دعوة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، بالأمس للعودة إلى علم الاستقلال تأتي في لحظة مهمة تعكس تلاقي الأزمات السياسية والأمنية والاجتماعية في بلادنا .

هذه الخطوة تُعد مؤشرًا على اتجاهات إعادة ضبط المشهد الوطني، واستدعاء لحظة التأسيس الأولى للدولة كمرجعية راسخة لإعادة بناء سودان جديد، في ظل هشاشة الأحزاب السياسية واستمرار خطاب الانقسامات والكراهية الذي أضعف قدرة القوى المدنية على إدارة المرحلة الانتقالية، التي اعقبت سقوط حكم البشير 2019 .

علم الاستقلال بألوانه الثلاث: الأزرق والأصفر والأخضر، الذي رُفع في العام 1956، يتحول بحسب حديث البرهان إلى أداة لإعادة توحيد الهوية الوطنية، وتجسيد قدرة الجيش على ملء الفراغ السياسي وإعادة ترتيب الدولة. في توقيت يراه كثير من المراقبين مناسب و استراتيجي إذ أن للإعلان ارتباط مباشر بالحدث الذي سبقه والظروف المتعلقة بالانتقال التي تعيشها البلاد : تأبين شهداء حركة جيش تحرير السودان، والمعركة الجارية ضد مليشيا الدعم السريع، “معركة الكرامة”، وشعور السودانين أنهم يقاتلون وحدهم. في هذه المواجهة الوجودية، التي و صفها فولكر تورك، المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، “أنها حرب بالوكالة تُخاض للسيطرة على الموارد الطبيعية للسودان” .

في هذا السياق المهم ، يتحول حديث البرهان إلى رسالة في عدة اتجاهات، داخليًا: تعزيز وحدة الدولة وإعادة تأكيد دور الجيش كمؤسسة قادرة على قيادة المرحلة الانتقالية وحماية السيادة الوطنية .

خارجيًا: للقوى الإقليمية والدولية بأن الجيش هو الضامن الوحيد لوحدة السودان واستقلاله، وأن أي تهديد للمؤسسات الوطنية سيُواجَه بحسم.

هذه الدعوة تحمل رؤية واضحة لطبيعة الدولة التي يسعى الجيش لتأسيسها: دولة مركزية قوية، مؤسساتها متماسكة، قادرة على فرض الأمن وإعادة ضبط العلاقة بين السلطة والمواطن، بعيدًا عن المحاصصات الحزبية والانقسامات التاريخية. الجيش في هذا السياق، ضامن للأمن والاستقرار، وفاعل رئيس في إعادة بناء الدولة من الأساس، وتحويل رمزية العلم التاريخية إلى مشروع عملي لإعادة بناء مؤسسات الحكم. لذلك من المهم الانتباه لهذه اللحظة التاريخية والشروع الفوري في استكمال هياكل السلطة الانتقالية بقيام المجلس التشريعي، لأنه أحد أدوات حماية هذا التأسيس.

كما أن دعوة البرهان تتضمن إعادة ضبط معنى الشرعية الوطنية. فالخطوة ربما ينظر لها البعض أنها حنين إلى الماضي، لكنها محاولة لإعادة إنتاج الدولة الوطنية الجامعة التي توحد الشعب بعيدًا عن الانقسامات الحزبية الصراعات الداخلية و الابتزاز الإقليمي والدولي.

الرسالة باتت واضحة: المرحلة المقبلة لن تُبنى على التسويات الهشة وتقاسم الغنائم على حساب السودانيين، بل على مشروع وطني متجذر قادر على ضبط الأمن، وإعادة هيكلة الدولة، وصياغة هويتها الوطنية .

لذلك العودة إلى علم الاستقلال بمثابة استدعاء لمنصة التأسيس الأولى، التي يمكن أن تصبح قاعدة لإعادة صياغة الدستور، والمؤسسات، والهياكل الإدارية، بما يعيد السودان إلى موقعه الطبيعي كدولة موحدة ذات سيادة .

