[صامدون هنا/

قرب هذا الدمار العظيم/

وفي يدنا.. يلمع الرعب في يدنا/

صامدون هُنا/

باتجاه الجدار الأخير...]

(محمود درويش)

- 1 -

فن الرواية هي النوع الأدبي الأكثر اشتباكًا بالواقع التاريخي، لها ما لباقي الفنون من قدرة على ربط الخاص بالعام، والفكرة المجردة بالحياة التي تستعصي على التجريد، ودمج التسجيلي بالمُتَخَيّل، في إطار بنية متكاملة تحيل إلى معنى كليٍّ، يخلخله نسيجٌ لا تخضع عناصره جميعا لذلك المعنى، بل تنفلت مـن أسـره لتولِّد بدلًا من المعنى الواحد القاطع، معاني مفتوحة على المتعدد من التأويلات.

وهذا مشترك بين عدد من الأنواع الأدبية، ولكن ما يميِّز الرواية عموما عن غيرها من الأنواع الأدبية هو تلك العلاقة الأخصّ بالواقع الاجتماعي في امتداده وصيرورته، فهي تخبر عن بشر في سياقٍ، هو سياق، ضمنًا أو صراحةً، مستمدٌّ من خارج النص، يعتمد عليه بقوةٍ وكثيرا: لندن منتصف القرن التاسع عشر، القاهرة الفاطمية إبَّان ثورة 1919، صيد الحيتان في المحيط الهادي، استخراج النفط في جزيرة العرب، الحرب الأهلية الإسبانية، المقاومة الفرنسية للغزو النازي، حرب التحرير الجزائرية، بيروت الحرب الأهلية، الشتات الفلسطيني والانتفاضة الفلسطينية وفعل المقاومة الحرة في كل مكان وزمان... إلخ.

من هنا تأتي أهمية وقيمة رواية غسان كنفاني الرائدة «رجال في الشمس» التي صدرت للمرة الأولى في عام 1963.

- 2 -

لعل أبرز ما لفت دارسي كنفاني ونقاده هو تداخل نصوصه مع شخصية كاتبها، الذي حقق بدوره تطابقًا لافتًا بين الكاتب والمناضل، وبين النص والحياة. من أشهر هذه الكتب التي خصصها أصحابها لدراسة غسان كنفاني ونصوصه دراسة الناقدة الراحلة رضوى عاشور «الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني» (طبعة دار الشروق 2017).

يرى بعض النقاد هيمنة موضوع "النفي والمنفى" وما يرتبط بهما من عناصر جوهرية، كاستدعاء ذكريات الطفولة، وسطوة الآباء في الحياة العربية، وخبرة الحياة اليومية والمدرسية.. إلخ، ويرى نقاد كُثُر أن رواية كنفاني القصيرة «رجال في الشمس»، هي أول رواية فلسطينية بالمعنى الفني الحقيقي، كما أنها من روايات "المقاومة" بالمعنى الفني والإنساني.

فلم يكن غسان كنفاني كاتبا فقط، بل كان أيضًا مناضلا ثوريا انتهت حياته بالاستشهاد. ويصعب، بطبيعة الحال، أن نتعامل مع مجموع كتاباته، التي جاءت مرتبطة ارتباطا عضويا بتاريخ فلسطين المعاصر، وبالقضية التي أعطى لها عمره، بالموضوعية الهادئة التي قد نتعامل بها مع كاتب تفصلنا عنه قرون عدة واختلاف في الاهتمامات والشواغل.

ولم يكن غسان كنفاني مناضلا فقط، بل كان كاتبا مبدعا له إنجازاته الفنية الجديرة بالدراسة، ولا يمكن التعامل مع أعماله الفنية من منطلق أن مكانته بكونه مناضلا وشهيدا تجعل لزاما علينا تمجيد كتاباته. إن احترامنا للرجل يجعل من الضروري أن نعطي أعماله حقها بوصفها إنجازات فنية أساسا، وأن نرى مدى ما حققه في هذا المجال بوصفه كاتبا مبدعا وبصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى.

