في الذكرى الـ50 لانقلاب بينوشيه.. قصة دكتاتور
تاريخ النشر: 19th, September 2023 GMT
أحيت حكومة الرئيس غابرييل بوريتش، الأسبوع الماضي، الذكرى الـ50 لانقلاب الدكتاتور بينوشيه في 11 سبتمبر/أيلول 1973، على أول رئيس يساري منتخب ديمقراطيا سلفادور أياندي، الذي اعتُبر منذ ذلك اليوم، أيقونة النضال اليساري في أميركا اللاتينية. ووسط محاولات الحكومات المتعاقبة على تشيلي بعد انتهاء حُكم بينوشيه في 1990، إنصاف ضحايا تلك المرحلة، أعلن الرئيس بوريتش إطلاق خطة وطنية لتقصي الحقيقة والعدالة، تهدف لتوضيح ظروف جرائم الإخفاء القسري تحت نظام بينوشيه، ومتابعة مصائر ضحاياه.
يعتبر نظام الدكتاتور أوغستو بينوشيه في تشيلي، من أفظع الأنظمة التي فضحت الدور الأميركي في تدبير خطة تصفية الرئيس اليساري السابق أياندي وتكريس حكم بينوشيه، في أوج جولات الحرب الباردة، باعتراف من جهاز الاستخبارات المركزية (CIA) والرئيس الأميركي جيمي كارتر، لاحقا. حيث تجندت الإدارة الأميركية مع فوز أياندي بالسلطة في 1970، عبر انتخابات نزيهة، لوأد التجربة في نصف القارة الجنوبي، وقطع آمال الاشتراكيين في التمدد في المنطقة، لاسيما وأن الرجل شرع في تأميم الثروات الطبيعية وقطاع البنوك والصحة وعدد من الشركات الكبرى.
وبعد استنفاد محاولات تعطيل حكومة أياندي في إدارة البلاد، عبر تغذية الإضرابات وتمويل المعارضة والامتناع عن منح تشيلي قروضا من صندوق النقد، ما كان من الإدارة الأميركية إلّا تحريك أسماءٍ نافذة من وزارتي الدفاع والداخلية، بزعامة الجنرال بينوشيه، وقتذاك، وشن هجوما مسلّحا على القصر الرئاسي ومحاصرة الرئيس أياندي، بغرض إقالته بالقوة.
ولم يدم الهجوم سوى ساعة و20 دقيقة، انتهت بانتحار الرئيس أياندي، بعد أن توجه لأنصاره بكلمة، نبّههم فيها الى أنه سيدفع حياته ثمن استمرارهم في النضال لتحقيق حياة أفضل. وكانت أحداث ذلك اليوم الاستثنائي في تاريخ البلد والمنطقة عموما، عبارة عن "ملحمة" في نظر أنصار أياندي، لكن المتضررين من سياساته الاشتراكية، لم يجرّموا فظاعة النهاية التي فُرضت على الرجل.
وقد استغل بينوشيه بعض تلك المواقف غير المكترثة، ليطلق العنان لسلسة لانهاية لها، من الجرائم في حقوق المعارضين وأهاليهم، من غير حسيب ولا رقيب. والغريب في الأمر أن جبروت الرجل لم يكتف بتصفية خصومه داخل تشيلي، بل إن عناصر مخابراته لا يعرفون حدودا لتنفيذ أهداف رئيسهم، ولعلّ اغتيال وزير الداخلية السابق في عهد أياندي "أورنالدو ليتيليي"، في عقر شوارع واشنطن، عبر تفجير سيارته، خير دليل على جبروت بينوشيه الذي رفض في ذلك الوقت، السماح بدفن ليتيليي في تشيلي، ليؤكد بذلك مسؤوليته عن الجريمة.
لم يكتف الدور الأميركي في تلك المرحلة بالتخلص من أياندي، بل إنه رافق أداء بينوشيه في السلطة، حتى مرحلة تنفيذ برنامج اقتصادي نيو ليبيرالي "متوحش" حسب وصف الخصوم، تم بموجبه خصخصة قطاعات الموارد الطبيعية والصحة والتعليم وغيرها من القطاعات الحيوية. وليس من المبالغة في شيء، القول إن تشيلي هي البلد الوحيد في العالم، الذي يخضع فيه "الماء" لإدارة القطاع الخاص، بالرغم من أن هذا يتنافى مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبعيدا عن حرص الإدارة الأميركية على وفاء بينوشيه لرؤيتها الاقتصادية، لم يكشف أرشيف المخابرات المركزية عن أي سعي من الجانب الأميركي الى موقف حازم يُجبر الدكتاتور بينوشيه على التخفيف من حجم انتهاكاته لحقوق الإنسان وممارسة القتل والتعذيب والإخفاء القسري في حق خصومه وأهاليهم، الذين بلغ عدد ضحاياهم حوالي 40 ألف شخص، حسب تقرير "فاليش"، الذي تمّ عرضه خلال رئاسة ريكاردو لاغوس سنة 2004.
