ما الذي يمكن أن يحدث إن أُغلق الباب على مجموعة من الأشخاص الغاضبين واضطروا لقضاء ليلتهم كاملة معا في مساحة لا تتجاوز نحو 200 متر مربع؟ هل يتمكنوا من تجاوز خلافاتهم أم تزداد حدتها؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر تدخل الأقارب وأفراد العائلة والأصدقاء لفض الخلافات الزوجية؟ هل يؤدي حقا للتهدئة والإصلاح بين الزوجين أم يشعل النيران أكثر؟

 

أسئلة طرحها الفيلم المصري "وش في وش" الذي بدأ عرضه في قاعات السينما في منتصف أغسطس/آب الماضي ليلفت إليه الأنظار ويتمكن من تحقيق إيرادات مرتفعة وضعته في صدارة الموسم السينمائي الحالي، في نجاح لافت نظرا لكونه التجربة الأولى لـ"وليد الحلفاوي" في الكتابة والثانية في الإخراج بعد تجربته الإخراجية الأولى في فيلم "علي بابا" عام 2018 والتي لم تتمكن من تحقيق نجاح مقارب.

 

ضيق المكان ورحابة الكوميديا يستغل المخرج والمؤلف وليد الحلفاوي ضيق المساحة في التركيز على ديناميكيات العلاقات بين الشخصيات، لتصبح المحرك الأساسي للأحداث. (مصدر الصورة: مواقع التواصل)

"غياب القيود هو عدو الفن"

المخرج "أورسون ويلز"

في فيلم "وش في وش" اختار المخرج والمؤلف وليد الحلفاوي أن تدور الأحداث في مساحة زمنية ومكانية محدودة للغاية، وهو ما شكل تحديا كبيرا له. في حديث خاص لميدان، علق وليد الحلفاوي على هذه التفصيلة قائلا إن التصوير في مكان محدود وفي ليلة واحدة مع عدد محدود من الشخصيات شكّل تحديا كبيرا بالنسبة إليه، كي يتمكن من رواية القصة في هذه الظروف دون أن يشعر الجمهور بالملل، وأن يسيطر على استمرارية الأحداث في التتابع.

 

تُعرف الأفلام التي تُصور في مكان واحد مغلق بـ"Chamber Piece"، وهو المصطلح المشتق من مصطلح "موسيقى الحجرة"، ومن أوائل الأعمال التي اتبعت هذا الأسلوب الفيلم الفرنسي "The Rules of the Game" في أواخر الثلاثينيات، كما استكشفه أيضا "إنجمار برغمان" في عدد من أفلامه، أبرزها "The Silence" و"Winter Light" و"Through a Glass Darkly"، كما شهدت السينما العربية أيضا عددا من الأفلام الناجحة التي تنتمي إلى هذا الأسلوب، من أوائلها فيلم "بين السماء والأرض" للمخرج صلاح أبو سيف، وكذلك فيلم "طلق صناعي"، وفيلم "اشتباك"(1)(2).

 

في فيلم "وش في وش" ينشب شجار تقليدي بين الزوجين داليا (أمينة خليل) وشريف (محمد ممدوح)، شجار كان من الممكن أن ينتهي سريعا كغيره، لكن الصدفة وحدها تجعله يتطور ويكبر نتيجة تدخل أفراد العائلتين وأصدقائهما، ما يؤدي إلى اتساع مساحة الشجار الذي يصل بالزوجين إلى حافة الطلاق، ولسبب ما ينغلق باب الشقة على أبطال الفيلم ويصبح من المستحيل فتحه قبل حلول النهار، وهكذا يجد الجميع أنفسهم مضطرين أن يكونوا في مواجهة بعضهم بعضا وفي مواجهة أنفسهم أيضا دون مساحة للفرار لليلة كاملة.

 

يستغل المخرج والمؤلف وليد الحلفاوي ضيق المساحة في التركيز على ديناميكيات العلاقات بين الشخصيات، لتصبح المحرك الأساسي للأحداث، ويعتمد بشكل أساسي على الحوار الذي يكشف عن طبيعة كل شخصية، في قالب اجتماعي يميل للكوميديا، لكنها كوميدية نابعة بشكل أساسي من عفوية المواقف وغير مفتعلة.