وترى رضوى عاشور (أبرز من درسوا أدب غسان كنفاني) أنه لم يجد حلا لمعضلة كتابة واقع ملحمي مُركب ومعقد وشديد الكثافة سوى باختصاره عبر المجاز. فكل رواية من رواياته تستند إلى مجاز تتفرع منه الدلالات: الموت خنقًا داخل خزان مغلق في سيارة يقودها سائق مُعوَّق يريد قطع الحدود، في «رجال في الشمس» (1963). دقات ساعة تشرف على لحظة مواجهة بين غريمين في «ما تبقى لكم» (1966). «خيمة عن خيمة تفرق» في تجربة أم الفدائي في «أم سعد» (1969). ولد مُختَلَف عليه تركه أبوه وأمه وتبنته عائلة يهودية في «عائد إلى حيفا» (1969).

وتشي الروايات الثلاث التي استشهد كنفاني دون أن يُتِمَّها وهي «العاشق» و«الأعمى والأطرش» و«برقوق نيسان» بالأسلوب نفسه. يتحول النسيج الممتد لواقع النكبة وتفاصيلها الملحمية المتشابكة بما فيها مسعى المقاومة إلى مجاز موفّق هنا أو أقل توفيقًا هناك. كانت الحكاية صعبة معقّدة ثقيلة وحارقة ما زالت تستعصي على الإحاطة بها.

- 3 -

يقول الناقد فيصل دراج عن رواية غسان كنفاني "مزج غسان بين عدل الأخلاق ومأساة الوجود، منتهيا إلى نقطة عمياء مربكة، هي التعبير الأدق عن المأساة الفلسطينية: على الفارين أن يموتوا، لأنهم لم يتحملوا كامل المسؤولية. وعليهم أن يموتوا لأن الموت مكتوب في أقدارهم. تتكشف المأساة في قدرٍ ظالم سقط على الفلسطينيين كصخرة باهظة. دون أن تتجلى في الفلسطينيين أنفسهم، لأن البطل المأساوي، في اندفاعه ونبله، يغاير فلسطينيا رخوا، يسخر منه سمسار بليد ويسير وراء دليل - جثة".

تظهر المأساة الفلسطينية -والحال هذه- معطى وجوديًا وتاريخيًا معا: اختار المشروع الصهيوني في فلسطين، بعد أن صرف النظر عن أوغندا وسيناء والأرجنتين وموزمبيق، مدخرًا شقاء الاختيار لشعب واحد محدد هو: شعب فلسطين. والمأساة بدورها تاريخية البعد. أصابت شعبا أميًا من الفلاحين، بينه وبين "الحداثة الصهيونية " خمسمائة عام، كما جاء على لسان أحد القادة الصهاينة.

يخسر الفلسطيني إن ذهب إلى معركته، ويخسر أكثر إن لم يذهب إليها، ويخسر إن كان مسالما، وجاءت إليه المعركة، والقبر في النهاية مكفول، قبرا مكشوفا كان لا كرامة له، أو كان كقبور الآخرين، يعلوه شيء من الخضرة ويقرأ المارون عليه "سورة الفاتحة".

إن رجال غسان كنفاني الواقفين تحت الشمس لا يعرفون منها نورها أو دفأها المعطاء، لا يعرفون منها حقهم الإنساني والطبيعي في الحياة، بل يعرفون فيها الشمس الضاربة بقسوة في رمال الصحراء العربية. تصير الشمس، النور، الدفء، العطاء، الحياة، عذابا قاتلا لمن يسير تحتها، وتصير رمال الصحراء مقلاة لمن يتحرك عليها.

وفي الرواية عدد من الصور التي تترابط فتساهم بمجموعها في تقديم رمز فني للجحيم الفلسطيني، هذا الجحيم الذي يعادل الواقع الفلسطيني في المنفى والمحاولات الفردية للهروب منه في الخمسينيات وبداية الستينيات.

- 4 -

وترى عاشور أنه إلى جانب التوفيق غير العادي الذي لازم غسان كنفاني في رسم شخصياته وفي بناء توتر الحدث وتصاعده، فهناك إنجاز أساسي لا تعتقد أنه تحقق حتى الآن على يد أي روائي فلسطيني آخر، تحدد هذا الإنجاز بقولها "خلق الصورة المكثفة والدالة لرحلة العذاب الفلسطيني كما تتجسد في الصحراء والخزان. إن هذين الرمزين معا وفي تفاعلهما يخلقان صورة فنية على درجة كبيرة من الرقي والفعالية"..

