ساجدة ودميتها من تحت الركام.. صرخة واحدة في مجزرة مفتوحة
تاريخ النشر: 4th, November 2023 GMT
أبت ساجدة التي تشبه الفراشة، أن تترك دميتها تحت الركام، والأتربة، والحجارة المحطّمة، تشبثت بها رغم أنها ماتت، وهي لا تدري أن في الموت لا يبقى لأحدٍ شيء يأخذه معه، يذهب وحيدًا كما جاء إلى هذه الدنيا وحيدا، ولكن ساجدة لم تذهب كاملة كما جاءت، نصفها العلوي بتمامه مع طبقة رمادية من رماد كثيف، وأتربة سوداء، وخيوط من الدمية القتيلة.
ساجدة ابنة الخامسة، زهرة تفتحت في حديقة صغيرة لمراسل تلفزيون فلسطين الصحفي محمد أبو حطب، دللّها وكأنّها وحيدته، رغم أنها الرابعة تسلسلا في العائلة، أحبّها بكل أبوة، ورعاها بكل مستطاع، ومن أجلها ترك لساعة؛ تغطية العدوان الإسرائيلي في يومه السابع والعشرين على قطاع غزة، من مكان وجوده في مستشفى ناصر بمدينة خان يونس، ترك عمله المتواصل والدؤوب بعد أن سمع رجفة الخوف تتصاعد من حنجرة ابنته، فقرر أن يذهب ليضمها بدفء، ويعيد إليها أمنها، ولتستكين روحها برؤيته، ولكي تتغلب على الرعب المهاجم مع صوت الطائرات الخفيضة في سماء المدينة، ساجدة التي تضم دميتها بقوة وكأنّها درعها الواقي من الوحوش، تبكي ببراءة الطفولة، وترسم صوتها على مدارج الصدى، في حشر بشري مرعوب من الموت، ويستقوي بالتسبيح، وذكر الله، ولكن صراخ الرعب المولود من حنجرة طرية يدمي قلوب من حولها، رغم فشل كل محاولات تدخل أمها، وجدّتها، وشفيع الندرة الماء في زجاجته الأخيرة، رغم التضحية بما تبقى من خبز يابس مقايضة بالسكوت، كلهم فشلوا وتبقى ساجدة تتلوع من هول الرعب. ساجدة المدللة، ذات الجديلتين الطويلتين الشقراوتين، تزحف على ركبتيها؛ عاجزة بسبب الرعب، تستجدي المشي كعادتها وتفشل، لتواصل زحفها بين العشرات الذين تكدسوا في غرفة واحدة، اعتقادًا منهم لوهلة أنها الغرفة الأكثر أمنا في العمارة، وأن جدرانها أجدر بحمايتهم من القذائف والصواريخ إذا ما سقطت بعد هذا الهدوء الموحش.
ساجدة التي نجحت بإحضار والدها الصحفي إلى البيت، لم تكن تعلم أن عيون الموت كانت تطارده، تلاحقه، تتبعه، وكانت قادرة على اصطياده منفردا وهو في طريق عودته إلى منزله، لكنها منحت الحقد، وصنّاعه زمنا خبيثا لكي يدخل منزله، فكان سعيه نحو طفلته وما دله عليها سوى صراخها الناعم، والمبحوح، وما إن اقترب من ساجدة، متجاوزا أقدام، وأجسام المحشورين في الغرفة، حتى كانت عيون الموت قد استدعت الصاروخ الأول فالثاني ليتحول كل المكان بكل من فيه وما فيه إلى رماد وأشلاء.
ماتت ساجدة وسكت صوتها، وبقيت دميتها في حضنها، ويدها المغسولة بالدم، والغبار تحيط جسدا بلا روح، لعلها تؤنسها بقبرها، وينبت لها لسانا أمام الله لتشهد لصاحبتها الطفلة بظلم قاتلها بدون ذنب ارتكبته سوى أنها خافت من صوت طائراته، وارتعبت من انفجارات قذائفه!. ماتت ساجدة ووالدها وعشرة آخرون، بعد أن خانتهم غرفة مظلمة، سميكة الجدران، سقطت بأركانها وسقفها لتكوم لحومهم شظايا أمام عالم يرى ويسمع ولا يفعل سوى البكاء.
