"في مهبّ السّرد".. دراسة نقدية حديثة للباحثة فتيحة كحلوش
تاريخ النشر: 23rd, October 2023 GMT
جملة من الأسئلة تحاولُ الباحثة الدكتورة فتيحة كحلوش الإجابة عنها في دراستها النقدية، التي تحمل عنوان "في مهبّ السّرد"، الصادرة عن دار خيال للنشر والترجمة بالجزائر، أبرزُها مَتى تكُون قراءة السّرد شبيهة بالتواجد في مهبّ الريح، أو مهبّ العاصفة، مهبّ السّرد؟، وهل هناك سرد غير حازم لا يُحرّك ولو نسيمًا قرائيًّا؟.
واشتغلت الباحثة في الكتاب على نماذج روائيّة تُحرّك عواصف من القلق، والأسئلة الثقافية، والإنسانية، المتجليّة في سرد راقٍ ومحترف يمكن الاستلهام منه، كما طرحت نخبة من الأسئلة العلميّة الحسّاسة في منجز قد تفضي قراءتُه إلى طرح المزيد من الأسئلة السّردية والثقافية حول مدوّنة عربيّة لا تزال بحاجة إلى المقاربة، بكلّ أوجهها.
وتوضح الباحثة أنّها اعتمدت لإنجاز هذه الدراسة النقدية على مجموعة من الأعمال الروائيّة، وهي "الموت عمل شاق" للروائيّ السُّوري خالد خليفة، و"اليهودي الحالي" (علي المقري/ اليمن)، و"في ديسمبر تنتهي كلُّ الأحلام" (أثير عبد الله/ المملكة العربية السعودية)، و"ذاكرة الجسد" (أحلام مستغانمي/ الجزائر)، و"يسار بن الأعسر" (الأزهر عطية/ الجزائر).
وتوضح: "أنّ الكتاب يشتمل على قراءات وتأويلات في بعض الروايات العربيّة المعاصرة التي وضعها هاجسُ الحكي في مهبّ حياة اجتماعية وثقافية شائكة يطبعُها ماض ثقيل، ومستقبل غامض، فراحت تبحث عن بعض التصالح مع الذات والآخر عبر الكتابة، بوصف هذه الأخيرة إمكانا وجوديًّا آخر يسمح في كثير من الأحيان، بما لا تسمح به الحياة اليومية العربية المثقلة بالخيبة والانتكاسات" مبينة أن هذه الروايات حققت لكتّابها حرية الإقامة في الفضاء المُشتهى، كما أنها تضع القارئ في مهبّ السّرد، فتنقله بين عوالم قلقة متجاوزة للأنموذج المألوف، وهو ما ينقل عدوى القلق إلى القارئ الذي يُجدّد عبر تلك النُّصوص، عنفوان أسئلته عن الحياة والموت، والحبّ والعنف، والذات والآخر، والمركز والهامش، وما يرافق ذلك من أسئلة عن النوع الروائي وميتا- سرديته في عالم يُعاني من "فرط" الأشكال وضياع المعنى.
المشترك
وتذكر المؤلّفة أن القارئ قد يتساءل عن المنطقة/ المنطق المشترك بين الأعمال موضوع المقاربة: ما الحيّز الفكري أو الجمالي الجامع بينها؟ في الواقع كلُّ متن من المتون السّردية المقروءة يواجه على الأقلّ من الناحية الموضوعاتية - "منطقة" مختلفة، لكن ما يؤلف بين المختلف هو منطق قراءة الراهن العربي، وهو منطقٌ مستفزٌّ للقارئ حدّ التخلُّص من الاستفزاز "بالانكتاب" عبر العمل؛ وفعل الانكتاب لا ينبني بالضرورة في حقل الانفعال ذي الطابع الاحتفائي لكنّه أيضا لا ينفلت تماما من أسر المؤلف الذي يرمي بمتلقيه بعنف في مهبّ السرد".
ويذكر أن فتيحة كحلوش، مؤلّفة الكتاب، تشتغل أستاذة للأدب العربي بكلية الآداب واللُّغات بجامعة سطيف (شرق الجزائر)، وسبق لها أن أصدرت العديد من الكتب النقدية، أهمُّها "بلاغة المكان" دار الانتشار العربي بيروت، (لبنان/2008)، و"عز الدين المناصرة.. هوميروس فلسطين والأردن"، مؤلّف جماعي (الأردن/ 2012)، و"الشعرية الفلسطينية.. نسقيّة العلامة وتحوُّلات المعنى" (الأردن/ 2013)، و"محاضرات في تحليل الخطاب الشعري" (الجزائر/2015)، و"محاضرات في مناهج التحليل" (الجزائر/ 2015)، و"المحكي الروائي عند واسيني الأعرج.. من الفتنة إلى ما بعد الإيديولوجيا" (الجزائر/2017).
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة فی مهب
إقرأ أيضاً:
القارئ الواعي.. محمد المنصور نموذجا
تكمن قيمة قراءة الكتب في الأثر المعرفي الذي تتركه بعد أن تُطوى الصفحة الأخيرة في الكتاب، ولكن هناك قيما أخرى تتمثل في إحياء الذاكرة والتذكير بأشخاص أو مواقف مر بها المرء، وبقيت تنتظر من يؤكدها أو تحضر كشاهد على حدث معين. وهذا ما سيتم ذكره في هذه المساحة.
