«الفردة» لكرستينا ملاك.. رمزية الصراع على الحق في محل أحذية صغير
تاريخ النشر: 15th, October 2025 GMT
تطرح المخرجة كرستينا ملاك في فيلمها القصير «الفردة» وهو مشروع تخرجها من مدرسة الجيزويت الثقافى لعام 2024 -2025 ، تأليف حسام رستم، رؤية فنية جريئة تعتمد على البساطة في الشكل والعمق في المعنى، حيث يقدم حكاية تبدو في ظاهرها واقعية عادية، لكنها تنطوي على رموز فلسفية واجتماعية حول الظلم، واللامبالاة، وتبدّل القيم الإنسانية في المجتمع المعاصر.
تدور الأحداث في مكان واحد محدود: محل صغير لتصليح الأحذية. يدخل أحد الزبائن ممسكًا بفردة حذائه الممزقة ليصلحها عند صاحب المحل. وبعد دقائق من الانتظار، يعيد له العامل الفردة مصححة، لكنه يكتشف أنها لم تعد على مقاسه، فيتهم الرجل صاحب المحل بأنه بدّلها عمدًا.
ورغم تصاعد انفعاله وتوتره، يظل صاحب المحل جالسًا في هدوء عجيب، ثابت الملامح والحركة، يتحدث بثقة وهدوء كأن الأمر لا يعنيه، في دلالة رمزية على اللامبالاة والصمت أمام الظلم.
وبينما يحتدم الموقف، يدخل زبون آخر حافي القدمين، يبدو كأنه قادم من الشارع أو من عالم موازٍ، يطلب من صاحب المحل حذاءً جديدًا.
المفاجأة تحدث حين يعطيه الرجل الفردة التي رفضها الزبون الأول، لتناسبه تمامًا كأنها خُلقت له.
وهنا يبدأ صراع الوجود والملكية؛ من يملك الحق في ما يظنه ملكًا له؟ من الأحق بما لا يخصه؟ يتحول الحوار إلى مواجهة، والمواجهة إلى عنف، حتى يهاجم الرجل الحافي الزبون الأول، ويسلبه الفردة الثانية بعد أن يطرحه أرضًا وينزف دمًا.
في تلك اللحظة، لا يتدخل صاحب المحل — رغم أنه الشاهد على الظلم — بل يظل صامتًا في مكانه، وكأن صمته صار مشاركة ضمنية في الجريمة.
يخرج الرجل الحافي منتصرًا بالفردتين، في حين يظل صاحب الحذاء الأصلي مهزومًا ونازفًا، في صورة بصرية مؤلمة تلخص واقعًا يسرق فيه الأقوياء حقوق الضعفاء، ويصمت المجتمع عن الفعل.
وفي المشهد الختامي، يمد صاحب المحل يده للمعتدى عليه، في لقطة قريبة تُظهر يده ملطخة بالدم، لتتحول الصورة إلى رمز مزدوج؛ فهي من جهة تحمل معنى الاعتراف بالذنب أو الندم المتأخر، ومن جهة أخرى إشارة إلى بداية جديدة تولد من الألم والخذلان.
من الناحية الفنية، تعتمد كرستينا ملاك على اقتصاد بصري محسوب بعناية:
الكاميرا ثابتة في معظم اللقطات، مما يعزز شعور المتفرج بالعجز أمام الحدث.
الإضاءة خافتة ومحايدة، تكشف عن قسوة المكان وضيقه، وكأننا في زمن متجمد أو محطة انتظار روحية.
كما أن حركة الممثلين محدودة ومدروسة، لتجعل التوتر يتسلل من خلال النظرات والإيماءات أكثر من الحوار.
أما المونتاج فجاء هادئ الإيقاع رغم تصاعد الصراع، ليمنح المتلقي فرصة للتأمل في المعاني الرمزية. وبرز أداء الممثلين الثلاثة في رسم التناقض بين العدوان والصمت، والضعف والتمرد، لتتحول الحكاية الصغيرة إلى مرآة كاشفة للمجتمع.
في النهاية، يترك «الفردة» للمشاهد مساحة واسعة للتفكير:
هل نحن الحافي الذي يبرر لنفسه السرقة؟
أم المظلوم الذي يفقد حقه تحت ضربات الآخرين؟
أم صاحب المحل الصامت الذي يرى كل شيء ولا يتدخل؟
إنه فيلم قصير في مدته، لكنه كبير في دلالاته، يفتح الباب أمام تساؤلات عن المسؤولية الأخلاقية والسكوت عن الظلم، ويؤكد أن الصمت أحيانًا قد يكون أخطر من الفعل نفسه.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الفردة الفن بوابة الوفد صاحب المحل
إقرأ أيضاً:
فؤاد باشا سراج الدين .. الرجل الذى علم المصريين معنى الكرامة
منذ يومين مرت الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل رجل من أعظم رجال مصر فى القرن العشرين؛ رجل لم يكن مجرد سياسي أو صاحب منصب، بل كان مدرسة كاملة فى الوطنية والعناد الشريف والإصرار على أن تبقى مصر واقفة مهما حاولت قوى الاحتلال أن تكسر إرادتها.
أتحدث هنا عن فؤاد باشا سراج الدين، الرجل الذى ترك بصمة لا تمحى فى الوجدان المصرى، والذى رحل عن عالمنا فى التاسع من أغسطس عام 2000، لكنه لم يرحل يوما عن ذاكرة الوطن.