حماية ألمانيةفي الحقيقة، لم يكن الدكتاتور بينوشيه مستقويا فقط بالدعم الأميركي للاستمرار في منصبه، ففي 2016، رفعت الحكومة الألمانية طابع السرية عن وثائق دبلوماسية متعلقة بشحنات سلاح تمّ تصديرها لحكومة الدكتاتور بينوشيه، وطلب على إثرها البرلمان من الحكومة الألمانية إنشاء صندوق لمساعدة المئات من ضحايا ما يُسمّى بـ"كولونيا ديغنيداد" مع الاعتراف بمسؤولية الدولة في عدم حماية حقوق الإنسان.
و"كولونيا ديغنيداد"، هي مركز سرّي، يقع على بعد 350 كيلومترا، جنوب العاصمة سانتياغو، كان قد أنشأها "بول شافر"، الداعية والعسكري النازي السابق، في تشيلي، مع أواخر الخمسينيات، على أساس أنها تجمّع لطائفة ألمانية فرّت من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية واستقرت في تلك البقعة الممتدة على مساحة 16 ألف هكتار، لتتبع دين "المعلّم" شافر، كما كان يُلقّب. ومع وصول بينوشيه الى الحكم، تبيّن أن تعاونا على أعلى مستوى كان يحدث بين جهاز مخابرات بينوشيه المعروف باسم "دينا"، والداعية شافر، من خلال تسخير المركز لجرائم التعذيب والإخفاء القسري وحتى التصفية، وإشراف "المعلّم" عليه، واتضح بعد ذلك أيضا أن شافر كان يمارس جرائم التعذيب والاغتصاب على الطائفة وأبنائها المستقرون في المركز، لكن الطائفة كانت تتشرف بما يحدث من انتهاكات، على أساس أنها جزء من "بركات" الداعية.
لقد حكم الدكتاتور بينوشيه تشيلي عبر انقلاب عسكري سافر، واستبدّ بالحكم 17 سنة متواصلة، دون إجراء أي انتخابات، وشهدت كل المنظمات الحقوقية الدولية أن ضحايا جرائمه يقدر عددهم بالآلاف. ومع ذلك، لم يتمكن القضاء في تشيلي من توجيه أي عقوبة قضائية عليه، وواصل حياته بعد تنازله عن منصب الرئاسة سنة 1990، بكل طمأنينة، الى أن توفي سنة 2006، كل ذلك بفضل الصياغة الخبيثة للدستور الذي حرّرته مجموعة من قُضاته الحلفاء، وبقي ساريًا حتى يومنا هذا، في انتظار تعويضه بدستور آخر في ديسمبر المقبل، إن وافق على صيغته التشيليون.
إن حياة الدكتاتور بينوشيه ونهايته، تمثل صفحة حالكة من صفحات التاريخ الإنساني، لا تليق بالمرحلة التي نعيشها، لأنها تؤكد بالدليل والحجة أن مجرمي الإنسانية يمكنهم الإفلات من العقاب، في عالم يعجّ بالشعارات النبيلة الخادعة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی تشیلی
إقرأ أيضاً:
بعد وثائقي الجزيرة.. كوثر بن هنية تحوّل مأساة هند رجب إلى فيلم عالمي
المخرجة التونسية كوثر بن هنية بصدد إنجاز فيلم روائي جديد يجسد قصة الطفلة الفلسطينية هند رجب، التي قُتلت في غزة وهي في الخامسة من عمرها، في حادثة هزّت الرأي العام وأثارت استنكارا واسعا على المستوى الدولي.
يُصوَّر الفيلم في تونس ويُشرف على إنتاجه نديم شيخ روحه، المنتج المعروف بفيلم "بنات ألفة" (Four Daughters)، إلى جانب أوديسا راي، منتجة الفيلم الحائز أوسكار "نافالني" (Navalny)، وجيمس ويلسون، منتج "منطقة الاهتمام" (The Zone of Interest). ويحظى المشروع بدعم من شركة "فيلم 4" البريطانية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2محكمة الطفل تقرر إيداع نجل محمد رمضان إحدى دور الرعاية على خلفية واقعة اعتداءlist 2 of 2افتتاح كان السينمائي.. دي نيرو يهاجم ترامب والمصورة فاطمة حسونة حاضرة بعد استشهادهاend of listويرصد الفيلم تفاصيل استشهاد الطفلة الفلسطينية، حيث ظلت محاصرة داخل السيارة التي كانت تقلها وعائلتها لساعات، وهي تحاول التواصل مع الهلال الأحمر الفلسطيني طلبا للمساعدة، قبل أن يعثر عليها بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي.
