أيهما أفضل، استمرار مركزية دولة ـــ 56 أم التفتيت الفدرالي بالحسني؟
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
معيار الأفضلية هنا، ما ينفع الناس، من أمن واستقرار، والشعور بالرضا، والإحساس بالعدالة في الحقوق، والمساواة في الواجبات، والمقصود بمركزية دولة ــ 56 "السيستم" أو المنظومة التي ظلت تدار بموجبها دولاب الخدمة المدنية والعسكرية في البلاد منذ تسليم المستعمر البريطاني ــ المصري، مقاليد إدارة الدولة السودانية، إلى الحكومة الوطنية في يناير 1956م، والتي لم تتغير في جوهرها، فقد تعاقبت حكومات، وظلت المنظومة واحدة، تخدم مصالح الطغمة الحاكمة (الدولة العميقة) وحواضنها، كما كانت تخدم المستعمر.
وفقا لكافة الشرائع السماوية، والأعراف الإنسانية، فإن الحفاظ على النفس البشرية، ووقف إراقة الدماء، مقدمة على ما سواها من الأولويات، وبما أنّ منظومة دولةــ56 ظلت تمارس القتل وإراقة الدماء، منذ فجر الاستقلال إلى يوم الناس هذا، وبما أنّ الاتفاق الإطاري، كان آخر سانحة لإصلاح هذه الدولة المعطوبة، وإن استمرار منظومتها في إدارة البلد، يعني استمرار إزهاق أرواح الأبرياء من المواطنين، وإراقة دمائهم، فإن هذا الخيار أصبح عدميا.
ليس دقيقاً، توصيف الحرب الدائرة الآن في البلاد، أنها حرباً بين جنرالين، أو بين قوتين عسكريتين، ومن المبالغة المبكرة، أن نصفها في مجملها بالحرب الأهلية، لكننا نظن أنها حرب جهوية بامتياز، بناءً على مرجعيات غالبية المساندين للمحورين، الجيش والدعم السريع، من القوات المقاتلة، ومن التيارات السياسية والتكتلات الشعبية. وهذا أكبر دليل على أن الدوافع الخفية لإشعال الحرب، عدم الرضاء بالكيفية التي ظلت تدار بها البلاد منذ فجر الاستقلال حتى يوم الحرب 15 أبريل.
الحرب لابد لها أن تتوقف مهما طال أمدها، وبات في حكم المؤكد، أن عودة منظومة دولةــ56 المركزية القابضة مستحيلة، وأن الـخامس عشر من أبريل 2023م نقطة فاصلة في التاريخ السياسي للدولة السودانية، وأن التروس المهترئة التي ظلت تدير آلة الدولة الظالمة، والأيادي الآثمة التي ما برحت تتحكم في دوران تلك التروس، جميعها، يجب أن تستريح من العبث بمقدرات الشعب، لصالح الدولة العميقة، وحواضنها من جنرالات الجيش والبيوتات الطائفية والرأسمالية ومن الانتهازيين العابرين.
بالطبع، التقسيم الفدرالي لتركة دولةــ56 لن يكون سلسلا، إذا استند على الامتلاك والنفوذ بوضع اليد على المناطق حالياً، أو عبر الحقب التاريخية للدولة السودانية، ولابد من وساطة نزيهة ومحايدة، تلتزم بالمعيارية في مثل هذه الحالات، وبما أن الحياد مفقود في معظم دول الجوار الأفريقي والخليجي، يبقى الخيار الأمثل للوساطة في توزيع تركة دولةــ56 هو الأمم المتحدة.