 

الخروج من مأزق الخلاف ما إن ينتهي التتر الفيلم القصير حتى نجد أنفسنا في قلب "المعمعة"، حيث الصراع على أشده بين الزوجين وأفراد عائلتيهما بالإضافة إلى الأصدقاء الذين يتوافدون واحدا تلو الآخر. (مصدر الصورة: مواقع التواصل)

الجمع بين التأليف والإخراج تجربة جديدة بالنسبة إلى المخرج وليد الحلفاوي، سألناه عنها في ميدان فعلق قائلا: كان الأمر مريحا لأغلب العاملين في الفيلم، حيث يصبح عليهم التواصل مع الشخص نفسه في التأليف والإخراج، ورغم كونها تجربة مرهقة فإنها ممتعة، حيث ساعدتني في تقديم الأفكار التي أرغب في مناقشتها بشكل أوضح، من العمل على إخراج نص لدي وجهة نظر تجاهه".

 

اختار الحلفاوي أن يضعنا في قلب الأحداث مباشرة، عقب مقدمة قصيرة لم تتجاوز تتر العمل، شاهدنا فيها رحلة ارتباط الزوجين، مرورا بمراحل الخطبة والزواج وإنجاب طفلهما عبر استعراض سريع لصورهما ومنشوراتهما على منصات التواصل الاجتماعي. وما إن ينتهي التتر القصير حتى نجد أنفسنا في قلب "المعمعة"، حيث الصراع على أشده بين الزوجين وأفراد عائلتيهما بالإضافة إلى الأصدقاء الذين يتوافدون واحدا تلو الآخر.

 

حين يُغلق الباب على الجميع، يعود بنا الحلفاوي للخلف بذكاء، عبر تقنية الفلاش باك، لنكتشف أنه لا أحد من هؤلاء الأشخاص يمكنه سماع الآخر، وأن الجميع، رغم وجودهم وجها لوجه أو "وش في وش" كما يخبرنا عنوان الفيلم، لا يسمع أيا منهم سوى صوته الخاص. يظهر ذلك بشكل حرفي حين يقدم كل من الزوجين وجهة نظره في "الشجار"، والذي يصوره المخرج عدة مرات، مع تغييرات بسيطة في زوايا التصوير وأداء الممثلين بحيث يسمح للمشاهد أن يرى الفارق بين رؤية كل طرف لما حدث.

 

سوء التفاهم أو غرق كل طرف في رؤيته الشخصية للعالم يظهر في عدة زوايا، سواء في العلاقات بين الأطراف المتصارعة، أو في الخط الخاص بصديق البطل، والذي يقوم بدوره "خالد كمال"، والذي يعاني من تشوه انطباع الآخرين عنه واختلافه عن حقيقته التي تتكشف ببطء خلال الليلة التي يقضيها الأبطال معا. وكذلك من خلال الخط السردي الخاص بالخادمة "دنيا سامي" والسائق "محمود الليثي" وانطباعاتهما عن مخدوميهما، وهو الخط الذي يستكشف رؤية الطبقات الفقيرة والمهمشة للطبقة فوق المتوسطة التي ينتمي إليها أغلب أبطال الفيلم في ظل وجودهم معا بدرجة من القرب المكاني والمعايشة التي تفرضها طبيعة عملهما داخل المنزل، وهو ما يولد عددا من المواقف الكوميدية.

الخادمة "دنيا سامي" والسائق "محمود الليثي" من فيلم "وش في وش". (مصدر الصورة: مواقع التواصل) شخصيات تقليدية وكوميديا عفوية

استخدم المخرج تقنية "freeze frame" أو "تثبيت إطار الصورة" عند تقديم كل شخصية، وهو ما أعطى إيحاء في البداية بأن حبكة الفيلم تعتمد بشكل أساسي على الشخصيات، لكنه لم يستغل ذلك فيما بعد، لتبدو بمثابة تقنية مهدرة، حيث لم يغص أكثر في تقديم ملامح مميزة للشخصيات على الشاشة، بل جاءت أغلب شخصيات العمل أقرب للأنماط الاجتماعية التي يمكن أن تقابلها في الحياة اليومية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي دون أبعاد إنسانية حادة. في بعض المشاهد حاول الفيلم استكشاف الدوافع النفسية للشخصيات، لكنه لم يفككها بعمق، بل مال إلى البساطة والخفة.

