[email protected]

يعتبر هذا الكتاب موسوعة متميِّزة. ففيه سردٌ موضوعي وتسلسل منطقي بأسلوب سلس وممتع لقضية إقليم دارفور. الإقليم الذي كان سلطنة عظيمة في زمنٍ لم يُخلق فيه السُّودان بحدوده السياسيَّة الحاليَّة والسابقة، قبل تقسيمه بواسطة مجموعة الإسلام السياسي إلى "السُّودان" و"جنوب السُّودان". الحقُ يُقال، لقد غاص مؤلِّف السفر الدكتور عمر مصطفى شركيان في أغوار مشكل الإقليم بشيء قلما يجده القارئ عنها.

لا أقول ذلك مجاملة لأخي وصديقي، بل رفيقي وشريكي في الهم والمحنة. وأنَّ لي الفخر بأن قرأت له ١٧ كتاباً وكُتيب في الشأن السُّوداني والأفريقي، وعشرات من المقالات غطت مختلف الموضوعات المتصلة بالسياسة، والثقافة والفن والاجتماع والأدب والتاريخ. بيد أنَّ بعضاً من تلك الكتب والمقالات مكتوبة باللغة الإنجليزيَّة وأغلبها بالعربيَّة. لقد درج الدكتور شركيان على ذلك التنوُّع لكي تعم الفائدة.
عوداً للكتاب موضوع المقال، فهو فريدٌ عن باقي الكتب التي تناولت قضية دارفور. إذ يتصف هذا الكتاب بالتحليل العميق، والتوثيق المتين لطبيعة الصراع في دارفور وعنفه. بيد أنَّ المؤلِّف الدكتور شركيان أرفق مع أية حقيقة ذكرها البراهين الدامغة والمشفوعة بالأسانيد القوية، وذيَّله بالمراجع المحكمة التي ليس بها ولا فيها شبهة ولا جدال. فقد أورد، مثلاً، ٢٩ ملحقاً وأكثر من مائة مرجع محكم. أيضاً، أنَّه من الأهمية القول إنَّ هذا السفر، ميَّز نفسه عما كُتِبَ عن دارفور في أنَّه كشف الكثير مما لا يعلمه الكثير من السُّودانيين أو أبناء دارفور، وربما فقط أولئك الذين كان لهم دور مباشر في تعقيدات المشكل. وللأمانة والصدق الخالي تماماً من الانحياز نقول، إنَّ المؤلِّف سبك موضوعات الكتاب سبكاً، وربطها ببعضها البعض ربطاً محكماً بحيث يمكنك قراءة أية صفحة من فصوله الأربعة بنهم شديد ودون توقِّف، أو الإحساس بالرجوع إلى ما قبلها لمعرفة ما جرى. بهذا يعتبر الكتاب إضافة حقيقيَّة ونوعيَّة للمكتبة السُّودانيَّة، ومورداً نديَّاً ومليئاً بالمعلومات القيمة لطلاب البحث العلمي عن الحقيقة أياً كان نوعها وطبيعتها.
يتألَّف الكتاب من أربعة أجزاء أو فصول. فقد جاء في الفصل الأول ما يضفي عليه نوعاً من الجودة وقوة الحجج بربط المشكل بتسلسل التاريخ. في هذا التسلسل نجد أنَّ الكاتب قد عمد إلى توضيح "مفهوم وفلسفة التاريخ" مستعيناً بما أورده الفلاسفة أنفسهم، في شروحاتهم عن أهمية التاريخ في تنقية الأحداث من الخرافات، وتلوُّثها بالمقاصد السيئة. فعندما نقًّب الدكتور شركيان عن "نظريات التاريخ" وتبسيطها ثم إخراجها، كان يرمى إلى شرح دور التاريخ في تأسيس الأمم واضمحلالها. ومن هذه الدول مملكة الفور العظيمة. فلا مراء في أنَّه، أي الدكتور عمر شركيان، رأى بعيون فاحصة وعقلانيَّة متوازنة ومنضبطة في تاريخ السُّودان ليكشف العلائق الإيجابيَّة والسلبيَّة بين شعوبه. ثم خلص بتحليله إلى ما سماه "الصورة المقلوبة" لتاريخ الأمة السُّودانيَّة، التي كانت حاضنة ومؤسِّسة للحضارة الإنسانيَّة على الإطلاق. أيضاً، لم يهدأ بال العالم الأريب، الدكتور شركيان، حتى يحدِّثنا عن دخول الديانات السماويَّة إلى السُّودان وانتشارها بين أهله، وتأثيراتها على الحياة العقائديَّة والاجتماعيَّة لهم بعد اختفاء دور المسيحيَّة وبروز متلازمة الثنائيَّة: العروبة والإسلام.
وفي سياق التطورات السياسيَّة تطرَّق المؤلِّف إلى الحديث عن دارفور وكردفان في قديم الزمان. كما أعطى ملمحاً من ملامح الحياة في جنوب السُّودان إبًّان الحكم التركي-المصري (1821-1885م)، ثم أطلَّ على الثورة المهديَّة وحزبها، وأطال في وصفها بالوجه القديم للاستعمار التركي والقناع الجديد للاستعمار الحديث الذي جسَّد نفسه، وكرَّسها بمواصلة تسليح قبائل معينة ضد القبائل الأخرى التي لا يتفق مزاجها مع أطروحاته. وأخيراً خلُص إلى صعوبة الاندماج القومي في السُّودان، أو استحالة الوحدة الوطنيَّة حينما تُضاف إلى الأزمات الراهنة الفروقات الإثنيَّة والثقافيَّة والدِّينيَّة، والمشكلات السياسيَّة والاقتصاديَّة المعاصرة، ما لم تستوعب قادته الدروس والعبر بفهم صيرورة حقائق التاريخ.
