لعل أبرز الإيجابيات التي خلفتها عملية "طوفان الأقصى"، التاريخية وغير المسبوقة، هي أنها كشفت بوضوح لا غبار عليه، أنّ قوة إسرائيل، من قوة الولايات المتحدة الأمريكية، وأنّ هذه الدولة "العظمى" في العالم، لا تدعم إسرائيل وتساندها فحسب، إنما هي حديقتها الخلفية، وسبب وجودها واستمرارها أصلا..

لقد كشف الرئيس الأمريكي الديمقراطي، جو بايدن، عن مستوى من الدعم والإسناد والحضانة "لإسرائيل"، لم يتوقعه أحد من المراقبين، لا في الداخل الأمريكي، ولا في عواصم أوروبية، ولا حتى في العواصم العربية، الحليفة أو الصديقة للولايات المتحدة، أو تلك المطبّعة مع الكيان الصهيوني، إلى درجة أنّ بعض المعلقين السياسيين الأمريكان، وصفوا رئيس بلادهم، بكونه "ناطقا رسميا باسم الحكومة الإسرائيلية" المتطرفة، بسبب مواقفه وتصريحاته المنحازة كليا لتلّ أبيب، والتي قدمت خطابا أمريكيا منتجا للعنف ضدّ الفلسطينيين، ومشرعا له، في الوقت الذي بدأت تخرج مظاهرات في الولايات المتحدة، منددة بالموقف الأمريكي، ومطالبة بإنهاء الحرب على غزّة.



وهكذا من منطق تبرير القصف الوحشي والبربري لإسرائيل على قطاع غزة، إلى إرسال وزيري الخارجية والدفاع إلى تل أبيب، بتلك الصورة والتصريحات المهينة للغلاف السياسي والدبلوماسي لأكبر دولة في العالم، وصولا عند تصريحات بايدن (الإثنين) لإحدى القنوات الأمريكية، بأنّ الهجوم البري "ضرورة لقطع دابر السرطان في غزة"، في إشارة إلى حركة حماس، وفصائل المقاومة الفلسطينية الباسلة.. بين هذا وذاك، كانت واشنطن، الدافع للعنف، والمحرض عليه، والحامي للكيان الإسرائيلي المحتلّ.

كانت الولايات المتحدة، على مرّ السبعين عاما الماضية أو تزيد، منذ "النكبة"، تراوح بين دعم إسرائيل "المحسوب"، وقدر من "الحياد"، يمكّنها من فتحة في مستوى الجدار الدبلوماسي، بحثا عن حلول ومخارج لتداعيات العنف الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين، لكنها هذه المرة، أطلقت العنان للآلة الحربية الأمريكية، المهداة لإسرائيل، لكي تفتك بغزة، شعبا ومباني ومؤسسات، في سياق "عقاب جماعي"، كما وصفته الصين ومصر وإيران وتركيا..

المقاومة الفلسطينية، أدخلت ضمن سردية الصراع مع إسرائيل، فكرة "الصدمة"، التي باتت جزءا من التكتيك العسكري، وليست عملية خاضعة للصدفة..بل الأدهى من ذلك، أنّ دبلوماسيتها (بلينكن ووزير الدفاع)، كانت في مفارقة تامة مع خطاب بايدن.. ففي الوقت الذي كان الرجل يدعو إلى القضاء على "حماس"، كان بلينكن يجري المفاوضات لإيجاد منفذ للمساعدات الإنسانية لبضع ساعات، وهو ما رفضه نتنياهو، رئيس الحكومة الصهيونية، لأنّ القناة الإسرائيلية الأساسية، هي البيت الأبيض تحديدا، أما البقية، فهم جزء من الديكور الأمريكي الباهت، لا غير..