على المستوى الإقليمي، تُقرأ هذه الخطوة كإشارة قوية للدول التي تتابع تطورات المشهد السوداني: الجيش مستعد لإعادة الدولة إلى مركزها الطبيعي وهويتها الوطنية القديمة، وضبط الوضع الداخلي، وحماية السيادة في مواجهة التدخلات الخارجية.

بعض الدول الداعمة لاستقرار السودان ستراها تأكيدًا على قدرة الجيش على قيادة المرحلة الانتقالية، بينما ستتعامل قوى أخرى معها بحذر، باعتبارها جزءًا من معركة الشرعية وإعادة ترتيب النفوذ الداخلي والخارجي.

أما المجتمع الدولي، فسيراقب الخطوة بوصفها مؤشرًا على توجه القيادة الحالية نحو توحيد خطاب الدولة واستعادة رموزها التأسيسية، لكنه سيظل حذرًا إلى أن تظهر مؤشرات ملموسة على الانتقال و إعادة بناء مؤسسات الدولة واستقرارها.

نجاح دعوة الرئيس البرهان، إذن، لا يرتبط بالعلم في ذاته، بل بمدى قدرة هذه الرمزية على التحوّل إلى مشروع وطني متكامل يعيد السودان إلى منصة تأسيسه، ويعيد صياغة قواعد اللعبة السياسية داخليًا وخارجيًا.

غير أن قوة العلم كرمز لوحدة الشعب بالتأكيد ليست مطلقة. فتجربة السودان، كما تجارب الشعوب الأخرى، تُظهر أن العلم يكتسب معناه السياسي والأخلاقي عندما يتصل بالواقع: بقدرة الدولة على حماية المواطنين، وبمصداقية مؤسساتها، وبوجود سردية وطنية مشتركة تتجاوز الانقسامات الإثنية والمناطقة. علم الاستقلال استدعاء للذاكرة المشتركة وللحظات التأسيس الأولى التي اجتمع فيها السودانيين على طرد المستعمر وقيادة شعبهم، بعيدا عن الطامعين والمخذلين.

بحسب #وجه_الحقيقة، فإن إعلان البرهان العودة إلى علم الاستقلال، هي جزء من مشروع استراتيجي لقراءة الأزمة السودانية بعمق، واستثمار الرمزية التاريخية كأداة لتوحيد الدولة، وإعادة بناء مؤسساتها، وحماية سيادتها ومواردها، في مواجهة التحديات الداخلية والأطماع الخارجية وذلك ما يفرض علي الجيش قيادة مرحلة جديدة برؤية واضحة لمسار السودان نحو دولة مستقلة وموحدة. فالعلم وحده لا يصنع الوحدة، لكنه يصبح أداة فاعلة حين يتصل بالفعل السياسي والاجتماعي العادل .
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 2 ديسمبر 2025م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

Promotion Content

أعشاب ونباتات           رجيم وأنظمة غذائية            لحوم وأسماك

2025/12/04 فيسبوك ‫X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة ولن ترضى عنك أمريكا ولا الإمارات حَتَّىٰ… !!2025/12/04 إسحق أحمد فضل الله يكتب: (بعيداً عن الجِدال… السودان المسلم هو..)2025/12/04 لو أنفقتم ما في الأرض جميعاً2025/12/04 الإبادة الثقافية2025/12/03 المصرية السودانية ومحاولات تأسيس جديد لمفهوم العلاقة بين البلدين2025/12/03 إبراهيم شقلاوي يكتب: زحام المبعوثين والبنك الدولي2025/12/03شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ويالها من ذكرى) 2025/12/03

الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: علم الاستقلال إعادة بناء

إقرأ أيضاً:

إبراهيم النجار يكتب: في يوم التضامن العالمي .. هل انتصر العالم للشعب الفلسطيني؟!