فى كل مرة تمر فيها ذكرى رحيله، أشعر أن مصر تعيد اكتشاف جزء من تاريخها؛ تاريخ لا يمكن فهمه دون الوقوف أمام شخصية بهذا الثقل وبهذه القدرة على الصمود.
ولد فؤاد باشا سراج الدين سنة 1910 فى كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ، وبدأ مشواره شابا يحمل حلم الوطن فى قلبه قبل أن يحمله على كتفيه.
تخرج فى كلية الحقوق، ودخل معترك الحياة العامة صغيرا فى السن، لكنه كبير فى العقل والبصيرة، وفى سن لم تكن تسمح لغيره سوى بأن يتدرب أو يتعلم، أصبح أصغر نائب فى تاريخ الحياة البرلمانية المصرية، ثم أصغر وزير فى حكوماتها المتعاقبة، فى زمن لم يكن الوصول فيه إلى المناصب بالأمر السهل ولا بالمجاملات.
لكن ما يجعل الرجل يستحق التوقف أمامه ليس كثرة المناصب، بل طريقة أدائه فيها، فقد كان نموذجا للمسؤول الذى يعرف معنى الدولة، ويؤمن بأن خدمة الناس شرف لا يباع ولا يشترى.
ومن يعيش تفاصيل تاريخه يدرك أنه لم يكن مجرد جزء من الحياة السياسية، بل كان جزءا من الوعى العام للمصريين، وصوتا قويا فى مواجهة الاحتلال، وسندا لحركة الفدائيين فى القناة، وواحدا من الذين كتبوا بدموعهم وعرقهم تاريخ كفاح هذا الوطن.
ويكفى أن نذكر موقفه الأسطورى يوم 25 يناير 1952، حينما كان وزيرا للداخلية، ورفض الإنذار البريطانى الداعى لاستسلام رجال الشرطة فى الإسماعيلية.
وقتها لم يتردد لحظة، واختار الكرامة على السلامة، والوطن على الحسابات السياسية، ذلك اليوم لم يصنع فقط ملحمة بطولية، لكنه صنع وجدانا كاملا لأجيال من المصريين، وأصبح عيدا رسميا للشرطة تخليدا لشجاعة رجال رفضوا أن ينحنوا أمام الاحتلال، وهذه الروح لم تكن لتظهر لولا وزير آمن برجاله وبمصر أكثر مما آمن بنفسه.
كما لا يمكن نسيان دوره الحاسم فى إلغاء معاهدة 1936، ودعمه لحركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز، ولا تمويله للفدائيين بالمال والسلاح، كان يعلم أن المستقبل لا يهدى، وإنما ينتزع انتزاعا، وأن السيادة لا تستعاد بالكلام، وإنما بالمواقف.
وفى الداخل، قدم سلسلة من القوانين التى شكلت تحولا اجتماعيا حقيقيا؛ فهو صاحب قانون الكسب غير المشروع، وصاحب قوانين تنظيم هيئات الشرطة، والنقابات العمالية، والضمان الاجتماعى، وعقد العمل الفردى، وقانون إنصاف الموظفين.
وهى تشريعات سبقت عصرها، وأثبتت أن الرجل يمتلك رؤية اجتماعية واقتصادية عميقة، وميلا دائما للعدل والمساواة، وفهما راقيا لطبيعة المجتمع المصرى.
ولم يكن خائفا من الاقتراب من الملفات الثقيلة؛ ففرض الضرائب التصاعدية على كبار ملاك الأراضى الزراعية حين كان وزيرا للمالية، وأمم البنك الأهلى الإنجليزى ليصبح بنكا مركزيا وطنيا، ونقل أرصدة الذهب إلى مصر للحفاظ على الأمن الاقتصادى للدولة، وكلها خطوات لا يقدم عليها إلا رجل يعرف معنى السيادة الحقيقية ويضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار.
ورغم الصدامات المتتالية التى تعرض لها، والاعتقالات التى مر بها فى عهود متعددة، لم يتراجع ولم يساوم، ظل ثابتا فى المبدأ، مؤمنا بالوفد وبالحياة الحزبية، حتى أعاد إحياء حزب الوفد الجديد عام 1978، ليبقى رئيسا له حتى آخر يوم فى حياته، وقد كان ذلك الإحياء بمثابة إعادة الروح لمدرسة سياسية كاملة ترتبط بتاريخ النضال الوطنى الحديث.
إن استعادة ذكرى فؤاد باشا سراج الدين ليست مجرد استدعاء لصفحات من التاريخ، بل هى تذكير بأن مصر لم تبن بالكلام، وإنما صنعت رجالا مثل هذا الرجل، آمنوا أن الحرية حق، وأن الوطنية فعل، وأن الكرامة لا تقبل المساومة.
وفى زمن تكثر فيه الضوضاء وتختلط فيه الأصوات، يبقى صوت أمثال فؤاد باشا أكثر وضوحا، وأكثر قوة، لأنه صوت نابع من قلب مصر، من تربتها وأهلها ووجدانها.
رحل جسد الرجل، لكن أثره باق، وتاريخه شامخ، وسيرته تذكرنا دائما بأن الوطن لا ينسى أبناءه المخلصين وأن مصر، رغم كل ما تمر به، قادرة دائما على إنجاب رجال بحجم فؤاد باشا سراج الدين.