 

وعلى الرغم من وضع العلاقة بين البطلين داليا وشريف في بؤرة الضوء في البداية، فسرعان ما انشغل الفيلم بتقديم عدد من الخطوط والحبكات الفرعية الأخرى، والتي استكشفت علاقات الزواج طويلة الأمد، سواء بين والدي الزوج، وقام بدوريهما "سلوى محمد علي" و"بيومي فؤاد"، أو والدي الزوجة، "أنوشكا" و"سامي مغاوري". كما استكشف أيضا علاقات الصداقة من خلال علاقة الزوجة بصديقتها "أسماء جلال" أو علاقة الزوج بأصدقائه "خالد كمال" و"محمد شاهين" وشقيق الزوجة "أحمد خالد صالح"، بالإضافة إلى الدراما المستمدة من العلاقة الطبقية بين أفراد الأسرة والسائق والخادمة.

(مواقع التواصل) براعة.. ولكن

قارن عدد من المشاهدين وكذلك النقاد الذين تناولوا الفيلم بالتحليل بين فيلم "وش في وش" ومسلسلَي "خلي بالك من زيزي" و"الهرشة السابعة"، وهما المسلسلان اللذان عُرضا في رمضان 2022 و2023 وحققا نجاحا جماهيريا. يعود ذلك بشكل كبير للتشابه في طاقم العمل، وتحديدا الأبطال "أمينة خليل" و"محمد ممدوح" و"محمد شاهين"، بالإضافة إلى انتماء كل منهم لدراما العلاقات، والتشابه النسبي في الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأبطال، وإن اختلف الفيلم في تناوله عن الأعمال المذكورة في ميله إلى الطابع الكوميدي.

 

يُحسب للمخرج براعته في اختيار الممثلين وتوجيههم، وقد أشار في حديثه لميدان إلى حرصه على أن تكون الكوميديا نابعة من سياق الموقف والحديث والسياق الاجتماعي اليومي الذي يرى أنه يحمل داخله ما يكفي من السخرية والكوميديا دون حاجة للافتعال. وهو ما نجح في تقديمه بالفعل، حيث تمكن أغلب الأبطال من التألق في أدوارهم، بخاصة الفنان بيومي فؤاد الذي أثبت من جديد تمكنه من تقديم أداء جاد بعيد عن الهزلية التي حصرته فيها بعض أدواره السابقة، ولم يَحُل ذلك بينه وبين اقتناص الضحكات في مشاهده بخفة ودون تصنع.

 

كما جاء ظهور النجمين الكبيرين "لطفي لبيب" و"خالد الصاوي" بوصفهما ضيوف شرف في دوري محاميي الأسرتين خاطفا للأنظار، وتمكّنا من إضفاء حس كوميدي لطيف وغير مفتعل على الرغم من عدم حضورهما الجسدي في موقع التصوير، حيث ظهر كلاهما عبر الشاشات في مكالمة فيديو امتدت لدقائق قليلة لكنها كانت كافية للغاية كي يثبتا كالعادة قوة حضورهما.

 

تمكن بقية الأبطال من أداء أدوارهم بشكل جيد، وإن ظلت "أمينة خليل" منحصرة في الدور نفسه تقريبا منذ عدة سنوات، فدورها هنا لا يختلف كثيرا عن الأدوار التي اعتادت تقديمها خلال السنوات الأخيرة. كما أن حضور الطفل الصغير الذي لعب دور الابن جاء باهتا للغاية، ولم يظهر سوى في مشاهد قليلة لا تتيح للمشاهد التعرف إليه، وهو ما أكد على أنه لا أحد ينتبه للصغير الذي يُفترض أن يكون محورا لحياة هذه الأسرة كما يرددون طوال الوقت.

