خالد بن سالم الغساني

 

بعد انتهائي من قراءة مقال الدبلوماسي السوري السابق أحمد علي الحريري بعنوان «مفهوم الدولة بين ابن خلدون وتوم براك»، وجدتني مأخوذًا بذلك التناول الذي جمع بين الطرافة الجاذبة في المُقدمة والعمق في التحليل.

لقد كان دافعًا لي لكتابة هذا النص، لا استكمالًا لما طرحه، بل محاولةً لقراءة أوسع في المعنى الكامن خلف تصريحات المبعوث الأمريكي، وفي النظرة التي تختبئ خلف تلك اللغة الاستعلائية، والتي تكشف عن جوهرٍ استعماري أعمق في مفهوم الغرب للآخرين، ولا سيما نحن الذين نعيش في هذا الشرق.

في زيارته إلى المنطقة مؤخرًا، وأمام وسائل الإعلام والصحافة، وفي قصر بعبدا بلبنان، وصف المبعوث الأمريكي توماس براك، الصحفيين اللبنانيين بأنهم "فوضويون وحيوانيون". هذا الوصف ينسجم مع ما كان قد صرح به سابقًا عن أنَّ منطقة الشرق الأوسط لا تضم دولًا؛ بل قرى وقبائل وعشائر. الأمر المؤكد أنها ليست زلة لسان أو نوبة غضب؛ بل إن ما قاله براك، يعكس بوضوح طريقة التفكير السائدة في دوائر وأروقة القرار الغربي، ولا سيما الأمريكي والصهيوني، تجاه شعوب هذه المنطقة. الكلمات التي تبدو في ظاهرها استعلائية ومُهينة، هي ذاتها تلك النظرة وذلك الأسلوب الاستعماري، اللذان يمارس من خلالهما الغرب، ويُدير سياساته تجاه منطقتنا وشعوبها، إنها تُعبّر في عمقها عن رؤية سياسية وفكرية تعتبرنا جميعًا شعوبًا وجغرافيا، فضاءً غير متحضّر، يحتاج دائمًا إلى وصاية، وإلى من يهذّبه ويرشده، ويوجهه، وقد وضعوا أنفسهم في تلك المكانة المرشدة والموجهة والمديرة، لأننا وفقًا لهم، عاجزون عن حكم أنفسنا أو بناء دولنا المستقلة.

هذا الخطاب ليس جديدًا على الذهنية الغربية، إنه امتداد مباشر للفكر الاستعماري الذي ساد أوروبا منذ قرون، حين كانت القوى الاستعمارية الكبرى تبرر احتلالها للشعوب بشعارات من قبيل نشر الحضارة وتمدين البرابرة وأخيرًا نشر الديمقراطية!! واليوم، وإن تبدّلت اللغة وتغيّرت الأدوات، إلا أنَّ الجوهر لم يتبدل؛ فما زالت منطقتنا وشعوبها في نظرهم ميدانًا رحبًا للفوضى والجهل والانقسام، وما زالوا يرون أنفسهم أصحاب رسالة إنقاذية، لحماية النظام العالمي، من ما يُسمى بالاضطراب والغوغاء الشرقي.

ومن هنا فإنَّ الأمر لا يبدو مستغربًا أن يتحدث دبلوماسي أمريكي، لم يستعر هذه العجرفة والوقاحة التي هي امتداد لجذور أجداده، بمثل هذا التبجح، فهو يعبّر عن إحساس متجذر بالغطرسة التي تشعره بالتفوق والهيمنة.

غير أنَّ الأخطر من هذا القول وأمثاله، هو ما يترتب عليه من فعل؛ فالولايات المتحدة ومعها القوى الغربية لم تنظر يومًا إلينا بوصفنا شركاء نِدًّا لها، بل بوصفنا ملعبًا كبيرًا للنفوذ والمصالح، فعندما يرى صانع القرار الأمريكي أن المنطقة مجرد تجمعات عشائرية لا ترقى إلى مستوى الدولة، يصبح من الطبيعي أن يتعامل معها على هذا الأساس، فهو يقيم تحالفاته على أسس طائفية وقبلية، ويغذّي الانقسامات الداخلية، ويفرض وصايته السياسية والاقتصادية والعسكرية، من منطلق أنه "الوصي على هذه التجمعات والقرى المتناحرة".

هذا هو تمامًا ما شهدته وتشهده العديد من الدول العربية بعد ما سُمّي بـ الربيع العربي، وفوضوية كونداليزا رايس الخلاّقة؛ حيث تم تفكيك المؤسسات الوطنية، والتلاعب بالبُنى الاجتماعية وإنشاء الثورات بعد تجميع كل الخارجين عن القانون والمجرمين والمطلوبين للعدالة، لقيامهم بما يخدم استمرار الفوضى وضمان خضوع المنطقة لإرادة الخارج.

