عُمان في معرض الرّياض الدّولي للكتاب
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
في سؤال وجهته لي إحدى الصّحف السّعوديّة حول رؤيتي لمشاركة عُمان كضيف شرف في معرض الرّياض الدّولي للكتاب قلتُ فيه: «إنّ مشاركة سلطنة عمان في معرض الرّياض الدّولي للكتاب الحالي كضيف شرف؛ هي التفاتة كريمة من المملكة العربيّة السّعوديّة، ودلالة واضحة على عمق العلاقات الثّقافيّة بين عمان والسّعوديّة، فالعلاقة بين البلدين ليست وليدة اليوم؛ بل هي موغلة في القدم، وما ترتب على ذلك من تبادلات تجاريّة، وهجرات أسريّة، وتقاربات ثقافيّة، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى إنّ التفاتة معرض الرّياض الدّولي إلى عُمان كضيف شرف في المستوى الثّقافي خصوصا لما تحمله عمان من تعدديّة ثقافيّة متنوعة، ما بين السّهل والجبل، وبين الصّحراء والبحر، من تنوّع في الفنون واللّباس واللّهجات والعادات والتّقاليد، ومن تعدّديّة مذهبيّة وعرقيّة وثقافيّة، وما تحمله من موروث على مستوى النّقوش والآثار الماديّة، وعلى مستوى المخطوطات والمعارف، وعلى مستوى التّراث الشّفويّ أيضا الزّاخر في الذّاكرة العمانيّة.
هذا كلّه، ونتيجة لما تعيشه البلدان المملكة العربيّة السّعوديّة وسلطنة عمان من نهضة معماريّة وحضاريّة واقتصاديّة، لها أثر على الواقع الثّقافيّ، ولأنّ الثّقافة اليوم تجاوزت الجانب المعرفيّ البحت، وأصبح لها تأثير على الاستثمار والسّياحة والاقتصاد والتّنمية بشكل عام، هذا بدوره يسقط أثره على الإنسان في هذه المنطقة، لهذا الالتفاتة إلى المقوّمات الثّقافيّة في البلدان المختلفة، وما تحويه من ثراء وتعدّديّة؛ يساهم بشكل كبير في تنمية البلدان ذاتها من خلال الانطلاقة من الإنسان نفسه، وما يحمله من تعدّديّة ثقافيّة وفكريّة.
لهذا كعمانيين نشكر معرض الرّياض الدّولي للكتاب، كما نشكر المجتمع السّعوديّ قيادة وشعبا على هذه الالتفاتة إلى جارتهم (عمان) المحبّة لهم دوما وأبدا، وبلا شك هذا لن يتوقف عند معرض الكتاب، وإنّما هي صورة مصغرة للجانب الثّقافيّ بين البلدين، بيد أنّه في الواقع تجسيد لتنمية ثقافيّة مستدامة في خدمة الإنسان، وما يسقط أثره في العالمين العربيّ والخليجيّ خصوصا، والإنسانيّ عموما».
وما تقوم به معارض الكتب عموما في الجملة من إعلان ضيف شرف سنوي تخصّصه لدولة معينة، عربيّة كان أم خارج الإطار العربيّ، بحيث يقترب زوّار المعرض من هذه الدّولة من حيث ثقافتها وفنونها، وأدبها وفكرها، وماضيها وحاضرها؛ هي حالة صحيّة جدّا، يتجاوز حدّ التّعرف والتّعارف والتّقارب، إلى حد الاكتشاف والاستثمار والتّقابس، وسبق أن كتبت في جريدة عمان، وفي بعض وسائل التّواصل الاجتماعيّ، أن تكون هذه السّنّة الحميدة حاضرة معنا أيضا في معرض مسقط الدّوليّ للكتاب، فقد جرت السّنّة عندنا أن يكون ضيف الشّرف ولاية من ولايات السّلطنة؛ بيد أنني أرى يمكن الجمع بين الحسنيين، وخصوصا أنّ معارض الكتب دوليّة، فجميل أن يكون الاحتفاء بدولة عربيّة على الأقل، ويكون لها حضورها الكبير في المعرض.
ثمّ إنني أكتب هذه المقالة وأنا بعيد حاليا عن معرض الرّياض الدّولي للكتاب، أي أنني اقرأ الحدث من خارج الحدث، فلن تكون قراءتي بتلك الدّقة والإنصاف، وإنّما هي أقرب إلى الانطباعات، لهذا من خلال تأملي للبرنامج الثّقافي لمعرض الرّياض للكتاب، والصّادر عن مركز الرّياض للدّراسات والأبحاث؛ أرى الحضور العمانيّ بشكل لافت، وحضورهم بشكل شبه يوميّ، وإن كان حضورهم أقرب إلى الأدب والتّأريخ والتّراث؛ إلّا أنّ هذا الحضور العمانيّ الكبير يعطي إشراقة مهمّة للكاتب والمثقف والأديب العمانيّ خارج القطر العمانّيّ.