نعم، المقاومة لا تواجه إسرائيل بصورة منفردة، إنما تواجه آلة عسكرية أمريكية، عتادا وعدّة وإمكانات لوجستية، وضباطا مدربين على أشدّ وأعنف أنواع القتال على الصعيد الدولي.. إنّ المقاومة في حرب (وليست مجرد هجمات، أو منطق الفعل وردّ الفعل، كما يحاول أن يصوّر لنا البعض)، مع أعتى الجيوش في العالم، وأكثرها تدريبا وتمكنا وقدرات..

وهنا يجدر بنا التوقف عند جملة من الأمور اللافتة، أهمها:

1 ـ إن، المقاومة الفلسطينية، أدخلت ضمن سردية الصراع مع إسرائيل، فكرة "الصدمة"، التي باتت جزءا من التكتيك العسكري، وليست عملية خاضعة للصدفة..

ليست الصدمة مجرد مباغتة ـ كما يحاول البعض أن يفسّر ـ بقدر ما هي خيار تكتيكي عسكري، لم يفاجئ العدو فحسب، بقدر ما هزّ كيانه، وكشف عن عوراته الأمنية المختلفة، التي سرعان ما سقطت مثل أوراق الخريف، على غرار القبة الحديدية، وقوة الاستخبارات، والجيش الذي لا يقهر، والبلد الآمن بفعل الأسوار والمستوطنات والأسيجة الإسمنتية والحديدية، والمراقبة العسكرية والأمنية، برا وجوّا وبحرا..

لذلك، ردّت إسرائيل الفعل، كما لو كانت قد طعنت في "شرفها العسكري"، ومصدر قوتها المزعومة، ومضمون وجودها..

2 ـ إنّ المقاومة، لم تراهن على حاضنة فعلية على المستوى الإقليمي والدولي، إذا استثنينا إيران وجنوب لبنان وسوريا، وروسيا المتأرجحة بين مصالحها وحساباتها وعلاقاتها وتحالفاتها.. لذلك عندما خططت المقاومة ونفّذت، لم تجد مسندا حقيقيا، عدا التحركات الشعبية المتضامنة، والحراك الإيراني اللافت في المنطقة، وبعض من الضمير العالمي، الإعلامي والحقوقي والسياسي، الذي ما يزال خافتا، وربما شهد عنفوانه خلال الأيام والأسابيع القادمة.

صحيح أنّ المقاومة، كشفت وهن البيت الإسرائيلي "الأوهن من بيت العنكبوت"، ولكنّها كشفت كذلك، ضعف النظام العربي الرسمي، الذي استعاد "سيستام" ما قبل ثورات الربيع العربي، في ردّة باتجاه ردّ الفعل القديم الخانع للبيت الأبيض، حيث بات ـ كما كان سابقا ـ جزءا من المنظومة الأمريكية، بل وأحد أدواتها الفاعلة، في منع نهوض الشعوب العربية والإسلامية، وتحقيق تطلعاتها في الحرية والسيادة والديمقراطية، وفكّ الارتباط مع الأجندات اللوبية الدولية، وامتداداتها في المنطقة.

3 ـ أن ثمّة ضعفا دوليا ملحوظا، ما يفسّر عجز القوى الدولية (الصين ــ روسيا ــ ألمانيا ــ الهند ــ اليابان..)، عن جرّ الولايات المتحدة، إلى مربع "التشاركية الدولية"، وإيقاف غطرستها، وانفرادها بالقرار الدولي، بلا أي منازع..

