جريدة الرؤية العمانية:
2025-12-01@23:10:53 GMT

المجتمع ومنظومة القيم

تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT

المجتمع ومنظومة القيم

محمد العاصمي

يُعرِّف ابن خلدون "الرقابة الاجتماعية" أو كما أطلقَ عليها في مقدمته "الضبط المجتمعي" بأنها "الأسس التي يرجع إليها أيّ تجمّع بشريّ إما يكون لها أساس عقدي ديني شرعي ويتم تطبيقها بناء على الإيمان بالثواب والعقاب، أو أساس سياسيّ عقلي وضعي يوجب عليهم اتباعه بعد معرفة ما يترتب على هذا الأساس من مصحلة مترتبة"، ويرى ابن خلدون أن أهم المقومات الضابطة للمجتمع تتمثل في: "الدين، والقانون، والآداب العامة، والأعراف، والعادات، والتقاليد".

وأي مجتمع بشري يتفاعل أفراده فيما بينهم وفق هذه المنظومة والمحددات التي تضبط العلاقات فيما بين الأفراد والتي عرفت بالأعراف المجتمعية والتي ترتبط بالأطر التي يضعها أفراد المجتمع بأنفسهم والتي تهدف إلى جعل الحياة أكثر سهولة وتنظيمًا وتحديدًا للحقوق والواجبات.

ما يدعو للحديث عن منظومة القيم المجتمعية هو التسارع الكبير في وتيرة الحياة والتغييرات التي تطرأ على سلوكيات الأفراد باستمرار وبشكل سريع جدًا، وكثرة المصادر التي أصبحت تغذي المجتمعات والأفراد بسلوكيات لم تكن موجودة من قبل، وحتى اللغات واللهجات التي كانت سمة مميزة لكل مجتمع أضحت هي الأخرى ضحية لهذا التغيير الذي لم يعد يوقفه أي حاجز.

لقد اكتسبت المجتمعات العديد من السلوكيات التي أثرت على منظومة القيم فبعد أن كانت مصادر السلوك أو لنقل القيم محددة فيما ذكره ابن خلدون دخلت العديد من المصادر لتشكل منبعا جديدا يصب في مجرى القيم، وهذا التغيير مصدره هو تغير وسائل الاتصال بين المجتمعات؛ حيث إن التواصل البشري هو الأصل في نقل كل شيء من معارف وعادات وأطباع ومهارات وغيرها، وقد كان هذا التواصل في القديم محصورا بمجموعة من الوسائل البدائية جعلت من عملية انتقال القيم عملية بطيئة مسيطر عليها وتستغرق فترات زمنية طويلة ليحدث التأثير.

وتطورت وسائل الاتصال بين البشر وحدثت الهجرات الجماعية وتعددت وسائل النقل الحديثة وكل هذا جعل من التواصل أكثر سرعة وأتسعت الدائرة لتشمل أعدادا كبيرة من البشر وأثر هذا على سرعة نقل العادات والقيم وأصبح التأثير يحدث في فترة زمنية أقل من السابق، ومع حدوث الثورة الصناعية الرابعة وظهور وسائل التواصل الاجتماعي انتشر بشكل واسع ما يعرف بـ"المجتمعات الافتراضية"، والتي هي عبارة عن ساحات فضائية يلتقي فيها البشر بمختلف أجناسهم ويتفاعلون فيما بينهم ويتبادلون الأفكار والآراء دون الحاجة للتنقل والسفر والتواجد في مكان واحد، ويُعد هذا التحول الكبير الذي حدث في وسائل الاتصال سببًا مباشرًا في تأثر المجتمعات بعضها ببعض وتدفق المعارف والسلوكيات فيما بينها مما جعل كثيرا من المجتمعات مستوردة ومتقبلة لعديد من القيم التي لم تكن يومًا ما جزءًا من ثقافتها.

إنَّ أكثر المجتمعات تضررًا من هذا الدفق الحاصل هي تلك التي لا تمتلك ركائز وأساسات ودعائم تستند عليها لمواجهة هذه الموجات ومقاومة الزخم العالي من المدخلات التي تصل إلى أفرادها نتيجة احتكاكهم وتواصلهم مع أفراد من مجتمعات أخرى، ولقد أثر هذا التداخل في تغيير كثير من السلوكيات والعادات والتقاليد والأعراف وفي جميع المستويات وشمل اللغة واللبس ونمط الحياة وحتى أثر في اعتناق البعض لأديان أخرى لم يكونوا على علم بها.

وأمام هذه التحولات المتسارعة التي لا يمكن إلّا القبول بها والتعاطي معها كواقع لا يمكن تجاهله، يبرُز اتجاه مُهم يدعو للتفاعل والتعامل مع الوضع والتحضير له، حتى يتجنب المجتمع الوصول إلى مرحلة فُقدان الهوية والانصهار والذوبان، وسط هذا الكم الهائل من الغزو القيمي والثقافي، وحتى نتمكن من ذلك لا بُد من تقوية الركائز والدعائم التي يقوم عليها بناء القيم المجتمعة والتي تتمثل في ثلاث أساسيات تقع عليها هذه المسؤولية؛ وهي: المدرسة والمسجد والأسرة؛ حيث تُشكِّل هذه المنظمات المجتمعية الثلاثة رأس الحربة التي يمكنها حماية المجتمع من هذه التحولات التي قد تقضي على هويته وتجعله نسخة مكررة من مجتمعات لا ترتبط معها جغرافيًا يعيش أفرادها الاغتراب داخل أوطانهم.

