خالد بن سالم الغساني

 

منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945م، ظل حق النقض “الفيتو” سلاحًا حصريًا بيد خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، مما جعل قرارات المجلس رهينة لمصالح هذه القوى الكبرى أكثر من كونها استجابة للإجماع الدولي. في سبتمبر 2025 الجاري، تقدم الرئيس الفنلندي بدعوة غير مسبوقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مطالبًا بإلغاء هذا الحق وإيجاد نظام بديل يقوم على تجميد حقوق التصويت للدول التي تنتهك ميثاق الأمم المتحدة، سواء عبر شنّ حرب عدوانية أو احتلال أو ارتكاب جرائم إبادة.

هذه الفكرة وإن بدت مثالية أو بعيدة المنال في ظل موازين القوى الراهنة، إلا أنها تفتح بابًا واسعًا للتساؤل حول شكل العالم الذي قد ينشأ إذا تم تبنيها فعليًا.

إلغاء الفيتو يعني إنهاء الامتياز التاريخي الذي منح القوى الخمس الكبرى موقعًا استثنائيًا في إدارة النظام الدولي، ما من شأنه أن يحوّل مجلس الأمن من منصة مشلولة في كثير من القضايا إلى مؤسسة أكثر تمثيلًا وعدالة، ففي غياب الفيتو ستتمكن القرارات المتعلقة بالأمن والسلم الدوليين من المرور بأغلبية واسعة، بدلًا من أن تُجهض عند أول اعتراض من دولة واحدة، وهو ما سيعزز قدرة المجلس على الاستجابة السريعة للنزاعات، ويفتح المجال أمام مقاربة أكثر جماعية في مواجهة الأزمات العالمية.

العالم في هذه الحالة سيكون أقل خضوعًا لإرادة القوى الكبرى، وأكثر انسجامًا مع فكرة الشرعية الدولية التي نص عليها الميثاق منذ البداية.

لكن ما هو أبعد من ذلك، أن الاقتراح الفنلندي يضيف بعدًا عقابيًا أو رادعًا، إذ تصبح الدول ملزمة بسلوكيات منسجمة مع الميثاق تحت طائلة فقدان حقوقها التصويتية. مثل هذا النظام سيؤسس لمعادلة جديدة: المسؤولية شرط للعضوية الفاعلة، وليس امتيازًا محصنًا من المساءلة. هنا يكتسب النظام الدولي بعدًا أخلاقيًا مفقودًا، إذ لا يعود العدوان أو الاحتلال محميًا بمظلة الفيتو، بل يصبح سببًا للتهميش والعزلة داخل أهم جهاز أممي. هذا التحول سيُعيد الثقة لدى الشعوب، خصوصًا تلك التي عانت من ازدواجية المعايير، بأن القانون الدولي ليس أداة انتقائية ولا تخضع لرغبات وارادات خاصة، بل أنها قاعدة عامة ملزمة للجميع.

غير أن ذلك الأمر المطروح، وإن كان يحمل وعودًا بتوازن أكثر عدالة، إلا أنه لا يخلو من تحديات. فالقوى الخمس لن تسلّم بسهولة امتيازاتها وقدراتها على تغيير مجرى الأحداث شرعاً، بما يعنيه من تقليص مباشر لنفوذها، وربما بالعودة الى التاريخ سنجد انها قد أظهرت مقاومة عنيدة لأي تعديل يمس صلاحياتها، كما إن تعريف “انتهاك الميثاق” قد يصبح ساحة جديدة للخلاف السياسي؛ حيث قد يتهم البعض الآخر بارتكاب العدوان وفق معايير مزدوجة، مما قد يخلق نزاعات جديدة بدلًا من أن يحلّها. ومع ذلك فإن مجرد إدخال مبدأ التجميد المؤقت للعضوية سيكسر القدسية التي أحاطت بموقع الدول الدائمة، ويفتح المجال لتوازنات جديدة تنبني على المشاركة الواسعة لا على الاحتكار.

