لا تزال مدينة عدن، العاصمة السياسية المؤقتة وأهم مدن جنوب اليمن، تعاني استمرار ظاهرة القتل المنفلت والاختطافات التي تتزامن مع تضييقٍ انتقائيٍّ على السكان بدوافع مناطقية، تدفع محافظةُ أبين المجاورة ثمنَه الأكبر، إلى جانب التداعيات الخطيرة للتوطين الماكر للإرهاب في هذه المحافظة المجاورة لعدن، والتي خرج منها ثلاثة رؤساء جمهورية للجنوب واليمن.



لا يود المرء أن يتتبع خطوط الصدع التي تفصل بين قوى النفوذ الحالية في عدن، وهي قوى تتطابق في هوياتها المناطقية مع تلك التي هيمنت على المدينة في عقد الثمانينيات، وشهدت تنافسا خطيرا أدى إلى اندلاع أحداث الثالث عشر من كانون الثاني/ يناير 1986.

الجديد أن هذه القوى تفتقد إلى الاستقلالية وتخضع لدولةٍ أوسع نفوذا من الاتحاد السوفييتي السابق؛ تتحكم بخيوط اللعبة، وقد بات بمقدورها أن تحرك الجماعات السياسية والعسكرية في عدن كالدمى، وتُبقي على التنافس عالي الكلفة فيما بينها ضمن المستوى المسيطر عليه. إنها الإمارات إذ تعيد توظيف ورقة الإرهاب في المحافظات الجنوبية لليمن بطريقة تتفق مع طموحاتها الجيوسياسية، إلى حدٍّ تحولت معه هذه الورقة إلى أداة تحكم هائلة في توجيه مسار الأحداث في جنوب اليمن، والضغط على المستوى الداخلي، وتأمين الذرائع لاستمرار الهيمنة في ظل تفهُّمٍ كاملٍ من المجتمع الدولي.

إنها الإمارات إذ تعيد توظيف ورقة الإرهاب في المحافظات الجنوبية لليمن بطريقة تتفق مع طموحاتها الجيوسياسية، إلى حدٍّ تحولت معه هذه الورقة إلى أداة تحكم هائلة في توجيه مسار الأحداث في جنوب اليمن، والضغط على المستوى الداخلي، وتأمين الذرائع لاستمرار الهيمنة في ظل تفهُّمٍ كاملٍ من المجتمع الدولي
ساهم وصول الرئيس عبد ربه منصور هادي، المنحدر من محافظة أبين، إلى سدة الحكم في الجمهورية اليمنية، في أعقاب ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011، التي أطاحت بالرئيس علي عبد الله صالح، في إبقاء المحافظة الجنوبية جزءا من المعسكر الوحدوي، تماما كما كانت إبان حرب صيف عام 1994، حينما انخرطت القوات المنتمية إلى أبين وجارتها شبوة، النازحة إلى شمال البلاد بعد أحداث شتاء 1986، في الجهد العسكري، بل كانت رأس الحربة في المعركة التي انتهت في السابع من تموز/ يوليو 1994 بإفشال الانفصال.

وقبل أن يصبح عبد ربه منصور هادي رئيسا منتخبا في شباط/ فبراير 2012، كان صالح قد وضع أمامه تحديات عديدة، أهمها إفساح المجال للانفصاليين لاحتكار المجال العام في عدن، أما أخطرها فتمثل في تسليم محافظة أبين لتنظيم القاعدة، حيث تأسست دولة أنصار الشريعة، وهي الخطوة التي شكّلت بداية التوظيف السياسي والأمني واسع النطاق لتنظيم القاعدة في دوامة الصراع السياسي التي عصفت بالبلاد.

وكان تنظيم القاعدة قد تواجد في أبين بشكل متدرج منذ ما قبل التسعينيات، ومعظم عناصره شاركوا في الجهاد الأفغاني، حيث اتخذ من المناطق الوعرة والنائية الواقعة في محافظة أبين ملاذا له، تحكمه الرغبة في أن يصبح نواة "جيش عدن-أبين"، الذي ورد ذكره في حديثٍ مرويٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونصه: "يخرج من عدن أبين اثنا عشر ألفا، ينصرون الله ورسوله، هم خيرٌ من بيني وبينهم".

ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى المسألة إلا في سياق مخططٍ مدروسٍ لتوطين هذه العناصر واستعمالها منذ وقتٍ مبكرٍ في الضغط على الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في عدن آنذاك. وقد رأينا كيف تورطت هذه العناصر في عملياتٍ إرهابية طالت سياحا أجانب، ونُسبت إليها اغتيالاتٌ طالت عددا من قيادات الحزب بعد تحقيق الوحدة، وكانت سببا مباشرا في تصاعد أعمال العنف إلى حد الصراع الشامل والحرب في صيف عام 1994.