ناصر عطا الله صحفي وكاتب فلسطيني من غزة
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
من يتحمل تكاليف رفع الركام من غزة.. إعلام عبري يكشف مفاجأة
نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية عن مصادر مطلعة، أن "إسرائيل وافقت على تحمل تكاليف إزالة الركام بغزة بما سيصل إلى مئات ملايين الدولارات".
وقالت المصادر إن "واشنطن طالبت إسرائيل بتحمل تكاليف إزالة الركام الهائل الناتج عن الحرب في قطاع غزة".
وفي وقت سابق، أفاد برنامج تحليل الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة "أونوسات" أن الحرب حتى الثامن من تموز/ يوليو 2025، أدت إلى تدمير أو إلحاق أضرار في حوالي 193 ألف مبنى من مختلف الأنواع في القطاع الفلسطيني، أي ما يعادل 78 بالمئة من المباني التي كانت موجودة قبل الحرب.
وبحسب الصور التي جُمعت في 22 و23 أيلول/ سبتمبر، قدّرت الوكالة الأممية أن 83 بالمئة من أبنية مدينة غزة وحدها دمّرت أو تضررت.
وقال التقرير الأممي إن كمية الحطام في القطاع الفلسطيني، والتي تبلغ 61,5 مليون طن، توازي حوالي 170 مرة وزن ناطحة السحاب الشهيرة في نيويورك إمباير ستايت، أو 6 آلاف مرة وزن برج إيفل في باريس.
منا يوازي ذلك 169 كيلوغراما من الركام لكل متر مربع من القطاع البالغة مساحته 365 كيلومترا مربعا.
وأشار برنامج الأمم المتحدة للبيئة، إلى أن ثلثي الحطام كان نتيجة العمليات العسكرية خلال الأشهر الخمسة الأولى من الحرب.
في سياق متصل، أوضحت تقديرات أولية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة نُشرت في آب/ أغسطس تعرّض هذه الأنقاض السكان لمخاطر صحية، حيث قدّر البرنامج أنّ 4.9 مليون طن منها قد تكون ملوثة بمادة الأسبستوس المستخدمة في الأبنية القديمة الواقعة خصوصا قرب مخيّمات اللاجئين مثل جباليا شمال القطاع، والنصيرات والمغازي في وسطه، وخان يونس ورفح جنوبا.
يضاف إلى ذلك أن 2.9 مليون طن من الحطام الناجم عن المواقع الصناعية السابقة قد يكون ملوّثا بمواد كيميائية وغيرها من المنتجات السامة، بحسب البرنامج الأممي.
والشهر الماضي، قالت مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيزي إن تقريرا جديدا للأمم المتحدة خلص إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزة محت 69 عاما من التنمية البشرية، بما دمرته من منظومات الرعاية الصحية والتعليم والبنى التحتية وحتى البنوك.
وذكرت ألبانيزي أن هذا يمثل أسوأ انهيار اقتصادي تم تسجيله على الإطلاق، وأضافت "هذه ليست حربا، إنها إبادة جماعية".
وحذرت الأمم المتحدة من انهيار غير مسبوق للاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، مؤكدة أن الحرب التي استمرت عامين محت أثر عقود من التنمية، ودفعت غزة إلى مرحلة الدمار الكامل.
وقال التقرير إن الدمار الواسع الذي خلّفته الحرب في البنية التحتية والأصول الإنتاجية والخدمات الحيوية ألغى عقودا من التقدم الاجتماعي والاقتصادي في قطاع غزة.
وأوضحت التقرير الأممي إلى أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني تراجع إلى مستوى عام 2003، بما يعادل خسارة 22 عاما من التنمية.
وبين أن الأزمة الاقتصادية الناتجة تُعد من بين أسوأ 10 أزمات اقتصادية عالمية منذ عام 1960.
كما حذر من أن حجم الدمار في غزة يعني أن القطاع سيظل "يعتمد اعتمادا تاما على دعم دولي مكثف"، وأن عملية التعافي قد تستغرق عقودا طويلة.
وأشار إلى أن الحرب الإسرائيلية دمّرت على نطاق واسع كل ركيزة من ركائز البقاء من غذاء ومأوى ورعاية صحية، مما دفع غزة نحو "حافة الانهيار الكامل".
وأكدت أن إعادة إعمار غزة ستتطلب أكثر من 70 مليار دولار وقد تمتد لعقود، في ظل تواصل الدمار وغياب البنية الأساسية القادرة على التعافي السريع.