أما الفصل الثاني فقد أفرده المؤلِّف لجغرافيا دارفور وشعبه وتاريخهم الغابر والحديث بقيادة السلطان على دينار "سبق الطيَّار"، الذي ثار على البريطانيين. ثم سلَّط الدكتور شركيان أضواء كاشفة على عنف الصراع في دارفور ومآلاته المفرطة على أهالي الإقليم خلال ثلاث حقب حين تأسَّد عليهم نِّظام الإنقاذ مخلفاً كارثة إنسانيَّة غير مسبوقة في تاريخ البشريَّة. بيد أنَّ أهل الحل والعقد في المركز وبمساعدة بعض أبناء الإقليم الذين ينتمون إلى الحركة الإسلاميَّة لم يهدأ لهم بال، فطفقوا يزرعون بذور الاحتراب بين كل مكونات الإقليم كلها. كل هذه الصراعات فصَّلها الكاتب في هذا الفصل الهام معدِّداً القتلى والجرحى والنازحين من ويلات تلك النزاعات، والقرى التي أُحرِقت، والمواشي التي نُهبت نتيجة لذلك العنف الوحشي. كما أوضح بالوثائق أنَّ قبيلة المساليت في ولاية غرب دارفور هي الأكثر تضرُّراً من هذه النزاعات.
وفي الفصل الثالث، يتحدَّث المؤلِّف بإجادة عن اتفاقية سلام "أبو جا" (٢٠٠٦م) ونواقصها الدستوريَّة ودخول دولة قطر أو ما سماه الكاتب ب "الحل العربي في المشكل السُّوداني" وممارسة الشذوذ السياسي بواسطة "حركة العدل والمساواة"، التي كانت تسعى إلى السلطة في الخرطوم. كما يبيِّن هذا الفصل المساعي الحثيثة والجادة عن السلام من جانب الحركات المسلحة الدارفوريَّة عكس ما كانت تقوم به حكومة الخرطوم التي انشغلت أكثر في شراء الوقت لإيقاع مزيداً من المعاناة لأهل دارفور، فأدخلت جامعة الدول العربيَّة في معادلة "الحل" العقيم وما أنتجه من فشلٍ، فساءت الأحوال في كل الإقليم.
يحدِّثنا الدكتور شركيان في الجزء الأخير من الكتاب، وهو الأهم، عن دارفور في ظل حكومة عبد الفتاح البرهان (٢٠١٩-٢٠٢٣م)، مبتدراً إياه بكلامه عن ميليشيا الجنجويد أو "قوَّات الدعم السريع" وأنَّ المسؤولية المباشرة عن تكوينه ورعايته تقع على نظام الإنقاذ، وكيف تأسَّدت قوَّات الدعم السريع في التحرُّش الوحشي بمستوطني المعسكرات من النازحين، وموظفي المنظمات الإنسانيَّة العاملة في الإقليم. كما تطرَّق الفصل بشيء من التفصيل ل"اتفاقيَّة جوبا للسَّلام" ووصفها ب"حصاد الهشيم"، وهي كذلك! ولتعرية هذه الاتفاقيَّة وتوضيح عيوبها وقصورها، طفق الدكتور يضرب مثلاً لمثيلاتها في السُّودان حيث تجلَّت فيها كل الإخفاقات بفضل نهج نقض العهود والمواثيق بواسطة حكام الخرطوم. وفي الاتفاق إياه يبيِّن الدكتور شركيان أنَّه، أي الاتفاق، أنتج استقطاباً حاداً في المجتمع السُّوداني، وزاد من التوترات الاجتماعيَّة والتي وجد لها تفسيرات موغرة في نفسيات صُنَّاع تلك التوترات.
مهما يكن من أمر، فقد تطرَّق المؤلف للوضع القانوني والدستوري لاتفاق جوبا حيث أفرغه من محتواه بالتحليل العقلاني، والرؤية المنطقيَّة والموضوعيَّة السليمة. كذلك عمد إلى توثيق تجاوزات حقوق الإنسان في دارفور مُسلِّطاً الأضواء على مذابح "كريندنق" والمناطق الكثيرة المختلفة في الإقليم مثل "كرينك" وما حولها، والاغتصابات والعنف الجنسي ضد النساء والفتيات القاصرات.
لم يبق لنا إلا أن نكرِّر أهمية قرأءة هذا الكتاب الهام الذي يلقي الضوء على قضية إقليم دارفور بالتحليل العلمي استناداً على الوثائق المدرجة بين دفتي الكتاب. كما نشير إلى أنَّ الكتاب يصدر من "دار المصورات للطباعة وللنشر والتوزيع" التي مقرها في الخرطوم، ولكن نسبة للظروف الأمنيَّة الاستثنائيَّة التي يمر بها السُّودان فقد تمَّت طباعة الكتاب بجمهوريَّة مصر العربيَّة، وسوف يكون متوفِّراً في المكتبات القاهريَّة اعتباراً من الفاتح من نوفمبر 2023م  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی دارفور