وكذلك أسهم في إنجاح هذه الصورة كصورة فلسطينية، أن كل الشخصيات في نفس الوقت الذي تمور فيه بحياتها الخاصة والمميزة فهي أيضًا تمثل وترمز لشرائح كاملة من الشعب الفلسطيني. فمثلًا بقدر ما نرى في مروان شخصية لها ظروفها الخاصة والذاتية بقدر ما يمثل آلافا غيره من أبناء فلسطين -وبناتها أحيانا- الذين اضطروا إلى أن يحملوا مسؤولية أسرهم ويغوصوا في مقلاة دول الخليج وهم دون العشرين.. وهكذا من طفولتهم إلى المقلاة.. دون فترة انتقال..

إن رواية غسان كنفاني الأولى «رجال في الشمس» تقدم نسيجًا يخص أمة في فترة تاريخية بعينها، وليس نسيجا يخص أفرادًا في أمة. إنها كعمل فني تضع لبنة أساسية في صرح ما تسميه رضوى عاشور "الأدب القومي الفلسطيني"، وتقصد بهذا المفهوم مجموع الأعمال الأدبية التي تقدم الصور الفنية المعادلة والمكثفة للملامح الأساسية للشعب الفلسطيني، سواء ما هو وقتي وعابر ينتج عن ظروف تاريخية طارئة أو ما تكون على مدى آلاف السنين، فكاد يكتسب صفة الثبات المطلق.

إن غسان كنفاني في العديد من قصصه القصيرة ورواياته يعمل بدأب على تدوين هذه الملامح فنيا. إنه منشغل بتقديم هوية شعبه، وهذا الانشغال يدفع به إلى الاجتهاد في البحث عن شكل فني يفي بطموحه ويسهل له مهمته. ويتضح لنا هذا تماما في نسيج «رجال في الشمس» وفي بنائها على حد سواء..

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رجال فی الشمس غسان کنفانی

إقرأ أيضاً:

صور أقمار صناعية تفند رواية عودة الحياة إلى الفاشر

بينما انتشرت على منصات التواصل روايات تتحدث عن "تعافي الفاشر" عاصمة ولاية شمال دارفور، وعودة الحياة إلى أسواقها بعد سيطرة قوات الدعم السريع، كانت صور الأقمار الصناعية تروي قصة مختلفة بالكامل.

فالمشهد الذي التقطته الأقمار الصناعية لـ3 من أكبر أسواق المدينة خلال ديسمبر/كانون الأول 2025 لا يظهر أي أثر لحياة تجارية طبيعية، بل فضاءات شبه خالية تقف على النقيض من السردية الرقمية التي سعت إلى إقناع المتابعين بأن الفاشر استعادت نشاطها المدني.

وتكشف صور أقمار صناعية حديثة حصلت عليها وكالة سند للتحقق الإخباري في شبكة الجزيرة عن تغير جوهري في نمط الحياة المدنية داخل مدينة الفاشر، من خلال مقارنة بين مرحلتين مفصليتين في تاريخ المدينة الحديث: ما قبل الحصار في مايو/أيار 2024، ثم بعد سقوطها بيد قوات الدعم السريع في أكتوبر/تشرين الأول 2025.

غياب النشاط التجاري داخل الأسواق الرئيسة

وتظهر الصور الملتقطة بعد سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة أن الأسواق التالية أصبحت خالية تماما من الحركة المدنية:

سوق الفاشر الكبير

تكشف الصور الملتقطة في ديسمبر/كانون الأول 2025 اختفاء الحركة داخل سوق الفاشر الكبير تماما، بدون وجود مركبات أو باعة أو تجمعات مدنية.

وقد أظهرت الصور أيضا وجود دمار في بعض المواقع التي كانت قد قصفت في فترة الحصار مقارنة بصور مايو/أيار 2024، التي أظهرت نشاطا تجاريا مكثفا.

سوق الفاشر الكبير قبل سيطرة قوات الدعم السريع (يمين) ملتقطة في 23 مايو/أيار 2024، وأخرى ملتقطة في السابع من ديسمبر/كانون الأول 2025 (بلانيت) سوق أبو شوك

كذلك، أظهرت صور الأقمار الصناعية أن سوق أبو شوك بات مهجورا، مع غياب أي حركة سيارات أو بسطات أو تجمعات بشرية، مع تغيّر واضح في ملامح الشوارع التجارية، بجانب آثار استهداف في بعض المواقع التي قُصفت خلال فترة الحصار قبل سقوط المدينة.

سوق أبو شوك قبل سيطرة قوات الدعم السريع (يمين) ملتقطة في الرابع من مايو/أيار 2024، وأخرى ملتقطة في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2025 (بلانيت) سوق المواشي إعلان

تبيّن صور الأقمار الصناعية أن سوق المواشي أصبح شبه خال من حركة المواطنين والعاملين بالسوق، في مشهد يعكس توقفا كاملا للحركة التجارية.

