ما الكلِم إن لم يكن نثرا وما البيان إن لم يكن سحرا وما الشجن إن لم يكن نغما يُتلى على وتر، ومن نحن إن لم نكن حنينا أبديا للفردوس الخارجين منها عنوة. هذا ما تفعله الكلمات فينا حين تمتزج المفردة باللحن، وحين تفرد المعاني أجنحتها للتحليق بعيدا. هكذا انبجست الكلمات بعد الأمسية الشعرية والفنية التي أقيمت الأسبوع الماضي في مجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه بصلالة ضمن فعاليات موسم ظفار الثقافي والرياضي 2023.
«سأمسح هذه الدموع
التي تهطل على خديكِ
سوف آوي إلى ركن شديد
لأتمكن من العبور
إلى مرافئ حزنك النبيل
في منتصف الليل
حين ينعس القمر الساهر
تجوب الطرقات والمسالك
بين الأتربة وحوافي الطين الأزرق
بلون القلق المتماسك
بين أنياب الذكرى والحنين
وكما تفعل الراعيات القديمات
وقد تمنطقت بالأتعاب حول خصرها
عقصت شعرها بالخمار
في الهزيع الأخير من الليل
حين تلتف البتلات بقطر الندى».
أما الشاعر المصري وعازف العود أحمد الواحي، فقد كان اكتشافا جميلا لي شخصيا والجمهور، وتفاجأت أنه مقيم في صلالة منذ عدة سنوات، هو القادم من واحات مصر الغربية محملا بروح البدوي الأصيل وأضاف لها إبداعا على دندنة العود وشجن اللحن المصري وبلاغة الكلمات. سرني الأمر حين تحققت أمنية شخصية بمشاركة المبدعين العرب المقيمين في السلطنة في الفعاليات الثقافية، لأن الثقافة مظلتنا التي نستظل بها جميعا من عُمان إلى المغرب، ومساهمة المقيمين العرب يُعزز من التفاعل بين الأشقاء ويجوّد الإنتاج الثقافي الأدبي والفني.
يبقى عزوف الجمهور عن حضور الفعاليات الثقافية العنوان الأبرز لكل مناسبة، رغم الترويج المسبق للأمسية إلا أن الجمهور لم يحقق التوقعات، وخاصة الكتاب والأدباء والفنانين ممن يبحث عن بيئة ومساحة يلتقى فيها مع شركاء الفكر والإبداع، قد نبرر غياب الجمهور بسبب هطول الفعاليات في صلالة كالرذاذ خلال الفترة الماضية إلى درجة التشبع ربما، وهذا الأمر يحتاج إلى وقفة تنظيمية بحيث لا يكثر العرض ويقل الطلب. صحيح أن الفعاليات الثقافية في أي مكان لها جمهورها النخبوي إن صح القول، ولكن السؤال المطروح أين النخبة؟ وما مبرر غيابها عن المشاركة، إذ تحولت إلى ظاهرة ليس في السلطنة فحسب بل في دول عربية أخرى ذات كثافة سكانية أكثر وتتواجد بها مرافق ثقافية وعلمية عديدة، فعلى سبيل المثال حضرت ذات مرة ندوة ثقافية في إحدى الدول العربية لكاتب عربي معروف، فلم يحضر إلا الضيف ومقدم الأمسية وكاتب هذه الأسطر. وأُجلت الفعالية نتيجة لغياب الجماهير. كان جمهور أمسية نثر على وتر متفاعلا مع النغمات والكلمات إلى درجة أنهم تمنوا مواصلة العزف وإلقاء النثر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الفعالیات الثقافیة
إقرأ أيضاً:
زينات علوي.. راقصة الهوانم وصديقة النخبة الثقافية
في ذاكرة الزمن الفني الذهبي، تُضيء أسماء كثيرة، لكن بعض الأسماء لا تكتفي بالتألق على خشبة المسرح أو في لقطات السينما، بل تمتد لتلامس روح الثقافة والفكر، واحدة من هؤلاء كانت الراقصة زينات علوي، التي تحل اليوم ذكرى ميلادها، فهي لم تكن مجرد راقصة شرقية بارعة، بل ظاهرة فنية وإنسانية نادرة، استطاعت أن تحتل مكانة خاصة في قلوب المثقفين والكُتّاب الكبار، في زمن كانت فيه الفجوة شاسعة بين فن الرقص وعالم النخبة.