إقرأ أيضاً:

اتحاد الكتاب يقيم أمسية نثرية فارساتها الزعبي والمفتي ودراغمة في فعاليات جرش39

صراحة  نيوز  – ضمن فعاليات مهرجان جرش للثقافة والفنون بدروته التاسعة والثلاثون، أقيمت ندوة “النثر”، بمشاركة أديبات وكاتبات

اتحاد الكتاب والأدباء الاردنيين وهن ؛ حياة دراغمة، زحل المفتي، وأمل الزعبي، فيما ادار الندوة الكاتب ممدوح غليلات.

في مداخلتها قرأت الأديبة الزعبي من نص نثري بعنوان ‘شروق غزة’ قالت فيه؛

جاء اليوم الموعود للتكريم، فأحضر أحمد والده ووالدته معه بالسيارة وأحضرت شروق الطفلين أدهم وغزة والفتاة وحملتهم معها في سيارتها. كانت شروق قد دعت عمها أخ والدها وزوجته لحضور تكريم أسرتها.

دخل الجميع إلى الصالة كانت كبيرة وجميلة جدا وكل شيء فيها منظم بطريقة ملفتة للانتباه، جلس الضيوف في المقاعد التي كانت مرتبة على شكل أدراج فارغة بالصفوف الخلفية.

أما جلوس المكرمين فكان في مقاعد أمامية تختلف عن مقاعد الحضور، فوجدت اسمها مكتوبا على أحد المقاعد الأمامية والمقعد الذي قربها كان مدون عليه اسم زوجها، فجلس كل واحد منهما على مقعده وبعد ربع ساعة بدأ الاحتفال..