 

توتر في مساحة ضيقة لفت الفيلم الأنظار إلى تأثير مواقع التواصل على المشكلات الأسرية، فبعد أن تكتب أم الزوجة (أنوشكا) منشورا على منصات التواصل تشير فيه إلى المشكلة، يتدخل أصدقاء الطرفين على منصات التواصل وأفراد العائلة. (مصدر الصورة: مواقع التواصل)

من ناحية الصورة البصرية، يتضح بشكل عام وعي المخرج بأبعاد المكان وحدوده، حيث تمكن من ضبط إيقاع التنقل بين غرف المنزل المختلفة، واستخدامها بذكاء، ما أتاح له التنويع في زوايا الإضاءة والتصوير، واستغلالها كي يضفي نوعا من التنوع البصري، لكسر حالة الملل التي قد تنتج عن التصوير في مكان واحد. كما استغل وجود الشرفة الواسعة أو الروف الملحق بالشقة في التنويع بين الإضاءة الداخلية والخارجية، وظهرت كأنها مساحة للتنفيس عن توتر الأبطال.

 

كما تمكن من السيطرة على حركة الممثلين، خاصة خلال مشاهد الاحتكاك المتوترة التي تجمّع فيها أبطال العمل في مساحات ضيقة للغاية، وتمكن من التنويع في زوايا الكاميرا بشكل ساعده على استيعاب الصراع وإبرازه مع الحفاظ على مستوى التوتر البصري.

 

لفت الفيلم الأنظار إلى تأثير مواقع التواصل على المشكلات الأسرية، فبعد أن تكتب أم الزوجة (أنوشكا) منشورا على منصات التواصل تشير فيه إلى المشكلة، يتدخل أصدقاء الطرفين على منصات التواصل وأفراد العائلة، وهو ما يزيد الأزمة، وهو المشهد الذي استغله فريق الفيلم كدعاية ظريفة له، حيث كتب الفنان "محمد ممدوح" منشورا على صفحته الشخصية، ورد عليه بقية أبطال الفيلم فيما يحاكي نوعا من الجدال كوسيلة دعائية مبتكرة لفتت أنظار رواد مواقع التواصل الاجتماعي.

 

مع الأسف جاءت نهاية الفيلم "كليشهية" بعض الشيء، وبدا أن هناك نوعا من التسرع في جمع خيوط النهاية، خاصة مع وجود بعض الإطالة والمشاهد التي كان من الممكن الاستغناء عنها للخروج بإيقاع مشدود أكثر من ذلك. لكن يظل فيلم "وش في وش" واحدا من أكثر التجارب السينمائية المبشرة، والتي تنبئ بعودة قوية لسينما الكوميديا في مصر.

——————————————————————————————-

المصادر:

1- Chamber Piece (Definition) – Wonderful Cinema.

2- The Art of the One-Location Screenplay – WriterDuet’s Blog.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: على منصات التواصل مواقع التواصل ولید الحلفاوی بالإضافة إلى بین الزوجین وش فی وش تمکن من الذی ی وهو ما

إقرأ أيضاً:

رؤية قرآنية تصنع أمة مجاهدة لا تخاف الموت .. الشهادة والشهداء في فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)

في زمن تتقاذف فيه الأمة موجات الهزيمة النفسية والضعف الروحي، برز الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) كمفكر ومجاهدٍ فريد، أعاد للأمة الإسلامية قيم العزة، والوعي، والاستعداد للتضحية. وفي قلب مشروعه القرآني المتجدد، تأتي الشهادة وقضية الشهداء كأحد أهم مرتكزات بناء الإنسان القرآني.

يمانيون / تقرير/ طارق الحمامي

 

لم ينظر الشهيد القائد إلى الشهادة كمجرد “حدث” أو “نهاية”، بل قدّم رؤية متكاملة تجعل منها أسمى طموح الإنسان المؤمن، ووسيلة لبناء الأمة وتحقيق الانتصار الحقيقي.