 

وإذا تحقق هذا الإصلاح، فإن العالم سيشهد انتقالًا من نظام يستند إلى توازن الرعب السياسي بين القوى الكبرى، إلى نظام أقرب إلى حكم القانون الدولي. حينها ستغدو الأمم المتحدة أكثر قدرة على أن تكون برلمانًا عالميًا حقيقيًا، لا أداة تستخدمها القوى النافذة لشرعنة مصالحها، وفي مثل هذا العالم المتمنى، ستتراجع هيمنة الامتيازات التاريخية لصالح شمولية القرار الدولي، وستجد الدول الصغيرة والمتوسطة وزنًا أكبر في تقرير مصير قضايا الحرب والسلام. وبينما قد يبدو هذا الاحتمال اليوم بعيدًا، إلا أن طرحه يعكس إدراكًا متزايدًا بأن استمرار الوضع الراهن يهدد مصداقية المنظمة الأممية نفسها، وأن الإصلاح لم يعد ترفًا؛ بل شرطًا لبقائها فاعلة في القرن الحادي والعشرين؛ فلنحيِّ فنلندا، الدولة الصغيرة التي امتلكت جرأة تقديم مقترح كبير لصالح الإنسانية جمعاء.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

في غزة عدالة مزدوجة.. تَسَابق إلى انتشال بضع جثث للاحتلال و10 آلاف شهيد تحت الركام لا يُؤبه لهم

#سواليف

بينما ترقد جثامين آلاف الضحايا لحرب الإبادة الجماعية التي شنتها “إسرائيل” على #غزة، منذ عامين، دون أن يكترث أحد بشأن انتشالها، يتحرك العالم للبحث عن #جثث #أسرى #الاحتلال الذين قتلهم جيشه بالقطاع.

فمنذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ في العاشر من أكتوبر الجاري، والذي بموجبه من المفترض أن يتم تسليم جثامين جنود الاحتلال وفقًا لصفقة التبادل، بادرت إدارات للكوارث والطوارئ دولية بالمساهمة في إرسال فنيين في الحفر والإنقاذ للبحث عن جثث #جنود_الاحتلال.

وفي المقابل ما زال أكثر من 9,500 من #جثامين #الشهداء #الفلسطينيين مفقودة غالبيتهم، تحت أنقاض آلاف المنازل والمباني المدمَّرة في مختلف مناطق القطاع، بعضها مرّ عليها عامين.

مقالات ذات صلة فقد الذاكرة ووضعه الصحي حرج.. تدهور خطير على صحة الأسير الشيخ محمد النتشة  2025/10/20

وتشكل الازدواجية في التعامل مع ملف إنساني طارئ، والتمييز في الجثث، طعنة ليست في خاصرة أهالي هؤلاء الضحايا، وإنما في القانون الدولي والإنساني الذي تتغنى به هذه الدول.

ازدواجية مرفوضة

ويقول رئيس الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني “حشد” صلاح عبد العاطي، “إن إرسال فرق الإنقاذ إلى قطاع غزة من أجل البحث عن جثامين الشهداء تحت الأنقاض داخل غزة مرحب به، أما إنشاء آلية فقط من أجل انتشال جثث الأسرى لدى المقاومة فهذا أمر يظهر إزدواجية المعايير”.

ويضيف لوكالة “صفا”، هذا الأمر يُظهر تغييب مبادئ المساواة والعدالة، في أن الفلسطينيين يستحقون الأفضل ويستحقون استجابة سريعة ‏وضمان لفتح المعابر وإدخال كافة المعدات لانتشال جثامين شهداءهم الذي يبلغ عددهم ما يقارب 10,000 تحت الركام.

ولذلك يشدد على ضرورة تعزيز عمليات التعافي بغزة وإعادة الإعمار، وضمان ‏تقديم كافة احتياجات سكان القطاع، وفي ذات الوقت ضمان إلزام “إسرائيل” بتعويض الفلسطينيين عما لحق من جرائم من جراء ممارسات حرب الإبادة الجماعية.

ويستدرك عبد العاطي: “إن لم يتحقق ذلك سنكون أمام إزدواجية معايير، ففي الوقت الذي يطالب العالم روسيا بتقديم تعويضات إلى أوكرانيا وتحويلها إلى أوكرانيا، لا يتم الحديث عن هذا الأمر اتجاه إسرائيل”.

ويؤكد أن اتفاق وقف النار لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يغيب العدالة، بكل مكوناتها الجنائية والمدنية، لمحاسبة قادة الاحتلال وضمان أن تتحمل “إسرائيل” مسؤولية جرائمها.