بدأ الضابط بالحديث عن غزة ومعاناتها في حرب 7 أكتوبر، وعن الصمود الذي صمدته بعون أهلها ورجالها والمجاهدون الذين أبلوا بلاء حسنا في تلك الآونة. ثم أخبروا أن كثيرا من الأسر ماتت تحت الأنقاض، ولم تُستخرج أجسادهم الطاهرة من تحت الركام، ولم يتم وضعهم في قبور كبقية الموتى فلم يحصلوا على أقل حق من حقوقهم في الحياة.. قبور تؤويهم، ولأنهم لم يأخذوا هذا الحق فقد تقرر عمل صرح يضم لوحات شرف تكريمية محفور عليها أسماء الشهداء، في نصب تذكارية لهم لعدم وجود ضريح يحوي هؤلاء الشهداء في أي مكان. وتحدث الضابط عن حرب غزة وعما خلفته من المآسي على الشعب الفلسطيني بشكل عام والغزاوي بشكل خاص.

أما الأديبة حياة دراغمة فقد قرأت من نصوص نثرية ومنها قرأت :

احتضنَ ماظلَّ مِنَ الحنين

لقيماتُ دفءٍ تذوبُ بينَ ذراعي

وسطَ ركامِ الأيامِ أشرعت للريحِ خطواتي

فأسقطها التصحرُ ظَمأى

فغدت ياسمينةً تئنُّ فوقَ أصابعي اخبأها بينَ أضلعي

كأنها مأتمٌ صامتة

سرقت لياليها ضباعُ الإنسِ

ركضتُ بعيداً بخوفٍ خفيف

ودَّعتُ ثِقلَ الهمومِ التي كانت تأسرني

انتظرتُ شامخة

أغمضَ الياسمينُ عيونَه وضحكتُ

فأضاءَ عتمَ زقاقي قمرٌ عاشق

أهداني دفءَ البداياتِ

تُرى..

من كُمِّ الصوتِ ؟؟

أما الأديبة المفتي فقد قرأت من نص نثري بعنوان “رسالة حمقاء “قالت فيه؛

سيدي العزيز ..

أكتب لك خطابي هذا ، بعد تردد .. وشيء من الحياء

ترى … هل كتبت لك قبل امرأة حمقاء

لا تسأل عن اسمي .. فكل الأسماء سواء

سيدي ، اعذرني على لهفتي ..

فأنا أختي مصادرة الرسائل المساء

أخاف أن أبوح عما في نفسي ..

وأن فجأة .. قد تخترق الأرض والسماء

تقتل المرأة إن أحبت .. وتصادر أحلامها ..

إن باحت بما لديها من أشياء

فالرجل الشرقي لا يهتم بالنثر أو الشعور

إنما بعدد ما يعرف من بنات حواء

الحب على المرأة عار .. أما الرجل .

وفي ختام ندوة النثر قدم رئيس الاتحاد عليان العدوان الشهادات التقديرية للأديبات المشاركات في نشاطات وفعاليات مهرجان جرش الحالي.

مقالات مشابهة

  • واكوا الجراب على العقاب
  • اتحاد الكتاب يقيم أمسية نثرية فارساتها الزعبي والمفتي ودراغمة في فعاليات جرش39
  • كتاب «أسرار الصراع السياسي في السودان».. رؤية تحليلية لجذور الأزمة السياسية السودانية
  • الدكتور محمد عبد اللاه: الهجمات الإعلامية التي تتعرض لها مصر بسبب موقفها من القضية الفلسطينية مؤامرة
  • النفط النيابية:الحكومة والبرلمان “يجهلان” كميات النفط المنتجة في الإقليم
  • مصدر برلماني:حكومة الإقليم ما زالت غير ملتزمة بقانون الموازنة ولا حتى بالاتفاقات
  • اختتام برنامج الأمسيات الشعرية في رابطة الكتاب الأردنيين
  • حكومة البارزاني تدعو بغداد لصرف رواتب موظفي الإقليم
  • مناوي يطالب “الأمم المتحدة” باتخاذ هذا الإجراء…
  • ملتقى الكتاب السوريين يختتم فعالياته ويكرم الأدباء والمثقفين المشاركين