمه في المجال العسكري. غير أن الصين قوة مثلها. وقد تكون الهند قوة أخرى أيضا. واليوم «الزجاجة» هي العالم وليست أوروبا. وأخطر العقارب بنفس حجم الإمبراطوريات القديمة. في الواقع إحداها، وهي الصين، المثال النموذجي لإمبراطورية قديمة.
أين موضع أوروبا، أصل هذه الثورة، من كل هذا؟
يبلغ عدد سكان أوروبا 450 مليون نسمة وهو أقل كثيرا من عدد سكان الصين. هذا إذا لم نذكر سكان الهند. لكنه أكبر بقدر مهم من سكان الولايات المتحدة. واقتصادها على أساس تعادل القوة الشرائية أصغر من الاقتصادين الأمريكي والصيني. مع ذلك يظل كبيرا جدا. لكن، وكما جاء في تقرير ماريو دراغي وأيضا في ورقة حديثة بعنوان «دستور الابتكار» من إعداد لويس جاريكانو وبينجت هولمستروم ونيكولا بيتي، الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو يتخلفان في الإنتاجية.
كما تجد أوروبا أيضا صعوبة في تحريك مواردها الاقتصادية والديموغرافية (رغم إنها أكبر بكثير من موارد روسيا) لضمان أمنها بدون حماية المظلة الدفاعية الأمريكية.
ربما باستطاعة الاتحاد الأوروبي فعل ما يجب عليه فعله على الرغم من أن تاريخ تشظي سياساته سيجعله دائما رابطة كيانات سيادية متنازعة أكثر منه دولة ذات سيادة. لقد كان ما يجب عليه تحقيقه، كما تحاجج الورقة المذكورة، وهو الوعد بإقامة «السوق الموحدة» عليه فقط أن يحاول ذلك أكثر وأكثر. ويمكن القول إن ذلك يصح أيضا بالنسبة للتحدي الذي يشكله الأمن الأوروبي.
لكن هذا القول ليس مقنعا تماما؛ فالسيادة والهوية الوطنية والسياسة والضرائب (وهي تعبير عن هذه العناصر) تظل «وطنية» بشكل راسخ، وهذا هو السبب في صعوبة استكمال السوق الموحدة، وهو يصح أكثر بالنسبة للدفاع؛ فانعدام التنسيق بين الدول الأعضاء يجعل الانتفاع المجاني لبعضها من (الترتيبات الدفاعية) مسألة حتمية.
إلى ذلك، تلعب ضخامة الإنتاج وتنوعه وفوق ذلك تركُّزه المكاني دورا كبيرا في تعزيز معظم التقنيات الحديثة الأكثر تقدما.
وبالتأكيد ليس مصادفة، كما يذكر بول كروجمان، أن الثورة الرقمية تركزت في منطقة وادي السيليكون بالولايات المتحدة.
هل سيقبل الأوروبيون مثل هذا التجمع الصناعي العملاق؟ أو هل سيكون في مقدورهم هندسته؟ على المرء أن يشك في ذلك.
إذا كان هذا هو الوضع وإذا كان يؤثر ليس فقط على إنتاجية أوروبا ولكن أيضا على قدرتها على الدفاع عن أمنها قد يعني ذلك أن أوروبا تعاني الآن من «مفارقة» لتاريخها. فالتجزئة التي جعلت دولها قوية وغنية تشكل في العالم الجديد حاجزًا لبقائها كذلك. وفي عصر القوى العظمى التي هي بحجم قارة قد يكون تفتت أوروبا إلى دول مستقلة عائقا لا يمكن تخطيه.
مع ذلك هنالك أيضا إمكانية تدعو إلى قدر أكبر من التفاؤل. فالتحجّر الإمبراطوري يظل مهددا للدول الكبيرة.
نحن نرى ذلك في التمركز المفرط للسلطة الصينية ومحاولة إيجاد أوتوقراطية فاسدة في الولايات المتحدة. على الأوروبيين أن يسعدوا دائما بسقوط (إمبراطورية) روما وبأنها -رغم كل المحاولات- لم تَعُد أبدا.
مارتن وولف كبير معلقي الاقتصاد بصحيفة الفاينانشال تايمز