وفي زيارتي الأخيرة إلى مصر لفت انتباهي حضور الكتاب العمانيّ في بعض المكتبات المصريّة، فمثلا في مكتبة مدبولي في ميدان التّحرير بمصر؛ وجدت العديد من الكتب العمانيّة في المكتبة، ولمّا شاركت جمعيّة الكتّاب والأدباء العمانيّة بمعرض مصغر في إحد المتاحف المصريّة العريقة؛ رأيت أيضا تهافتا كبيرا على الكتاب العمانيّ، وسؤالا عنه، وعن بعض الكتّاب والمثقفين والرّوائيين، كما أجد ذلك من خلال تواصل العديد من الأصدقاء خارج القطر العمانيّ عن طريق وسائل التّواصل الاجتماعيّ سؤالا وبحثا عن الكتاب والكاتب العمانيّ، ولم يقتصر ذلك عند التّراث والشّعر والأدب، بل تجاوز إلى الفكر والفلسفة والرّواية وجميع العلوم والفنون.
وإذا جئنا إلى التفاتة معرض الرّياض الدّولي للكتاب إلى عُمان كضيف شرف يجعلنا نتجاوز الصّورة التّقليديّة للثّقافة، والّتي أحيانا تنحرف عن مسارها في الجانب الإحيائيّ والنّهضويّ، فتتوقف إمّا عند الجانب الأرثوذكسيّ التّقليديّ أشبه بحرفيّة نصوص الأديان، ليس لها من الثّقافة إلا الاسم، وإمّا أن تتجه مصلحيّا، تارة ذات اليمين، وتارة ذات اليسار، وإمّا أن يضعف بريقها، ويخفت حضورها إلى حدّ العدميّة، فنجد غيابا واضحا للثّقافة عن النّهضة والإحياء، إمّا من داخلها لغلبة المصلحة عن استقلاليّة الثّقافة، وإمّا من خارجها للخوف المبالغ حولها سياسيّا ودينيّا واجتماعيّا، لتضيق دائرة حرّيّتها، فيضيق تلقائيا إبداعها وحضورها.
فدول الخليج العربيّ اليوم لم تكن دول الخليج قبل خمسين عاما، والثّقافة الّتي عايشت نهضة المنطقة تطوّرت وتشعبت اليوم بشكل كبير جدّا، فلم يعد الجيل الجديد اليوم كجيل السّبعينيّات والثّمانينيّات من القرن الماضي مثلا، كما أنّ الوسائل اختلفت، ومصادر الثّقافة تشعبت وتعدّدت، وفي الوقت نفسه اختلفت وتباينت، فهذا الجيل خرج إلى الخارج، ورأى عوالم من الثّقافات المتعدّدة والمتباينة، ولم يقتصر معايشته لها عند حدّ السّفر لسياحة أو تعليم، بل أصبح جزءا من هذه الثّقافات، يعايشها في بيته، وفي هاتفه وسوقه، ومع أصدقائه وخلّانه، فالمجتمع الواحد لم يعد محصورا في تلك الصّورة الثّقافيّة الواحدة فيه، بل هناك عوالم من الثّقافات المتباينة، ولو في الصّورة الفردانيّة على مستوى المواطنين، وفي الحالة الجمعيّة نتيجة الهجرات الدّيموغرافيّة، إمّا لعمل أو سياحة أو دراسة أو استقرار وحصول على الجنسيّة، فالحديث عن الهُويّة الواحدة اليوم كمن يعيش في الأدغال والقرى المنعزلة، لا يدرك من العالم غير عالمه المحدود.
لهذا انفتاح منطقة الخليج خصوصا، والعالم العربيّ عموما، كأمّة قوميّة تبطن في جغرافيّتها الشّاسعة كنوزا من الثّقافات المتعدّدة؛ هي الحالة الصّحيّة الّتي ينبغي أن نفكر حولها اليوم، وأن نحافظ عليها، وأن نستثمرها سياحيّا وتنمويّا بما يخدم الإنسان في المنطقة، ومعارض الكتب عموما فرصة مهمّة لتحقيق هذه الغاية؛ لكونها تظاهرة ثقافيّة سنويّة في كلّ دولة من دول الوطن العربيّ الكبير، إذا ما أحسن توظيفها واستثمارها، ولم تقتصر عند حدّ اللّحظة الآنيّة.
وإذا نزلنا إلى تّظاهرة معرض الرّياض الدّولي للكتاب، والواقع الحاليّ الّذي تعيشه المملكة العربيّة السّعوديّة من خلال رؤية 2030، وسلطنة عمان من خلال رؤية 2040، وما للثّقافة من أهميّة كبرى في نجاح الرّؤيتين، ولأنّ الشّعبين يعيشان حالة من التّداخل والتّقابس والتّزاور السّياحيّ والثّقافيّ والرّياضيّ، والتّعاون الاستثماريّ والاقتصاديّ والّسياسيّ والأمنيّ، هذا كلّه يعزّز حالة الانفتاح، فهو وإن كان قائما قديما وحديثا، إلّا أنّ تعميق ذلك اليوم ضرورة ملحة، وتوسيع دائرة الاشتراك والتّعاون والتّداخل يعود نفعه ليس على البلدين فحسب؛ بل على الخليج ككل، لما للسّعوديّة وعمان من ثقل تأريخيّ وثقافي وسكانيّ وسياسيّ، وأرث حضاريّ وثقافيّ، ومقدّرات جغرافيّة وسياحيّة، نابع من داخل الدّولتين ذاتهما، وفي الوقت ذاته أيضا يتوسع أثر ذلك ونفعه إلى العالمين العربيّ والإنسانيّ بشكل أكبر.