ورغم الصعاب الماثلة، نعتقد أن التفكير العقلاني، هو التأمل الجاد، في ماذا بعد دولةــ56؟ ولا شك أنّ "الجغرافية" تشكل أصعب المواد في هذا التساؤل؟ سيما حينما تتقاطع مع التاريخ السياسي، في ظل اختزال دولةــ56 البلاد في الخرطوم، ورمزيتها الاستعمارية، مقابل أمدرمان كعاصمة وطنية، ورمزيتها المهداوية. وفي ظل دولةـ56 كدولة نيلية على الأقل في محورها الجغرافي والمعنوي، والرعاية التي تتمتع بها من شمال الوادي، مقابل سابقتها الدولة المهدية، كدولة قومية، عمادها أهالي غرب السودان، وهي معادية للخديوية، وقد ظلت هذه العداوة متقدة تحت الرماد، إلى يوم الناس هذا.
ومما زاد الأمر تعقيدا، أن الخرطوم في مركزيتها، فقدت زمام المبادرة، بسبب عنجهيتها وغرورها، وأن فرض الجغرافيا، بمنطق القوة، بكل تأكيد لن يحقق الاستقرار للشعوب السودانية، لكن القوة كمنهج للمدافعة، التي أقرتها الشرائع السماوية، كضرورة لوقف استمرار العدوان على المستضعفين، وضمان استرداد حقوق المكونات الاجتماعية الضعيفة. هذه القوة التي وقفت في وجه الخرطوم، بلا شك خلقت توازنا كان مفقودا، وبلا شك أن هذا التوازن، سيفرض صوت العقل على الجميع، في نهاية المطاف، ويسوق الجميع في اتجاه الاتحاد الفدرالي بالحسني، رغم تعقيدات الجغرافيا، وحساسية التاريخ السياسي للبلد، وهو الخيار الأفضل بلا ريب.
ebraheemsu@gmail.com
//أقلام متحدة ــ العدد ــ 117//
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
بقلم : سمير السعد ..
في عالمٍ تُثقله الحروب وتغرقه الفواجع، تبرز قصيدة “تهويدة لا تُنيم” للشاعر العراقي غسان حسن محمد كصرخة شعرية تحمل وجع الوطن، وتجسِّد الإنسان العراقي في زمنٍ لم يعد فيه للتهويدات مكان، ولا للطفولة حضنٌ آمن. غسان، ابن العمارة ودجلة والقصب، هو شاعر يكتب بقلبه قبل قلمه، ويغزل قصائده من نسيج الوجع العراقي بأدقّ خيوط الإحساس وأصفى نبرة صدق.
يفتتح الشاعر قصيدته بمشهد يختزل حجم الانهيار الداخلي في صورة جسدية/معمارية رمزية:
“من ربّت على ظهرِ الجسر..،
حتى انفصمت عُراه.”
ليتحوّل الجسر، رمز العبور والحياة، إلى معبر نحو الفقد والانفصال، ولتمتدّ صورة اليُتم على النهر كلحن لا يُفضي إلى الوصول:
“ليمتدَّ اليتمُ على كامل النهرِ،
يعزفُ لحنَ اللاوصول؟!”
هنا لا يتحدث الشاعر عن اليتيم بمعناه الفردي، بل يُحوّله إلى حالة جماعية تسري في جسد المكان، حالة بلد بأكمله يُرَبّى على غياب الآباء، وانقطاع الحكايات.
تدخل الحرب بوصفها شخصية غاشمة، لا تنتظر حتى تهدأ التهويدة، بل تُباغت الزمن وتفتك بالطمأنينة:
“الحرب..،
الحرب..،
(لعلعةٌ..):
كانت أسرعَ من تهويدة الأمِّ لوليدها”
هكذا يضع الشاعر التهويدة، رمز الحنان والرعاية، في مواجهة مباشرة مع صوت الحرب، لنعرف أن النتيجة ستكون فاجعةً لا محالة. ولا عجب حين نسمع عن الوليد الذي لم تمنحه الحياة حتى فرصة البكاء:
“الوليدُ الذي لم يفتر ثغرهُ
عن ابتسام..”
فهو لم يعرف الفجيعة بعد، ولم يلعب، ولم يسمع من أبيه سوى حكاية ناقصة، تُكملها المأساة:
“لم يَعُد أباه باللُعبِ..,
لم يُكمل حكايات وطنٍ..،
على خشبتهِ تزدهرُ المأساة لا غير.!”