أكثرها إيلاماً

من جانبه، يقول رئيس المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إسماعيل الثوابتة، إن ملف جثامين الشهداء المفقودين تحت الأنقاض يمثل أحد أكثر الملفات الإنسانية إيلاماً وتعقيداً.

ويفيد لوكالة “صفا” بأن أكثر من 9,500 من جثامين الشهداء الفلسطينيين ما زالت مفقودة غالبيتهم تحت أنقاض آلاف المنازل والمباني المدمَّرة في مختلف مناطق قطاع غزة، نتيجة القصف العنيف والتدمير الممنهج الذي نفّذه الاحتلال خلال حرب الإبادة الجماعية.

ويضيف “ورغم الجهود المتواصلة التي تبذلها طواقم الدفاع المدني ووزارة الصحة والفرق الإنسانية الأخرى، إلا أن الحصار ونقص المعدات والإمكانات يحول دون انتشال جميع الجثامين”.

ويشير إلى أنه في الوقت الذي تبذل فيه الجهود لانتشال جثث أسرى الاحتلال الذين قتلهم جيشه، مازال آلاف الشهداء تحت الركام، معظمهم من العائلات الكاملة التي أُبيدت داخل منازلها، وغالبيتهم من الأطفال والنساء.

ويؤكد الثوابتة استمرار الاحتلال في منع إدخال المعدات الثقيلة اللازمة لعمليات البحث والانتشال.

وإزاء ذلك، تعمل الطواقم الميدانية، رغم محدودية الإمكانيات، على متابعة هذا الملف بجهود حثيثة وبالتنسيق مع الجهات المختصة، ولكن لا يوجد نتائج فعلية، وفق الثوابتة.

وينوه إلى أن المكتب على تواصل مع عائلات الشهداء المفقودين، ويستمع إلى مناشداتهم اليومية التي تعبّر عن ألمهم الإنساني العميق، وهم يطالبون بتمكين فرق الإنقاذ من انتشال جثامين أحبّتهم ودفنهم بما يليق بكرامتهم الإنسانية.

ويبين أنه يتم في كل مرة توضيح المعيقات للأهالي، والتي يضعها الاحتلال أمام الفرق الإنسانية العاملة في هذا الملف.

وبشأن معظم الجثامين التي تحت الأنقاض، يقول الثوابتة إنها تعود لسكان مدنيين، غالبيتهم من الأطفال والنساء وكبار السن، إلى جانب عدد من الطواقم الطبية والإعلامية والإغاثية التي استُهدفت أثناء أداء واجبها الإنساني.

ويحمل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن استمرار هذه المأساة، مؤكدًا أن إعاقة عمليات الانتشال تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني وامتداداً لسياسة الإبادة الجماعية الممنهجة في غزة.

ومنذ أكتوبر للعام 2023 ترتكب دولة الاحتلال الإسرائيلي بدعم أمريكي، حرب إبادة جماعية وجريمة تجويع، أدت لاستشهاد ما يزيد عن 62 ألف شهيد، بالإضافة لما يزيد عن 160 ألف إصابة، وما يقارب 9 آلاف مفقود تحت الأنقاض.

مقالات مشابهة

  • أستاذ علاقات دولية: القمة المصرية الأوروبية تؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات بين القاهرة وبروكسل
  • الرياض تستقبل أكثر من 3000 رياضي يمثلون 57 دولة.. اعتماد جدول منافسات «التضامن الإسلامي»
  • تقرير.. إدارة ترامب تحاول منع نتنياهو من إلغاء اتفاق غزة
  • في غزة عدالة مزدوجة.. تَسَابق إلى انتشال بضع جثث للاحتلال و10 آلاف شهيد تحت الركام لا يُؤبه لهم
  • روسيا: نعمل على بناء نظام عالمي أكثر عدلًا
  • بتصميم متين وأداء رائع.. ون بلس تغزو الأسواق بسلسلة هواتف جديدة إليك أهم مواصفاتها
  • اختتم مشاركاته في اجتماعات دولية موسعة ..الجدعان: ضرورة بناء نظام مالي عالمي أكثر ابتكاراً واستدامة
  • “وول ستريت جورنال”: واشنطن تخطط لعقد اجتماعات مع موسكو قبل قمة بودابست أكثر من التي سبقت قمة ألاسكا
  • أستاذ قانون دولي: الانتهاكات الإسرائيلية تهدد الاتفاق.. وفرص إنقاذه قائمة بالضغط الدولي