سوق المواشي قبل سيطرة قوات الدعم السريع (يمين) ملتقطة في 23 مايو/أيار 2024، وأخرى ملتقطة في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2025 (بلانيت)

وبحسب التحليل الزمني لسلسلة الصور، فإن آخر نشاط سوقي كبير رُصد في الفاشر كان في مايو/أيار 2024، قبل أن تؤدي العمليات العسكرية والحصار الطويل ثم سقوط المدينة إلى تعطّل شبه كامل للحياة الاقتصادية.

رواية "عودة الحياة" إلى الفاشر

وعلى الفضاء الإلكتروني، وخاصة منصة إكس، رصدنا اتجاها منظما للحسابات المحسوبة على قوات الدعم السريع يتبنّى سردية موحدة تحت عنوان "عودة الحياة إلى الفاشر"، مستخدما وسم "#الفاشر_تتعافى" بكثافة لافتة.

وبالتحقق من طبيعة الحسابات التي تقود هذا الضخ الإعلامي، تبيّن أن نسبة واسعة منها أُنشِئت حديثا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وهو ما يعكس نمطا متكررا في الحملات المنسّقة المعروفة بـ"التضخيم المصطنع لدفع خطاب محدد".

وأظهر تحليل البيانات التعريفية لتلك الحسابات، باستخدام أداة التحقق الحديثة التي أتاحتها منصة إكس لعرض تفاصيل الموقع الجغرافي للدخول، أن معظم الحسابات لا تُسجَّل ضمن نطاق السودان الجغرافي، على الرغم من تبنّيها لهوية سودانية شكلا ولغة ومحتوى.

صورة تظهر البيانات التعريفية لأحد الحسابات الداعمة لقوات الدعم السريع (الجزيرة)صورة تظهر البيانات التعريفية لأحد الحسابات الداعمة لقوات الدعم السريع (الجزيرة)صورة تظهر البيانات التعريفية لأحد الحسابات الداعمة لقوات الدعم السريع (الجزيرة)

كما يلاحظ أن محتوى هذه الحسابات يكاد يتطابق في النصوص والصور ومقاطع الفيديو.

محتوى الحسابات الداعمة لقوات الدعم السريع يكاد يتطابق في النصوص والصور ومقاطع الفيديو (الجزيرة)

وتُظهر اللقطات المتداولة في هذه الحسابات اعتماد رسائل موحدة تركز على تصوير الفاشر كمدينة استعادت الحياة الطبيعية بعد الأحداث الدامية التي شهدتها مطلع الشهر، في محاولة واضحة لإعادة صياغة الرواية العامة حول الوضع الميداني.

الحسابات الداعمة لقوات الدعم السريع تعتمد رسائل موحدة تركز على تصوير الفاشر كمدينة استعادت الحياة الطبيعية بعد الأحداث الدامية الأخيرة (الجزيرة)

كما تتكرر إعادة نشر المقاطع نفسها من حسابات متعددة، إضافة إلى الاعتماد على حسابات بملفات شخصية شبه فارغة وبتفاعل منخفض.

مقالات مشابهة

  • اليوم.. الأهلي يواجه الشمس في دوري اليد
  • الشعبية: العجز الدولي عن نجدة غزة "خيانة" والمنخفض الجوي يفاقم المأساة
  • عاجل- وزير الحكم المحلي الفلسطيني: 7 أشهر بلا تحويلات مالية.. وأزمة خانقة تعصف بالسلطة الفلسطينية
  • أوضاع اقتصادية صعبة في الضفة الغربية وغزة.. وزير الحكم المحلي الفلسطيني يكشف المأساة
  • وزير الحكم المحلي الفلسطيني: 7 أشهر بلا تحويلات مالية.. وأزمة خانقة تعصف بالسلطة الفلسطينية
  • هل كنا في السماء؟.. اعتراف إيراني يهزّ رواية إسقاط مقاتلات إف-35 الإسرائيلية
  • الخارجية الفلسطينية: حقوق الشعب الفلسطيني غير قابلة للتجاهل
  • بدء العمل على الموسم الثاني من ورد وشوكولاتة: في رواية أحدهم
  • صور أقمار صناعية تفند رواية عودة الحياة إلى الفاشر
  • من هو غسان الدهيني الذي أصبح زعيم القوات الشعبية في غزة بعد أبو شباب؟