في هذا البيت تحديدًا، يكشف غسان عن قدرة شعرية مدهشة على تحويل النعش إلى خشبة مسرح، حيث لا تزدهر إلا المأساة، في تورية درامية تفتك بالقلب.
ثم يأتي المشهد الفاصل، المشهد الذي يُكثّف حضور الغياب:
“عادَ الأبُّ بنعشٍ.. يكّفنهُ (زهرٌ)
لم يكُن على موعدٍ مع الفناء.!”
فالموت لم يكن مُنتظرًا، بل طارئًا، كما هي الحرب دومًا. لقد كان الأب يحلم بزقزقة العصافير، وسنابل تتراقص على وقع الحب:
“كان يمني النفسَ
بأفقٕ من زقزقات.،
وسنابلَ تتهادى على وقع
أغنية حبٍّ..
تعزفها قلوبٌ ولهى!”
بهذا المشهد، يقرّب الشاعر المأساة من القلب، يجعل القارئ يرى الأب لا كمقاتل، بل كعاشق كان يحلم بأغنية، لا بزئير دبابة. حلمُ الأب كُسر، أو بالأدق: أُجهض، على خيط لم يكن فاصلاً، ولا أبيض، بين الليل والنهار:
“حُلم أُجهض على الخيط
الذي لم يكن فاصلاً..،
ولا ابيضَ..
بين ليلٍ ونهار”
لا زمن في الحرب، لا بداية ولا نهاية، ولا فاصل بين حلمٍ وحطام. فالحرب تعيش في الفراغ، وتُشبع نهمها من أجساد الأبناء دون أن ترمش:
“ذلك أن لا مواقيت لحربٍ..
تُشبعُ نهمَ المدافع بالأبناء..”
وفي النهاية، تأتي القفلة العظيمة، القفلة التي تحوّل الحرب من آلة صمّاء إلى كائنٍ لو امتلك عيناً، لبكى، ولابتسم الطفل:
“فلو كانَ للحربِ عينٌ تدمع.،
لأبتسم الوليد!”
ما أوجع هذا البيت! إنه انقلابٌ شعريّ كامل يجعل من التهويدة التي لم تُنِم أيقونةً لفجيعة كاملة، وابتسامة الوليد غاية ما يتمنّاه الشاعر، وكأنّها وحدها قادرة على إنهاء الحرب.
غسان حسن محمد الساعدي ، المولود في بغداد عام 1974، والحاصل على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية، هو عضو فاعل في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق. صدرت له عدة مجموعات شعرية ونقدية منها “بصمة السماء”، و”باي صيف ستلمين المطر”، و”أسفار الوجد”، إضافة إلى كتابه النقدي “الإنصات إلى الجمال”. شاعرٌ واسع الحضور، يكتب بروح مغموسة بجماليات المكان وروح الجنوب العراقي، وينتمي بصدق إلى أرضه وناسها وتاريخها الأدبي والثقافي.
شاعر شفاف، حسن المعشر، لطيف في حضوره، عميق في إحساسه، يدخل القصيدة كمن يدخل الصلاة، ويخرج منها كما يخرج الطفل من حضن أمه، بكاءً وشوقًا وحلمًا. هو ابن العمارة، وابن دجلة، وابن النخيل والبردي، يدخل القلوب دون استئذان، ويترك فيها جُرحاً نديًّا لا يُنسى.
في “تهويدة لا تُنيم”، لا يكتب الساعدي الشعر، بل يعيش فيه. يكتب لا ليواسي، بل ليوقظ. لا ليبكي، بل ليُفكّر. قصيدته هذه، كما حياته الشعرية، تُعلن أن الشعر ما يزال قادراً على فضح الحرب، وردّ الضمير إلى مكانه، لعلّ الوليد يبتسم أخيرًا.