إنَّ الحديث عن هذه المؤسسات الثلاث يحتاج إلى تفاصيل مستقلة في قادم المقالات، لكن يبقى أن أشير إلى أن المجتمعات التي نجحت في الحفاظ على قِيَمها هي التي تحقق الريادة في العالم، وخاصة تلك القيم المرتبطة بالإخلاص والأمانة والعطاء.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

وفد الأزهر الشريف إلى مدريد لتعزيز التسامح وصناعة الوعي الفكري الآمن

توجه وفد من الأزهر الشريف إلى العاصمة الإسبانية مدريد، بتوجيهات من فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، للمشاركة في المؤتمر العلمي الذي ينظمه المركز الثقافي الإسلامي بليجانيس – مدريد تحت عنوان: «دور المؤسسات الدينية في صناعة الوعي الفكري الآمن وانعكاسات ذلك على سلامة المجتمعات»، يوم الاثنين القادم.

 

 ويشارك في المؤتمر نخبة من علماء الأزهر والخبراء الأوروبيين، في خطوة تهدف إلى ترسيخ قيم التسامح والتعايش العالمي وتعزيز أمن الوعي الفكري في مواجهة التحديات المعاصرة.

 

قيادات الأزهر وأهداف المشاركةويشارك في فعاليات المؤتمر كل من:

دكتور عباس شومان، الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف.

دكتور  محمد الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية.

دكتور  ثيليا تيبث، أستاذة العلوم النفسية بجامعة كمبلوتنسي.

 دكتور  أنتونيو نيابرو، أستاذ العلوم الدينية بجامعة قرطبة، إلى جانب عدد من القيادات الدينية والأكاديمية.

وأكد الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية أن دعم الوعي الفكري وحماية المجتمعات من موجات التطرف والتشويش المعرفي يمثل أحد أهم أولويات الأزهر في العصر الرقمي، مشيرًا إلى أن المؤسسات الدينية اليوم مطالبة بأدوار أكثر عمقًا وفاعلية تمتد إلى بناء وعي نقدي قادر على فرز المعلومات وتحصين العقول وتعزيز الروابط المجتمعية بعيدًا عن الاستقطاب الفكري وبث الفزع.

 

تعاون عالمي لبناء وعي آمن

وشدد الجندي على أن التعاون بين المؤسسات الدينية والجامعات والمراكز البحثية الأوروبية خطوة محورية لبناء فهم مشترك حول حماية المجتمعات، مؤكدًا أن خطاب الأزهر يقوم على ثلاث ركائز أساسية:

الفهم المنضبط للنصوص الدينية

الوعي العلمي بالواقع

الموازنة بين الثوابت ومتغيرات العصر

وأضاف أن أهمية المؤتمر تتزايد مع انتشار المحتوى الرقمي المؤثر على وعي الشباب، مشيرًا إلى أن الوعي الآمن لا يُمنح من الخارج، بل يُبنى داخليًا من خلال تعليم راسخ، مؤسسات قوية، وقدوة صالحة، ومنظومات إعلامية مهنية.

 

الأزهر والرسالة العالمية

ويعمل الأزهر الشريف بقيادة فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب على تطوير برامج للتواصل العالمي بلغات متعددة لدعم الحضور الأزهري الرشيد في المشهد الدولي، وتقديم خطاب يواكب التحديات الفكرية المعاصرة، بما يعزز التسامح والتعايش ويصون أمن المجتمعات من التشويش الفكري والتطرف.

 

جهود المركز الثقافي الإسلامي بمدريد

يأتي هذا المؤتمر في إطار جهود المركز الثقافي الإسلامي بمدريد لمناقشة قضايا الوعي المجتمعي والاندماج الإيجابي، بمشاركة رسمية وأكاديمية واسعة، لتعزيز الحوار بين الثقافات وتقديم نموذج حقيقي للتعايش السلمي وبناء المجتمعات الواعية.

مقالات مشابهة

  • مفهوم الحق
  • ماذا فعلنا بقيم المجتمع؟
  • البعثة الأممية تدعم «المركز الليبي للأعمال المتعلقة بالألغام» في جهود التطهير
  • سوريا تدعو المجتمع الدولي لوقف الاعتداءات الإسرائيلية التي تهدد الأمن الإقليمي
  • حكم أجرة السمسار فيما زاد عن الثمن المطلوب من المالك
  • تصاعد نفوذ اليسار البريطاني.. أماميان يحذر من "تحولات تهدد القيم التقليدية"
  • عضو العفو الرئاسي: جرائم مستحدثة تضرب المجتمع بسبب غياب القيم وانهيار المنظومة التقليدية
  • بين حصار لا ينتهي وموت بطيء .. الحقيقة التي يحاول العالم تجاهلها في غزة
  • وفد الأزهر الشريف إلى مدريد لتعزيز التسامح وصناعة الوعي الفكري الآمن
  • الخدمة المدنية تختتم دورة توعوية لمدراء الموارد البشرية لتعزيز القيم والسلوك المهني