إننا ـ وبرغم كل الخطابات الزائفة التي تتحدث عن "بديل عالمي"، وعن قوة عالمية ناشئة لمنافسة أمريكا، وعن تشكل تجمعات سياسية واقتصادية (البريكس..)، وعن نهاية العهد الأمريكي المتفرّد بالشأن، الدولي ـ ما زلنا نعيش في إطار القطبية الواحدة، في ظل فراغ دولي كبير ورهيب، جعل من واشنطن، الخصم والحكم في آن معا، سيما في ضوء ترهل المنظمة الأممية (منظمة الأمم المتحدة)، التي تحولت إلى غرفة أمريكية خلفية، باعتبارها غير قادرة على أن تكون قوة التوازن والعقلانية والهدوء المطلوب، زمن العواصف، وذلك بسبب ميثاقها وقوانينها وتقاليدها و"الماكينة" التي تكبّلها، وهو ما توقف عنده أمينها العام الأسبق، المصري، بطرس غالي، الذي حاول القيام بإصلاحات نوعية صلب المنظمة، لكنّ "فيتو" الولايات المتحدة، منعه من ذلك..

هل تؤدي الحرب على غزة، إلى إعادة النظر في المنظومة الدولية برمتها، وفي دور الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مسألة التوازن على الصعيد العالمي؟

المقاومة، كشفت وهن البيت الإسرائيلي "الأوهن من بيت العنكبوت"، ولكنّها كشفت كذلك، ضعف النظام العربي الرسمي، الذي استعاد "سيستام" ما قبل ثورات الربيع العربي، في ردّة باتجاه ردّ الفعل القديم الخانع للبيت الأبيضوهل تنجح غزة المنكوبة والمدمّرة، بفعل القصف والحرب والحصار، في أن تكون الدافع والمحرّك لتحالفات جديدة، ومراجعات ضرورية للسياسات العالمية، أم ستكون البداية لغطرسة أمريكية طويلة المدى، بحسب منطق الغالب، الذي حدثنا عنه ابن خلدون، والذي لا يفتأ يجعل المغلوب تحت إمرته وسطوته بكل دم بارد ممكن؟

لقد استنفذت المنظومة العلائقية الدولية والإقليمية، الخارجة من أشلاء الحرب العالمية الثانية، ولاحقا من الحرب الباردة، أغراضها، وباتت اليوم تحتاج إلى رؤية جديدة، بعيدا عن منطق الاستعمار والاحتلال، ولغة الغالب والمغلوب..

ولعلّ الحرب اليوم على غزّة، بما تكشفه من إخلالات في العلاقات والتحالفات والسياسات والأفكار والحقوق والحريات، تحملنا إلى أفق جديد، يفترض أن يشرع التفكير فيه بالعمق اللازم، من قبل جميع المكونات في العالم، حتى لا يولد "نظام دولي جديد"، نسخة شبيهة بما نحن فيه الآن، وهذا يحتاج إلى الكثير من الجهود والأفكار والمقاربات والتنازلات، خصوصا مع "غول" تغيّر المناخ"، واستتباعاته الاقتصادية والديمغرافية والجيو سياسية، التي لا يمكن مواجهتها، إلا بتضامن دولي، واستراتيجيات مشتركة..

فهل يرتفع المثقفون وصناع القرار في العالم العربي والإسلامي أولا، وعلى الصعيد الدولي ثانيا، إلى مستوى هذه التحديات الرئيسية، أم يتم إنهاء الحرب ـ ولو بعد حين ـ ويجري الحفاظ على ذات القوى والتوازنات والعلاقات والتحالفات ؟؟

كل المؤشرات تفيد بأنّ الماء يتحرك في الوادي، وإن بشكل بطيء..

ـ فالمقاومة، ليست مجرد آلية عسكرية نضالية، إنما هي فكرة ومشروع تحرير، وديناميكية نضالية، من الصعب إنهاؤها، أو وأدها أو حتى تعطيلها..

ـ إنّ حديث إيران عن فتح الجبهات، سيدفع الآلة العسكرية الأمريكية والإسرائيلية، إلى التردد ألف مرة، قبل المغامرة بالتوغل البرّي، بما يجعل فرص الدبلوماسية، أنشط وأوسع، وتغيير بوصلة الصراع من السياق العسكري إلى الجانب السياسي، أمرا ضروريا وعاجلا..