كيف أصبحت هند رجب رمزا لمأساة الحرب في غزة؟تحولت الطفلة الفلسطينية هند رجب إلى رمز إنساني مؤلم لتبعات الحرب في غزة، بعدما قُتلت خلال محاولة عائلتها الفرار من المدينة، في واحدة من أكثر الحوادث التي جسدت قسوة الصراع المتواصل منذ عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في 29 يناير/كانون الثاني 2024، تعرضت سيارة هند لإطلاق نار أثناء الفرار، مما أسفر عن مقتل عمّها وعمّتها و3 من أبناء عمومتها، في حين بقيت هند عالقة داخل السيارة لساعات، تحاول النجاة وتتواصل مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني عبر الهاتف، بينما كان المسعفون يسابقون الزمن للوصول إليها.
إعلانلكن في 10 فبراير/شباط، وبعد انسحاب قوات الاحتلال من المنطقة، عُثر على جثة هند إلى جانب أفراد عائلتها والمسعفين الذين قُتلوا أثناء محاولتهم إنقاذها.
وعلى الرغم من نفي إسرائيل المسؤولية في البداية، فقد كشفت تحقيقات أجرتها عدة جهات مستقلة بما فيها صحف دولية ومنظمة بحثية أن دبابات إسرائيلية كانت في المنطقة ومن المرجح أنها أطلقت النار على السيارة، كما استهدفت سيارة الإسعاف التي جاءت لإنقاذ الطفلة.
وقد أثارت مأساة هند غضبا دوليا واسعا، حيث قامت مجموعة من الطلاب في جامعة كولومبيا بإعادة تسمية مبان جامعية باسمها، في إشارة إلى الألم الذي تعكسه قصتها على الكثيرين حول العالم.
الجزيرة توثق اللحظات الأخيرة من حياة هند رجبوثّقت قناة الجزيرة القطرية القصة المؤلمة لمقتل الطفلة الفلسطينية هند رجب في فيلم وثائقي بعنوان "الليل لن ينتهي" (The Night Won’t End)، ضمن سلسلة التحقيقات "Fault Lines". يتناول الفيلم جرائم الحرب في غزة من خلال روايات 4 عائلات فلسطينية، من بينها عائلة هند، التي فقدت طفلتها البالغة من العمر 6 سنوات في يناير/كانون الثاني 2024 خلال العدوان الإسرائيلي.
يركز الوثائقي على اللحظات الأخيرة من حياة هند، التي بقيت محاصرة داخل سيارة عائلتها بين جثث أقاربها، ويوثق مكالمتها الهاتفية المؤثرة مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، حيث كانت تستغيث ببراءة. كما يكشف الفيلم عن الصعوبات التي واجهها طاقم الإسعاف أثناء محاولتهم الوصول إليها، إذ تعرضوا لإطلاق نار مباشر من قبل الجيش الإسرائيلي، مما أدى إلى استشهادهم وترك الجثث في الموقع من دون أن تُنتشل لأيام.
كما يتضمن الفيلم شهادات حية من والدتها وموظفين في الهلال الأحمر، إضافة إلى تحليلات الحقوقيين الذين أكدوا انهيار القانون الدولي في ظل الأحداث المأساوية التي وقعت في غزة. وقد أصبح هذا العمل الوثائقي مرجعا هاما لفهم التداعيات الإنسانية للصراع في المنطقة.
إعلان كوثر بن هنية.. صوت إنساني يتجدد في السينما العالميةفي عملها الروائي الجديد، تسلّط المخرجة التونسية كوثر بن هنية الضوء على مأساة الطفلة الفلسطينية هند رجب، التي قُتلت في غزة، مقدّمة قصتها في إطار سينمائي عالمي. هذا المشروع يمثل محطة جديدة في مسيرة بن هنية، التي تُعد من أبرز الأصوات السينمائية في العالم العربي، والمعروفة بإثارتها للقضايا الإنسانية العميقة.
لمع نجم بن هنية عربيا ودوليا من خلال فيلم "على كف عفريت" (Beauty and the Dogs) الذي مثّل تونس في جوائز الأوسكار لعام 2018، واستند إلى قصة حقيقية لفتاة تواجه منظومة قمعية بعد تعرضها للاغتصاب.
ثم واصلت تألقها بفيلم "الرجل الذي باع ظهره" (The Man Who Sold His Skin) عام 2020، الذي حظي بترشيح رسمي لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي، محققا نجاحا غير مسبوق للسينما التونسية والعربية.
أما في فيلمها الوثائقي "بنات ألفة" (Four Daughters)، فقد تناولت الواقع التونسي من خلال قصة أم فقدت ابنتيها لصالح التطرف، بأسلوب فني يمزج بين الروائي والوثائقي، مما أهله للوصول إلى القائمة القصيرة للأوسكار لعام 2024.
من خلال أعمالها، تؤكد بن هنية أن السينما ليست مجرد انعكاس للواقع، بل أداة قوية للمقاومة والتغيير، وصوتا يحمل معاناة المنسيين إلى المنصات العالمية.