تعزيز سيطرة الحوثيين على كامل محافظة البيضاء الواقعة إلى الشمال من محافظة أبين، وتأسيس خطِّ هدنةٍ انفصاليٍّ بينهما، وإنشاء مجالٍ للتواصل والتخادم بين الحوثيين والقاعدة، على نحوٍ يُبقي المجال أمام تأويلاتٍ مشروعةٍ للنشاط السياسي والاقتصادي والاستثماري السري الذي تديره الإمارات في محافظة أبين وبقية محافظات جنوب اليمن
واليوم، تسعى الإمارات إلى تسويق المجلس الانتقالي والمشروع الانفصالي، في خضم ادعاءاتٍ لا تتوقف عن خطر تنظيم القاعدة، وعن تمركز عناصره في منطقتين رئيستين في محافظة أبين، هما وادي عويمران ووادي موجان. والمحصلة المباشرة هي وضع محافظة أبين وأهلها تحت ضغطٍ أمنيٍّ مفتوحٍ يتسبب بشللٍ واضحٍ لموقفهم الوطني الوحدوي.

إن إعادة التوطين السياسي للقاعدة في أبين يتسبب في أثمانٍ باهظةٍ تدفعها هذه المحافظة جراء بقاء النشاط القاعدي فيها، وسط معلوماتٍ ذات مصداقيةٍ تتحدث عن وجود تخادمٍ سمح لعناصر القاعدة المزعومين بامتلاك أحدث الأسلحة، وحوّلهم إلى طرفٍ مكافئٍ في معارك عبثيةٍ يسقط فيها ضحايا محسوبون على ما يُعرف بـ"القوات المسلحة الجنوبية"، لإضفاء بعض المصداقية على هذه المعارك.

الإعلام الإماراتي، وذلك المحسوب على الانتقالي، يتحدثان بشكلٍ مركزٍ هذه الأيام عن تحالفٍ بين جماعة الحوثي وتنظيم القاعدة، وهي صيغةٌ من تحالف النقائض لا يمكن تفسيرها إلا بأنها تتم بين عناصر يتم التحكم بها بشكلٍ جيدٍ من جانب الحوثيين والإمارات، في استمرارٍ لسياسة نظام صالح في إنتاج هذا النوع من العناصر الإرهابية الهجينة.

إن إفشال جهود المقاومة المدعومة من السلطة الشرعية في محافظة البيضاء، وتشديد الحصار عليها، ومنع الإمدادات المادية والتسليحية عنها، وحرمان جرحاها من تلقي العلاج، كان مدفوعا بالرغبة في تعزيز سيطرة الحوثيين على كامل محافظة البيضاء الواقعة إلى الشمال من محافظة أبين، وتأسيس خطِّ هدنةٍ انفصاليٍّ بينهما، وإنشاء مجالٍ للتواصل والتخادم بين الحوثيين والقاعدة، على نحوٍ يُبقي المجال أمام تأويلاتٍ مشروعةٍ للنشاط السياسي والاقتصادي والاستثماري السري الذي تديره الإمارات في محافظة أبين وبقية محافظات جنوب اليمن.

x.com/yaseentamimi68

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه اليمن الإمارات الانفصال القاعدة الحوثيين اليمن الإمارات الحوثيين القاعدة انفصال سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی محافظة أبین جنوب الیمن فی عدن

إقرأ أيضاً:

مدرسة الأحلام تبدأ من النشاط

هل تخيلت يومًا أن يستيقظ الطالب صباحًا متحمسًا للذهاب إلى المدرسة؟
أن يترك هاتفه بإرادته، ويستعد ليوم ملىء بالحركة، والضحك، والمفاجآت؟
قد يبدو هذا المشهد خياليًا فى بعض المدارس، لكنه أصبح واقعًا حيًا فى مدارس أضاءت طريق التعليم بروح جديدة — مدارس جعلت الأنشطة التربوية والانضباط الإيجابى سرّ الجاذبية، لا الحصص وحدها.
الفكرة بسيطة لكنها ثورية:
المدرسة لا تُحَب إلا إذا أحبّت الحياة داخلها. لذلك، لم تعد الأنشطة التربوية مجرد فقرات فى جدول مهمل، بل تحوّلت إلى روح المدرسة التى تمنحها البهجة والمعنى والانتماء.
فى مدرسة الشهيد محمود مجدى الإعدادية بنين تجلّت التجربة بصورة مبهرة فى الجمع بين الانضباط والمتعة.
فقد نجحت إدارة المدرسة فى تحويل طابور الصباح إلى منصة للتعلم والمنافسة الإيجابية، حيث أُضيفت فقرة يومية بعنوان «المعلومة الجديدة»، يتابعها الطلاب بشغف، ثم تُطرح أسئلة حولها، وتُمنح جوائز رمزية لمن يجيب بشكل صحيح.
بهذا الأسلوب البسيط، زرعت المدرسة فى الطلاب حب المعرفة والانتباه، وربطت الحضور الصباحى بالمكافأة والتميز.
كما اهتمت المدرسة بالنشاط الرياضى، ففتحت الملاعب للطلاب بعد اليوم الدراسى، ونظمت مباريات ودّية بين الفصول، جعلت روح الفريق والتنافس الشريف تملأ أجواء المدرسة.
أصبح الانضباط عادة، والغياب استثناء، لأن الطلاب وجدوا فى المدرسة بيئة حيوية تكرم حضورهم وتحتفى بجهدهم.
ولم تتوقف الفكرة عند حدود المدرسة فقط، بل امتدت إلى الإدارة التعليمية نفسها. فقد بادرت الإدارة بتنظيم دورى كرة قدم بين المدارس، مع جوائز وكؤوس للفِرق الفائزة، فى أجواء مفعمة بالحماس والروح الرياضية. ولم يكن الهدف فقط اللعب، بل تعزيز الالتزام والانتماء، لذلك أعلنت الإدارة قرارًا حاسمًا:
«لن يشارك أى طالب يتجاوز غيابه عشرة أيام». بهذا القرار الذكى، ربطت الإدارة بين الانضباط والمكافأة، وبين الحضور والفرصة، فصار الطلاب أكثر حرصًا على التواجد والمشاركة.
أما فى مدرسة الشهيد أحمد عبدالباسط الثانوية بنات فقد حدثت تجربة مدهشة جعلت البنات لا يتغيبن عن المدرسة يومًا واحدًا! السر؟ بيئة تعليمية تشبه ورشة إبداع حيّة.
فى كل ركن نشاط: فريق موسيقى يعزف الأمل، معرض فنى يعرض لوحات الطالبات، مسابقات ثقافية تشعل الحماس، وحوارات مفتوحة تنمّى الفكر والجرأة على النقاش.
هنا لم تعد المدرسة مكانًا للتلقى، بل مسرح للحياة بكل ألوانها.
التربية البيئية والمجتمعية: تعليم بالممارسة لا بالكلام
من حملات النظافة إلى زراعة الأشجار، من العمل التطوعى إلى المشاركة فى احتفالات وطنية…
يتعلم الطلاب كيف يكونون مواطنين حقيقيين، يفكرون فى غيرهم، ويعتزون بمكانهم ومدرستهم ووطنهم.
النتيجة؟
المدارس التى كانت تشكو من الغياب أصبحت تمتلئ بالحضور والنشاط.
الطلاب يأتون لأنهم يريدون لا لأنهم مجبرون.
المعلمون وجدوا فى هذه الأجواء طاقة جديدة، أعادت لهم متعة المهنة وشغف الرسالة.
هذه النماذج من مدارسنا تؤكد أن الأنشطة ليست ترفًا، بل جوهر التعليم الحقيقى.
فمن خلالها يتعلم الطالب القيم، والمواطنة، والتعاون، والإبداع… دون أن يشعر أنه فى «حصة دراسية»، بل فى رحلة حياة.
السر بسيط: حين يشعر الطالب أن المدرسة مكان يصنع فيه ذاته، لن يغيب عنها يومًا.
كيف نعمم هذه التجربة فى باقى المدارس؟
لتصبح مدارسنا كلها نابضة بالحياة مثل «الشهيد محمود مجدى» و«الشهيد أحمد عبدالباسط»، علينا أن نغيّر نظرتنا إلى النشاط التربوى من «كماليات» إلى «أساسيات».
أن نمنح المعلمين حرية الإبداع، ونوفر للمدارس الدعم اللازم لتنفيذ أفكار جديدة، وأن نُشرك أولياء الأمور والمجتمع المحلى فى الأنشطة. حينها فقط، لن يكون التعليم مجرد دروس وكتب، بل حياة متكاملة يعيشها الطالب بشغف، ويتخرج منها لا بشهادة فقط، بل بشخصية قوية، منضبطة، ومبدعة. وهكذا نصنع جيلًا لا يذهب إلى المدرسة لأن عليه أن يذهب. بل لأنه يريد أن يذهب.

مقالات مشابهة

  • القاعدة تكشف لأول مرة عن وجوه إماراتية ضمن قيادتها داخل اليمن
  • رئيس وزراء ماليزيا: اتفاقية التجارة المحسنة ستُعزز القاعدة الاقتصادية لدول آسيان
  • مقتل 3 أشخاص في اشتباكات مسلحة في أبين
  • 5 خطوات لعلاج الكسل في العبادة
  • مفتي القاعدة السابق يحكي عن سنواته الـ5 الأولى في سجون إيران
  • أبين.. تكتل الأحزاب يُحذر من انهيار أمني وخدمي شامل ويطالب بـ"خارطة طريق" عاجلة
  • قتلى ضحايا الاشتباكات القبلية في أبين واتهامات للمحتل بتغذية الصراع
  • مدرسة الأحلام تبدأ من النشاط
  • أبين.. وفاة طفل غرقًا في مديرية خنفر