 

الشهادة .. إلغاء لمفهوم الموت وبناء لروح الحياة

يبدأ الشهيد القائد حديثه عن الشهادة من أساس قرآني متين، حيث ينسف المفهوم التقليدي للموت في سبيل الله، منطلقاً من قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وفي شرح الشهيد القائد، يُلغى الموت من قاموس المجاهد،  لا يُنظر إلى الشهيد كميت، بل كحيّ عند ربه، في كرامة دائمة وفضل إلهي عظيم، ليس ذلك فقط، بل إن إلغاء الموت هو وسيلة لدفع المؤمن نحو ميادين التضحية بدون تردد، حيث قال رضوان الله عليه : أن تخوفه بالقتل، فبماذا تخوفه؟ هو مجاهد يبحث عن الشهادة.

 

أعزة على الكافرين .. العزة التي تُترجم إلى مواقف

يبرز الشهيد القائد النموذج القرآني للمجاهد ، القويٌّ في وجه الأعداء، الرقيق والعطوف مع إخوانه، المتحرّك بنَفَس إيماني دون تردد أو تسويف، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، العزة هنا ليست صفة تجمّل الخطاب فقط، بل سلوك عملي وموقف سياسي وعسكري، يجعل من المجاهد إنسانًا رافضًا للخضوع، ينطلق بذاته وماله قبل أن يُطلب منه، وليس ممن “يثاقل إلى الأرض” أو “ينتظر من يدفعه”.

 

الشهداء صفوة مختارة والشهادة فضل من الله 

الشهداء في رؤية الشهيد القائد ، هم صفوة اختارهم الله واصطفاهم الله، ومنحهم كرامة التفضيل، فهم من اختارهم الله ليمثلوا مشروعه في الأرض، ليكونوا البديل عن القاعدين والمثبطين، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}
أليس هذا اصطفاء من جانب الله لهم؟ تفضيل من الله أن اختارهم هم؟ ، هم الذين آمنوا بحقيقة أن الجهاد مهمة ربانية لا تُؤدى من باب التسلية أو المصلحة، بل استجابة خالصة لله، واستعداد للتضحية بالنفس والمال دون مقابل دنيوي.

 

المجاهدون لا يُشترون .. تفكيك ظاهرة الارتزاق

الشهيد القائد يفصل بوضوح بين المجاهد الصادق، وذلك المرتزق الذي يتحرك لأجل السلاح أو المال أو المصالح، وفي معرض نقده لظواهر الاستغلال التي رافقت بعض المعارك السابقة، يُبرز أن المجاهد الحقيقي لا ينتظر بندقًا أو صرفة: ما كانوا يوم ملكي ويوم جمهوري؟ مرة هنا ومرة هناك .. هؤلاء متعيشين، مرتزقة،
بينما المجاهد الحق كما يؤكد رضوان الله عليه ، ينطلق بنفسه وماله، بدافع الإيمان، وبهدف واحد، وهو نُصرة دين الله، ونيل إحدى الحسنيين ، النصر أو الشهادة.

 

ثقافة الشهادة .. صناعة أمة لا تُهزم

في فكر الشهيد القائد، الشهادة مشروع نهضوي، الأمة التي تحب الشهادة وتستعد لها، أمة لا تُهزم، والشهادة تصنع وعيًا، وتزيل الخوف، وتُربّي الإنسان على العزة والكرامة، وهو يرفض تصوير الشهيد كضحية، بل يؤكد أنه صاحب فضل، فائز، حاز على أرفع درجات الاصطفاء، هم ممن حازوا هذا الفضل العظيم .. هم مفلحون، فائزون، وليسوا متورطين.

 

الشهادة حياة وبعث لا نهاية

واحدة من أعمق أفكار الشهيد القائد التصويرية ،  أن الشهيد لا يموت كما يموت الآخرون، بل ينتقل، االمجاهد لن يموت كما يموت الآخرون .. روحه تنتقل من بذلة لتعود إلى جسم آخر، كما تخلع الثوب وتلبس غيره.

هذا التشبيه يُبرز أن الحياة الحقيقية للإنسان تبدأ بعد الشهادة، وأن الموت لم يعد تهديدًا للمجاهد، بل أملًا ومقصودًا يُطمح إليه.