لقد استنفذت المنظومة العلائقية الدولية والإقليمية، الخارجة من أشلاء الحرب العالمية الثانية، ولاحقا من الحرب الباردة، أغراضها، وباتت اليوم تحتاج إلى رؤية جديدة، بعيدا عن منطق الاستعمار والاحتلال، ولغة الغالب والمغلوب..ـ إنّ تصريحات الرئيس الأمريكي، بايدن، برفضه القطعي فكرة احتلال غزة، يشير إلى خشيته من تأليب الخصوم الدوليين، على غرار الصين وروسيا، وانتقاداتهما التي ستطال المواقف الأمريكية، من قضيتي  "تايوان" وأوكرانيا، بما يجعل صورته مهتزة في نظر الرأي العام العالمي، وهو الذي أقام سردية خطابه الانتخابي الذي جاء به إلى البيت الأبيض، على قاعدة حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والمساواة بين الشعوب والدول..

ـ فكرة إنشاء "الدولة الفلسطينية"، التي نشط الحديث عنها، كخيار ضروري لإنهاء العنف والحرب، وهو ما جاء على لسان القيادة السعودية والتركية والقطرية، وما أعلنه الرئيس الأمريكي في مقابلته التلفزيونية الاثنين المنقضي.. وهذا التخبط الأمريكي الرسمي، بين التحريض على دحر حماس، ومنع التوغل البري، والحديث عن "الدولة الفلسطينية"، يشير إلى أنّ مخاض الوضع الراهن، لن ينتهي وفقا للرغبات الإسرائيلية، حيث تتعالى في قلب تل أبيب، أصوات تقر بفشل إسرائيل خلال السبعين عاما الماضية، وتطالب بوضع جديد، بل ثمّة من يتحدث عن نهاية إسرائيل، في قلب هذه الحرب..
وعندما يدبّ اليأس في شعب ونخب، أقاما وجودهم على مغالطات تاريخية، وادعاءات دينية فضفاضة، فذاك مؤشر على بداية النهاية لوضع ومرحلة، لا يمكن أن يستمر أكثر مما هو عليه الآن.. 

*كاتب وإعلامي من تونس

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الفلسطينيين الحرب غزة احتلال احتلال فلسطين غزة حرب تداعيات سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة فی العالم

إقرأ أيضاً:

كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟

أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.

ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.

فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.

النكبة

لقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.

فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.

قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.

إعلان

وحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.

فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.

فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".

ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.

التنظيمات الشعبية ونقد الدولة

أمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.

وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".

وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.

وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".

وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.

أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.

وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.

إعلان النكسة

لقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.

مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.

وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.

واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".

ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟

مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".

وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.

ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.

وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".

وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.

وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".

والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.

إعلان حرب العبور

لقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.

مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".

ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.

استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".

ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.

وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.

لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.

وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.

بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.

وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.

لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.

ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • إغاثة غزة.. منظمات يهودية أميركية تضغط على إسرائيل
  • المبعوث الأمريكي يوضح عدد الساعات التي قضاها في غزة والهدف من زيارته
  • غليون لـعربي21: أوروبا تعترف بفلسطين خوفاً من وصمة الإبادة التي شاركت فيها
  • وزير الخارجية الأمريكي: إقامة دولة فلسطينية دون موافقة إسرائيل مستحيل
  • ألمانيا: عزلة “إسرائيل” تزداد بسبب الحرب على غزة
  • لافروف مستقبلا الشيباني: اتفقنا على إعادة النظر في جميع الاتفاقيات السابقة
  • لافروف: اتفقنا على إعادة النظر بجميع الاتفاقيات مع دمشق كما أكدنا ضرورة رفع جميع العقوبات المفروضة عليها فوراً
  • إيران تطالب أمريكا بتعويضات عن خسائرها خلال الحرب مع جيش الإحتلال
  • كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
  • خطوات تنظيم أمريكية للتعامل مع قضية الحرب في السودان