وعلى صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، فإن هذه النظرة الاستعلائية تمثل الركيزة الأساسية للسياسة الأمريكية في حماية دويلة الكيان المحتل. فعندما يُختزل الشرق الأوسط في مجموعة قبائل، يسهل تبرير دعم دولة الاحتلال باعتبارها الجزيرة المتحضرة وسط بحر من البدائية والتخلف. هذا المنطق يُستخدم لتبرير كل الجرائم الإسرائيلية تحت شعارات براقة مثل الدفاع عن الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، فيما يُصوَّر الفلسطينيون والعرب عمومًا على أنهم غير مؤهلين لبناء دولة، ولا يفهمون سوى لغة القوة.

ثم إنَّ هذه النظرة لا تقتصر على الخطاب، بل تتجسد في الممارسة السياسية اليومية: في الدعم العسكري غير المحدود لإسرائيل، وفي التغطية الدبلوماسية على جرائمها في غزة والضفة، وفي تعطيل أي تحرك أممي لمحاسبتها. إنها سياسة قائمة على معادلة راسخة، تتمثل في تفوق "المدني الغربي" مقابل "تخلّف الشرقي"، وعلى أساس هذه المعادلة تُصاغ القرارات وتُبنى المواقف.

لقد أثبتت التجارب أن الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، لا يريد لهذه المنطقة أن تنهض أو تستقر، فالفوضى تخدم مصالحه، والانقسامات تحمي وجود إسرائيل، والضعف السياسي والاقتصادي يفتح الأبواب أمام هيمنته. ومن هنا يمكن فهم تصريحات توماس براك؛ باعتبارها جزء من سياسة إعلامية ودبلوماسية تهدف إلى تكريس صورة العربي ككائن فوضوي لا يعرف الانضباط ولا يستحق السيادة، وبالتالي فهو بحاجة دائمة إلى الوصاية الغربية.

المفارقة أن هذا الخطاب يجد صدى لدى بعض النخب المحلية التي تتبنى المفاهيم الغربية دون وعي بجذورها، فتُعيد إنتاجها داخليًا في شكل جلد للذات وترديد لاتهامات التخلف، متناسية أن جانبًا كبيرًا من هذا الواقع هو نتاج مباشر لتدخلات الغرب نفسه. فالاستعمار القديم رسم حدود الدول بطريقة تُبقي على النزاعات، والسياسة الأمريكية الحديثة دعمت أنظمة استبدادية مقابل ضمان المصالح، ثم عادت لتدين الشعوب حين ثارت على تلك الأنظمة.

إن ما قاله توماس براك ليس إهانة متكررة وكفى- وما أكثر إهاناتنا- بل تلخيص لعقيدة سياسية ترى في منطقتنا حديقة خلفية للمصالح الغربية، وفي شعوبنا أدوات يمكن تحريكها وفق الحاجة. والوعي بهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى لمواجهتها، لأنَّ التصدي للهيمنة يبدأ من إدراك آلياتها الفكرية واللغوية. فالمعركة ليست بالسلاح فقط، بل بالكلمة والمعنى؛ إذ إن من ينجح في تصويرك كفوضوي يُبرر لنفسه كل أشكال السيطرة عليك.

إن استعادة الكرامة السياسية تبدأ من إعادة تعريف الذات، من إدراك أن شعوب المنطقة ليست عشائر مُتناحرة، بل أمم تملك تاريخًا عريقًا وثقافة عميقة وذاكرة نضالية لا تنطفئ. أما أولئك الذين يرون فينا قرى بلا دول، فليتذكروا أن تلك القرى أنجبت حضارات غيّرت وجه التاريخ، وأن تلك العشائر قاومت الغزاة عبر القرون.

الغرب اليوم يملك القوة، لكنه لا يملك الحقيقة، والحقيقة أن الشعوب التي تُهان وتُحتقر، تحمل في داخلها بذور ثوراتها المقبلة، تمامًا كما حملت هذه المنطقة عبر تاريخها الطويل وجعها وإصرارها على الحياة. بقي أن نُذّكر بأن على النخب التي لم تنشغل خلال مرحلتنا الكسيحة هذه، أكثر من انشغالها بجلد الذات، أن تستيقظ وأن تقوم بواجباتها الوطنية الحقة، بدلًا من الندب والضرب على الأكف.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

سنغافورة تبقي على السياسة النقدية دون تغيير مع استمرار قوة النمو

أبقى البنك المركزي في سنغافورة على إعدادات سياسته النقدية دون تغيير اليوم الثلاثاء الموافق 14 أكتوبر، كما كان متوقعا، في حين ظل النمو صامدا على الرغم من التحديات التي تفرضها الرسوم الجمركية الأمريكية.. وفقا لرويترز.
وتوقع عشرة من 14 محللا استطلعت رويترز آراءهم قبل المراجعة أن تبقي هيئة النقد السنغافورية على إعدادات السياسة دون تغيير، في حين توقع الأربعة الآخرون تخفيفا للسياسة النقدية.
وأعلنت سلطة النقد السنغافورية أنها ستحافظ على معدل ارتفاع قيمة عملتها المحلية (الجنيه الإسترليني) السائد ضمن نطاق سياستها النقدية، ولن يكون هناك أي تغيير.