الشهادة قمة في الاستسلام الواعي والطوعي لله

في فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)، لم تكن الشهادة مجرد خاتمة بطولية، بل تتويجًا لمسارٍ إيمانيٍّ شامل، يبدأ من لحظة وعي الإنسان بمسؤوليته أمام الله، وتُعد الآية الكريمة: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، مفتاحًا لفهم هذا المسار، فهو ينبه إلى أن الصلاة والنسك هما مقدمة لمسارٍ أشمل، يتمثل في أن الحياة والموت نفسيهما يجب أن يكونا لله، أي أن المؤمن لا يكتفي بأداء شعائر ظاهرية، بل يحوّل حياته كلها إلى ميدان عبادة، وموته إلى ختام لتلك العبادة، عبر السعي الواعي نحو الشهادة في سبيل الله.

ولذلك علّق الشهيد القائد قائلاً: لا يصح أن يُقال أمرت أن تكون حياتي بيد الله، لأن هذه قضية حتمية، لكن أمرت أن تكون حياتي لله، ومماتي لله، وهذا لا يكون إلا بجهاد، وسعي للشهادة.

 

الشهادة .. أعظم استثمار للموت

يرى الشهيد القائد أن الله برحمته الواسعة فتح أمام الإنسان فرصة استثمار الموت، الذي هو حتميٌّ لكل البشر، بحيث لا يكون الموت مجرد نهاية، بل وسيلة للفوز بالرضوان الإلهي والخلود في الجنة، (عندما يكون لدى الإنسان هذا الشعور: نذر حياته لله ونذر موته لله، فهو فعلاً من استثمر حياته، واستثمر موته) ، وهذا الشعور كما يؤكد رضوان الله عليه ليس حالة استثنائية، بل هو سمة أصيلة للمؤمنين الحقيقيين الذين باعوا أنفسهم لله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾

 

الإمام علي عليه السلام نموذجًا .. فزت ورب الكعبة

استلهم الشهيد القائد من سيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مثالًا على أرقى مشاعر نذر النفس لله، حين بُشّر بالشهادة، فلم يهتم إلا بسلامة دينه: ((يا رسول الله، أفي سلامة من ديني؟ قال: نعم. قال: إذن لا أبالي)).
رسالة عظيمة يُطلقها الإمام علي عليه السلام، إن الشهادة مقبولة ومحبوبة إذا كانت في سبيل الله وبحفظ الدين، هذه المشاعر لا تنبع من ضعف، بل من قوة إيمانية تدفع الإنسان لتجاوز غريزة التعلق بالدنيا، وجعل سلامة الدين فوق كل اعتبار.

 

 حضور النموذج الجهادي وأثره في غرس ثقافة الشهادة

ينبّه الشهيد القائد إلى خطر تغييب الرموز الجهادية، وتغليب المشاهد العاطفية المنزوعة من روح البطولة، فيقول منتقدًا الاكتفاء بترديد أسماء مثل محمد الدرة فقط، دون إبراز القادة المجاهدين كعباس الموسوي ويحيى عياش: لأول مرة أسمع أنشودة لم تعجبني إطلاقًا .. نحتاج إلى أن ننشد للأبطال الذين سقطوا في ساحة المواجهة.

ويشدد على أن الرموز الجهادية تصنع وعيًا، تلهم نفوس الناس روح الفداء، وتُبقي ثقافة الشهادة حيّة، أما التركيز على مآسي عاطفية دون ربطها بسياق المواجهة والجهاد، فيفرغ القضية من جوهرها.

 

الشهادة ..عنوان الأمة التي تنصر الله

يعمق الشهيد القائد في هذا المحور الإدراك بأن الأمة التي لا تُنذر أبناءها لله، لا يمكن أن تكون أمة ناهضة، أمة تنشد الأمن دون تضحية، وتطلب العزة دون دماء، لن تنتصر، (ولا يمكن للمؤمنين أن يعلوا كلمة الله، ولا أن يكونوا أنصارًا لله، ما لم يكن لديهم هذا الشعور، أنهم نذروا حياتهم وموتهم لله)،

إن قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ﴾ في فكر الشهيد القائد هو بيان تكليف إلهي شامل، يجعل الشهادة ليست مجرد نتيجة بل غاية مقصودة، وسعي واعٍ ومحبوب لله، من يحمل هذا الوعي، يعيش لله ويموت لله، ويصنع من موته بوابة للحياة الأبدية.