وُلدت زينات علوي في 19 مايو 1930 بمدينة الإسكندرية، عاشت طفولة مضطربة، بسبب قسوة والدها، مما دفعها إلى الهروب وهي في السادسة عشرة من عمرها إلى القاهرة، حيث احتضنها شارع عماد الدين، أشهر شارع للفنون وقتها، بدأت العمل راقصة في الملاهي الليلية، وسرعان ما جذب أسلوبها الأنظار لما امتاز به من احتشام ورقي، بعيدًا عن الابتذال، مما منحها لقب "راقصة الهوانم".
زينات لم تكن فقط صاحبة جسد مرن وحضور ساحر، بل كانت امرأة ذكية، تقرأ الصحف، تتابع الفن والأدب، وتناقش زبائن الكباريهات المثقفين بندية واحترام، وهو ما فتح لها أبواب النخبة.
الراقصة التي أحبها الكُتابلم تكن زينات علوي راقصة كباقي الراقصات في زمانها، كانت تجلس مع الكُتّاب والصحفيين والفنانين لا كموضوع للحديث، بل كمشاركة في الحوار، وصفها أنيس منصور بأنها "راقصة لها عقل"، وكان يعتبرها نموذجًا للمرأة التي تفهم ما تقول، وتعي ما تسمع، وتملك من الجرأة ما يندر وجوده.
وكان الشاعر كامل الشناوي أحد المقربين منها، وقد ورد أنها وقفت بجانبه في أوقات ضيقه، وساعدته ماليًا دون أن تنتظر ردًا أو شهرة، هذه العلاقات لم تكن مبنية على مصالح، بل على احترام متبادل نادر، جعل منها شخصية تحظى بثقة وود عمالقة ذلك العصر.
كما تحدث أنيس منصور عن موقف زينات علوى النبيل مع عدد من الصحفيين والكتاب الذين تم فصلهم فى الستينيات، قائلاً :" رأيتها تزور الشاعر كامل الشناوى، فلما وجدته نائما ظلت جالسة حتى نهض من فراشه، وكان يسهر الليل وينام النهار، وهددت بأن تلقى بنفسها من النافذة إن لم يأخذ منها مبلغا من المال، وكان بضعة آلاف، واعتذر كامل الشناوى وفوجئنا بأنها فعلا تريد أن ترمى نفسها من الشباك، وبعد وفاتها، الله يرحمها، جاءتنى إحدى قريباتها ومعها خطاب وفى الخطاب فلوس مساعدة منها لفنانة "غلبانة" لا يعرفها أحد".
وكانت صديقة للكاتب محمود السعدني، الذي روى عنها أنها كانت فنانة تكره الابتذال، وتعرف حدودها جيدًا، وتفخر بأنها لم تكن أبدًا "راقصة صالات"، بل فنانة على المسرح والسينما تحترم مهنتها ونفسها.
الرقص بأسلوب روحيقدّمت زينات علوي عشرات الرقصات في الأفلام دون أن تنطق بكلمة، لكن حضورها كان كافيًا لرسم شخصية متفردة، لم تعتمد على الإثارة الرخيصة، بل أدخلت الحركات الشعبية مثل التحطيب، وجعلت من الرقص حالة شعورية، تأثرت بأسلوب سامية جمال، لكنها كانت أقرب إلى جمهور الطبقة الراقية، وأغلب أفلامها كانت مع كبار النجوم مثل رشدي أباظة، إسماعيل ياسين، شكري سرحان.
من أبرز أعمالها: فيلم الزوجة 13، إسماعيل يس في الأسطول، شارع الحب، قصر الشوق (ظهرت فيه برقصة قصيرة ضمن الثلاثية الشهيرة لنجيب محفوظ).
الاعتزال والصمت الأخيرفي أوائل السبعينيات، اعتزلت زينات علوي الفن بهدوء، بعد زواجها من الصحفي محب مانع، رفضت العودة رغم العروض، واختارت العزلة، في سنواتها الأخيرة، ابتعد عنها الجميع، وعاشت وحيدة في شقتها، إلى أن وُجدت ميتة فيها يوم 5 يناير 1988، بعد وفاتها بثلاثة أيام، في مشهد مأساوي يليق فقط بامرأة عاشت كريمة، وماتت في صمت.
بين الفن والفكرإن سيرة زينات علوي تكشف لنا عن فنانة جمعت بين الأداء الجسدي العميق والوعي الثقافي الحقيقي، امرأة لم يكن جسدها هو الأداة الوحيدة، بل كانت روحها ولسانها ومواقفها أدوات أقوى، عرفها الكُتاب لا كراقصة بل كصديقة عزيزة، تعرف قدر الكلمة وقيمة الفكر.