لهذا اختيار عمان كضيف شرف في معرض الرّياض الدّولي للكتاب هي التفاتة حكيمة في الوقت الحاليّ، راجين أن يكون لهذا أثره لاحقا في تنشيط الوضع الثّقافيّ في المنطقة ككل، وفي الوطن العربيّ عموما، لتكون الثّقافة عنصرا مهمّا في إحياء المنطقة ورقيها، بعيدا عن الاقتصار عند الاحتفاءات العابرة والآنيّة معا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على مستوى ة ثقافی ة عمان من من خلال ة عمان من الث
إقرأ أيضاً:
الاقتصاد العماني وسياسات التنويع والابتكار
يمر الاقتصاد العُماني بمرحلة مهمة من التحولات النوعية، تشهد خلالها سلطنة عمان تطورا ملحوظا في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية، ضمن رؤية طموحة ترتكز على التنويع والابتكار.
ويمكن أن نلمس أثر هذا التحول بجلاء في أداء القطاعات غير النفطية، التي تضطلع بدور متنامٍ في قيادة النمو، وتأكيد قدرة الاقتصاد الوطني على الاستمرار في التوسع، متجاوزا إلى حد كبير تداعيات تقلبات أسعار النفط.
وقد أسهم في تعزيز هذا النجاح السياسات الاقتصادية التي اعتمدت على تخطيط استراتيجي طويل المدى، وتفعيل البرامج التنفيذية للخطة الخمسية الحالية، بما يضمن استدامة النمو ويعزز صلابة الاقتصاد في مواجهة التحديات.وفي دلالة بارزة على الفاعلية المتزايدة للأنشطة الاقتصادية خارج إطار النفط، سجل معدل نمو الاقتصاد غير النفطي خلال العام الماضي 3.9%.. هذا النمو المتسارع هو نتاج لكثير من المحفزات، من بينها توسيع الشراكات الاقتصادية، والاتفاقيات الاستثمارية، إضافة إلى الحراك النشط لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث بلغ حجم هذه الاستثمارات ـ وفق مؤشر الربع الأول من هذا العام 30.6 مليار ريال عُماني، مما يعكس الثقة المتزايدة التي تحظى بها سلطنة عمان كوجهة عالمية جاذبة لرؤوس الأموال.ولا شك أن الاتفاقيات الاستراتيجية، التي أبرمتها سلطنة عمان مع عدد من الاقتصادات الكبرى، فتحت آفاقا جديدة للتعاون والشراكات في مجالات واعدة مثل الهيدروجين الأخضر، كمحور مهم في مسار التحول الصناعي، إلى جانب تأسيس صناديق استثمارية مشتركة تعزز من تمويل مشروعات التنمية المستدامة، وفتح أسواق جديدة لتمكين القطاع الخاص.
ومما يستوجب الإشارة هنا، الدور الكبير لجهاز الاستثمار العُماني في استقطاب استثمارات مباشرة تجاوزت 3.3 مليار ريال عُماني، كما نجحت منصة «استثمر في عُمان» في توطين أكثر من أربعين مشروعا بقيمة تفوق ملياري ريال، في قطاعات حيوية تشمل السياحة، والصناعة، والتعدين، والطاقة المتجددة، والصحة، والأمن الغذائي، وجميعها تشكل روافد حقيقية للنمو، وتوفر فرصا واسعة للتوظيف وتنمية المهارات، إلى جانب إسهامها في إثراء المحتوى المحلي وتنشيط قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتمكين الشباب العماني في مجالات الابتكار والتقنيات الحديثة، خصوصا في الصناعات المستقبلية.
وعلى هذا المسار تواصل الحكومة دورها المحوري، من خلال تحديث السياسات التنظيمية، وتوفير بيئة محفزة للاستثمار، بما يضمن تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وتنمية الجوانب الاجتماعية وفق منهجية تراعي الاستدامة، وتزيد من قدرة مشاركة الأفراد في النشاط الاقتصادي، انطلاقا من قناعة راسخة بأن الإنسان العماني هو محور التنمية وغايتها.
وعلى هذا يمكننا القول إن ما تحقق حتى الآن من خطوات في الإصلاح الاقتصادي، وما يتم الإعداد له من خطط وبرامج، يؤكد أن سلطنة عمان تمضي نحو بناء اقتصاد تنافسي ومبتكر، يقوم على التنويع والمعرفة، ويستند إلى بنية قوية من الثقة والتكامل بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع، ما يمهد لمرحلة جديدة من النمو المتوازن والمستدام.