 

الشهادة ضمانة للربح الحقيقي والخلاص الأبدي

يرى الشهيد القائد، أن الشهادة ، هي الضمانة الوحيدة للربح الأبدي،  فالإنسان الذي يخشى الموت ويهرب منه هو في الواقع أقرب إلى الموت، لأنه يُضيّع الهدف، ويعيش بقلق، ثم يموت ميتة لا معنى لها،  أما الشهيد، فقد كتب الله له الحياة الأبدية، (إذا كنت تكره الموت، فجاهد في سبيل الله، واطلب الشهادة، فبذلك فقط تُقهر الموت لا تهرب منه)، ويرى الشهيد القائد أن الآيات القرآنية لم تلغِ فقط خوف الموت، بل ألغت صفة الموت نفسها عن الشهداء: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، وهنا تصبح الشهادة بوابة للحياة لا للموت، وهي أرقى درجات الاستفادة من حقيقة حتمية لا مفر منها.

 

الشهادة في التربية النبوية والعترة الطاهرة

يشير الشهيد القائد إلى أن النموذج النبوي في التضحية كان قائماً على تقديم النبي صلوات الله عليه وآله ، لأهل بيته وأقاربه في مقدمة صفوف الجهاد، ابتداءً من غزوة بدر، حيث قاتل أقرباء النبي وذووه في مقدمة المواجهة، كما يشير إلى أن الآية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾، هي خطاب خاص لقرابة النبي صلى الله عليه وآله، تُلزمهم بالتفاني التام في سبيل الله، ومن هنا، فإن قضية الشهادة ليست فقط تكليفاً عاماً، بل هي رسالة آل البيت ومسؤوليتهم التاريخية، وفي المقابل، يجب على الأمة أن تفهم الدين فهماً مسؤولاً، بأن كل تكليف إلهي هو نعمة وليس عبئاً، ومن يسير على درب أهل البيت لن يرى في الجهاد إلا تشريفاً، لا مشقة.

 

خاتمة

إن فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه حول الشهادة ليس خطابًا عاطفيًا، بل بناء فكري عقائدي متكامل، يستمد قوته من القرآن، ويهدف إلى إنتاج أمة تتحرك بوعي وإرادة واستعداد للتضحية، وثقافة الشهادة كما طرحها ليست أداة موت، بل وسيلة حياة ونهضة، ووسام فضل إلهي يُختص به من يحملون همّ الأمة ويجاهدون في سبيل الله، وفي زمن الغربة والانحراف، ما أحوج الأمة اليوم إلى استعادة هذا الفهم الراقي للشهادة، لتكون كما أراد الله لها، {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}.

 

المصادر / محاضرات ودروس الشهيد القائد رضوان الله عليه

مقالات مشابهة

  • خصيات اجتماعية: يقظة الشعوب في مواجهة الطغيان مرتكز النهوض الحضاري
  • عون: لبنان حريص على بناء علاقات ممتازة مع سوريا
  • الفضلي يؤكد صدارتها عالمياً في المياه.. وزير الإعلام: السعودية تصنع تقنية المستقبل
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس الشرع تعمل بشكل متواصل لحل جميع المشكلات التي تواجه الشعب السوري، وخاصة الاقتصادية منها، بهدف دفع عجلة التنمية وتحسين نوعية حياة المواطنين
  • رؤية قرآنية تصنع أمة مجاهدة لا تخاف الموت .. الشهادة والشهداء في فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)
  • ساكاليان لـ سانا: زيارة فريق اللجنة الذي ضم مختصين من مجالات متعددة لمحافظة السويداء شكلت فرصة لفهم الوضع بشكل أفضل وتوسيع نطاق الاستجابة لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، وذلك بالتعاون الوثيق مع الهلال الأحمر العربي السوري
  • وفاء عامر كلمة السر.. من هي بنت الرئيس مبارك التي أشعلت السوشيال ميديا؟
  • شركة موريل تصنع دراجة كهربائية سريعة الشحن
  • «لمي ورقك وامشي من هنا».. معاقبة أخصائية اجتماعية تعدّت بالسب والاتهام على مديرة مدرسة