النمو الاقتصادي في سنغافورة أقوى من المتوقع

وقال البنك المركزي في بيان "لقد أصبح النمو الاقتصادي في سنغافورة أقوى من المتوقع وستظل فجوة الناتج إيجابية في عام 2025 وتصل إلى حوالي 0٪ العام المقبل".
قالت الخبيرة الاقتصادية في بنك OCBC، سيلينا لينج، إن الرياح المعاكسة الناجمة عن الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم تكن سيئة كما كان يخشى في السابق.
قال لينج: "مع أن المخاوف المتعلقة بالرسوم الجمركية لا تزال قائمة، إلا أنها تراجعت قليلاً منذ "يوم التحرير" في أبريل، كما استمرت عمليات التحميل المسبق لفترة أطول، وانخفضت الرسوم الجمركية عن مستويات أبريل، وأصبح الاقتصاد الأمريكي أكثر مرونةً بعض الشيء رغم التباطؤ".
وفي مراجعتها الأخيرة في يوليو، أبقت سلطة النقد في سنغافورة سياستها مستقرة، بعد تخفيف مراجعاتها في أبريل ويناير .

الاقتصاد حقق أداء أفضل بنسبة 2.9% في الربع الثالث

وجاء القرار في الوقت الذي أظهرت فيه البيانات الحكومية الأولية الصادرة اليوم، أن الاقتصاد حقق أداء أفضل من المتوقع، حيث نما بنسبة 2.9% في الربع الثالث مقارنة بالعام السابق وأفضل من التوقعات البالغة 1.9%.
وقالت هيئة النقد السنغافورية إن وزارة التجارة ستعلن عن توقعات النمو لعامي 2025 و2026 في نوفمبر.
وتوقعت لينج من بنك OCBC أن يسجل الاقتصاد نموا بنسبة 3% هذا العام، حتى لو تراجع النمو في الربع الرابع إلى أقل من 1% على أساس سنوي.

كان الخبير الاقتصادي تشوا هاك بين من بنك مايبانك أكثر تفاؤلاً، حيث توقع أن يقترب الناتج المحلي الإجمالي من 3.5%، وهو ما يزيد عن "توقعاته المتفائلة بالفعل للناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.2% لهذا العام".

وتخضع صادرات سنغافورة إلى الولايات المتحدة لتعريفة جمركية أساسية بنسبة 10%، وهذه التعريفات أقل من التعريفات المفروضة على جيرانها في جنوب شرق آسيا، إلا أن التعريفات القطاعية، مثل تعريفة 100% على الأدوية ذات العلامات التجارية تُثير القلق.
وفي أغسطس، رفعت الحكومة توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025 إلى ما بين 1.5% و2.5% من 0% إلى 2% بعد أداء أفضل من المتوقع في النصف الأول.

بدلاً من استخدام أسعار الفائدة، تدير سنغافورة السياسة النقدية من خلال السماح للدولار المحلي بالارتفاع أو الانخفاض مقابل عملات شركائها التجاريين الرئيسيين ضمن نطاق تداول غير معلن، والمعروف باسم سعر الصرف الفعلي الاسمي للدولار السنغافوري، أو S$NEER.

مقالات مشابهة

  • سنغافورة تبقي على السياسة النقدية دون تغيير مع استمرار قوة النمو
  • كتاب يُعيد تعريف اللغة والمنطق بوصفهما جوهر الوجود الإنساني
  • ترامب يشتري خبز التشالا الإسرائيلي من متجر شهير في بني براك
  • أنهينا 8 حروب - ترامب من الكنيست: الفوضى التي ابتليت بها المنطقة انتهت تماما
  • الأنبا توماس يترأس المؤتمر الأول لجنود مريم ملكة العالم بكاتدرائية مار جرجس بالجيزة
  • كاتب فرنسي: هكذا تؤثر الشعبوية على السياسة الخارجية
  • جامعة الشارقة بالمركز الثالث عالمياً في النظرة الدولية وفقا لتصنيف التايمز العالمي 2026
  • فيدرا تهاجم نظرة المجتمع للزواج بعد سن معينة: “هو المطلوب تموت؟”
  • خبير شئون عربية: مخطط التهجير كان جوهر الحلم والتفكير الإسرائيلي ولكنه تحطم على صخرة الإرادة المصرية