قرأت منذ أيام كتاب (فن الروائي ووعي القارئ: تأملات في أركان فن الرواية) للكاتب والروائي السعودي بدر السماري. الصادر عن دار تشكيل للنشر والتوزيع. استعرت الكتاب من الصديق الدكتور محمد المهري. وما أن تصفحته حتى وجدت نفسي انسحب إلى مركزه سابحا في فلكه، صفحة بعد أخرى وموضوعا يليه آخر. يتوزع الكتاب على ١٧٣ صفحة، وكل صفحة تتطلب مجهودا من التركيز، لأن كل صفحة تُعد خُلاصة أفكار، ومحصلة قراءات معمقة لأهم الروايات والكتب الأدبية. كمثل هذه العبارة التي قالها الروائي التشيكي ميلان كونديرا في كتابه فن الرواية: «الرواية التي لا تحاول اكتشاف سرّ من أسرار الوجود البشري، هي رواية فاشلة»، هذه العبارة يسندها مؤلف الكتاب إلى تعريف الكاتب النمساوي هيرمان بروخ: «الرواية، هي كتابة الشيء الذي لا يمكن قوله سوى بالرواية، ولا شيء غير الرواية يعبِّر عنه».
يضم الكتاب بين جنباته العديد من العناوين المهمة في السرد، فبعد «المقدمة المعنونة بـ«لماذا هذا الكتاب»، يأتي عنوان حكايتي مع الرواية، وماذا نريد من قراءة الرواية، الشخصية الإنسانية: أعظم أسرار الوجود، ماهي مهمة الشخصية الروائية في النص الروائي، ضرورة تحديد هدف للشخصية، تقديم الشخصية للقارئ، كيف نرسم الشخصيات ليراها القارئ، من أين نجد شخصيات صالحة للروايات؟ مستودع الكتابة أو الباحة الخلفية للرواية، هل لدينا حكاية؟ ما الذي يجعل الروائي مجيدا؟ تحقيق الإقناع في السرد، هل تعرف ماذا نكتب؟ ماذا عن المكان والمشهد؟ كيف نقص حكايتنا؟ تعرّف على الصوت المناسب لروايتك، الرواية بوصفها شهادة تاريخية فكرية: ماريو بارغاس يوسا أنموذجا، في مديح الرواية الكلاسيكية، تحقيق مستوى القراءة الأعلى في الرواية. الثيمة الفلسفية، في مديح الروايات الرديئة، قبل أن نختم، خاتمة الرواية، كيف نكتب نهايات الشخصيات؟، المسافة بين الرواية والسينما. قبل أن أنهي الكتاب».
لفت انتباهي تمييز الكاتب لقارئ عن آخر، بقوله:«القارئ العفوي والقارئ الواعي»، مستعيرا ما كتبه الشاعر الألماني فريدريش شيلر، حين ميّز بين الشاعر العفوي والشاعر الواعي. واستعارها منه لاحقا الكاتب والروائي التركي أورهان باموق، حين ميز بين الروائي العفوي والروائي الواعي. وهنا تتضح ثقافة المؤلف السماري وتوسع قراءاته وتنوعها. إذ عند استعراضه لصفات القارئ الواعي، خطر على بالي القارئ القطري «محمد المنصور»، الذي زودني بعشرات الروايات ورقية وأخرى يقترح عناوينها عليّ. فالمنصور يمتلك حاسة شديدة تجاه الكتب، وقد عبّر عنها ذات مقال الروائي البيروفي الراحل ماريو برغاس يوسا، مستذكرا صديقه الشاعر المكسيكي الراحل خوسيه إميليو باتشيكو: «كان صديقي يتمتع بحاسة شمّ أدبية مدهشة تمكنّه من معرفة الكتب الجيّدة من تلك السيئة بمجرد أن يلقي نظرة عليها ويقلّب بعضا من صفحاتها. وقد رافقته غير مرة إلى عدد من المكتبات في الولايات المتحدة، حيث أتيح لي التأكد من صواب حاسته ودقتها في فرز الكتب بين الصالح منها والطالح».
هذا الأمر شهدته مع المنصور أيضا، فحين نمر على أهم مكتبات القاهرة، كان ينتقي الكتب بعناية، مستندا قراءاته المبكرة لأهم الأعمال الأدبية والفكرية والفلسفية في العالم. أتذكر مرة كنا نبحث عن رواية الكاتب المكسيكي خوان رولفو، صاحب الرواية الشهيرة (بيدرو بارامو)، ولم نجدها في القاهرة، لكني أحضرتها له من بغداد وتحديدا من إحدى مكتبات شارع المتنبي، بتقديم وافٍ ومفصل للمترجم العراقي مروان إبراهيم. السماري أشار في كتابه إلى مقولة متداولة للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز يذكر فيها: «أن مدرسة الواقعية السحرية في (مائة عام من العزلة) كان إلهاما رائعا من رواية (بيدرو بارامو)». المنصور ليس قارئا فحسب بل يمتلك مكتبة سينمائية تضم أهم الأفلام السينمائية الكلاسيكية منها والحديثة. خطر ببالي سؤال عن امتناعه عن كتابة قراءاته وانطباعاته عن الكتب التي استوقفته، أو الأفلام التي أبهرته، فكان رده أن القراءة متعة توازي متعة الكتابة. ولا تهمني الكتابة لأجل الكتابة، المهم أنني مستمتع بما أنتجه العقل البشري من أدب وفن.
وقريبا من إجابة المنصور وجدت عبارة السماري تعبر عن الفكرة ذاتها: « قراءة النص ليس تهجَّي الكلمات لكنَّها فهم الخطاب والدّلالات والمعاني، والقارئ الواعي هو الذي يكمل المعنى ويرتقي به، ألا يقولون إن القارئ أذكى من النصَّ وربَّما من كاتبه في كثير من الأحيان؟!».
هكذا تمنحنا الكتب المميزة فرصة التزود بالأفكار المحرضة على الكتابة وعلى تذكر الأصدقاء الذين يزودوننا بالكتب القيمة، ويشاركوننا متعة القراءة والمطالعة والحديث عنها.