يأتي اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. في وقت تتقاطع الساحات، ويتحرك المشهد الإقليمي، علي ايقاع نار لا تهدأ. من غزة المحاصرة، إلي الضفة المشتعلة. اقتحامات ودمار واسع وحظر تجوال شامل. والمستوطنون يمارسون إرهابهم بلا رادع. المنطقة أمام مواجهة مفتوحة. والعدو لم يخرج من المعركة. بل يتهيأ لجولة جديدة. فاعليات حاشدة في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، في عواصم أوروبية وعالمية. هل تشكل هذه الصحوة نقطة تحول في مواجهة محاولات تصفية القضية الفلسطينية؟ جرائم الاحتلال في فلسطين، تعريه أمام المحتمع الدولي، ما الذي حققته التضحيات الكبيرة، والتحركات الشعبية الداعمة حول العالم؟


تضحيات هائلة لما يزيد علي عامين، عمقتها حرب الإبادة في غزة. وتشبث بالأرض، يواجه تسريع خطوات الضم والقضم في الضفة الغربية. تثمر تحولا يعيد وضع فلسطين وقضيتها في صدارة المشهد العالمي. من تصاعد حراك الجامعات الأمريكية والأوروبية، المؤيدة لفلسطين. إلي الهبوط القياسي في نسب التعاطف مع إسرائيل. الموثقة باستطلاعات الرأي، حتي في الولايات المتحدة.

 وليس إنتهاء بالمشاركة الحاشدة في فاعليات اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. مسار يعيد لفلسطين وقضيتها، الحضور في وجدان الشعوب. في عواصم أوروبية وعالمية، تتمظهر رسالة التضامن، تعاطفا مع الشعب الفلسطيني، وتأييدا لحقوقه المشروعة، في يومه العالمي. لتقطع الطريق علي محاولات تصفية قضية، بأبعادها السياسية والاخلاقية والإنسانية. التضامن الشعبي مع فلسطين. شكل رافعات ضغط علي الحكومات، فرضت تحولا سياسيا، إلي حد تجاوز تحفظات بعض الدول. وصولا إلي الاعتراف بدولة فلسطين. ليصل عددها إلي 157، وهو ما يتجاوز 80 بالمائة، من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. التضامن الشعبي، والتحول السياسي. ترافق مع تصاعد المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية، والادانات والملاحقات القضائية، لقادة الاحتلال. 

يأتي ذلك فيما تتراجع فرص تقدم مشروع التطبيع. أمام الهجمة الشرسة للاحتلال، جيشا ومستوطنين، علي الضفة، من شمالها إلي جنوبها. لقطع الطريق علي قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. فيما حكومة الاحتلال، تحاول قطع الطرق، علي التفاعل الدولي المتزايد مع الشعب الفلسطيني. فهل تنجح بعد كل ما حدث؟

طباعة شارك الشعب الفلسطيني غزة حرب الإبادة

مقالات مشابهة

  • المجلس الاجتماعي سوق الجمعة يستنكر الخيانة الوطنية التي تمثلت في تفريط حكومة الدبيبة في سيادة ليبيا وقضائها
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: زحام المبعوثين والبنك الدولي
  • بحضور محافظ الدقهلية.. موعد عزاء الحاجة «سبيلة» التي تبرعت بذهبها وأموالها لصندوق تحيا مصر
  • إبراهيم النجار يكتب: في يوم التضامن العالمي .. هل انتصر العالم للشعب الفلسطيني؟!
  • تغيير علم السودان.. هروبٌ إلى الأمام
  • رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات: بطلان وإعادة الانتخابات يؤكدان حرص الدولة على صيانة إرادة الناخبين
  • عاجل .. البرهان : أي حل او مبادرة لا تضمن تفكيك الدعم السريع وتجريدها من السلاح مرفوض ويدعو لاعادة صياغة الدولة السودانية من جديد
  • البرهان: السودان يحتاج إلى إعادة صياغة الدولة من جديد
  • البرهان يقترح العودة لعلم السودان القديم