تُجّار القضية يتكاثرون
إلى وقت قريب كان عدد المستفيدين سياسياً من استمرار معاناة الشعب الفلسطيني الأعزل في صراعهم الممتد مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لقرابة ثمانين عاماً محدوداً أو معروفين بالنسبة للمتابعين لهذا الملف، فمدخل هؤلاء المستفيدين أو المقاربة السياسية لحل هذا الصراع واحد، وهو: المدخل الأيديولوجي الذي يعززه بالشعارات السياسية التي لها بعد “قيمي” عال تدفع بالإنسان إلى الموت من أجلها ولكن “المؤدلج” يوظفها لخدمة فكره لأنه يدرك قيمتها.
مع أن البعد أو المدخل الإنساني في القضية الفلسطينية يُعتبر هو الأكثر تأثيراً أو ما يعرف بـ”أنسنة القضية”، وهذا ما تفسره حالة الغضب الحالية للرأي العام العالمي وشملت سياسيين غربيين مثل: رئيسة وزراء ايرلندا، ليو فارادكار التي وصفت ما تفعله إسرائيل بأنه “انتقام” وليس دفاعاً عن النفس وشملت أيضاً مواطنين عاديين تسببوا في إقالة وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا بريفرمان بسبب انتقادها مسيرة مؤيدة للفلسطينيين وغيرها من المواقف الإنسانية، ولكن “المؤدلج” لا يرى هذا كله لأن فكره مغلق إلا في “قتل الآخرين” فهو يفتح لهم أبواب الجنة التي لا يريد هو أن يذهب لها.
الإيديولوجي التقليدي أو الكلاسيكي هو المستثنى من التفكير الإيجابي ومن البحث في حل هذه القضية بشكل سلمي ليس لأنه يدور في نفس الحلقة فقط ولكن في الحقيقة لا يهمه “الإنسان” الفلسطيني بقدر ما تهمه أيديولوجيته التي يستخدمها لتدمير كل شيء بما فيها الدولة الوطنية كي يعيش هو “وجماعته”. والأيديولوجي لا يؤمن أيضاً بـ”الوطن” فوطنه أيديولوجيته وهو لا يراجع تفكيره لتغييره لأنه جامد ولا يعرف للتغير معنى إلا في أساليب التطرف.
زمان، كان من السهل على المراقب معرفة ردة الفعل الأولية من “المنتفعين” من استمرار هذه الأزمة دون انتظار إعلان مواقفهم لأن “القائمة السياسية” تكاد تكون معروفة سواءً كانوا هؤلاء المنتفعين سياسيين وحتى رجال الدين أو المتعاطفين المندسين بين جموع الناس. وكان إذا ما خرج “منتفع جديد” يكون حالة شاذة ضمن مجموعة تقليدية مسيطرة على هذا “السوق المربح” جداً لكن مع هذه الأزمة الجديدة يبدو أن هذا السوق بدأ يتبع فلسفة “حرية المتاجرة” في القضية وهو المنهج الليبرالي في المدرسة الليبرالية التي ينتقدها “المؤدلج” مع أنه يستخدمها بطريقة ميكافيلية وفق منطق الغاية تبرر الوسيلة.
هؤلاء التجار الجدد لو سألتهم عن البعد الإنساني في القضية أو البعد الوطني يرجع يُذكرك بـ”القيم” العليا ويثير الحماسة فيك لكن خدمة أيديولوجيته (المنزوعة الوطنية والإنسانية) ويبدأ باتهام الدول التي تطبع علاقاتها مع إسرائيل إما بأن رؤيتهم في هذا المشروع تحققت وهذا غاية ما يتمناه ولكن لا يدرك حالة الهدوء التي يتمناها أبناء “غزة”.
ومع أن “المتاجرين” القدماء مستمرين لأن بضاعتهم السياسية رائجة ولأنهم وجدوا فيها مكاسب وبالتالي ليس من المنطق أو العقلانية تغيير مواقفهم إلا إذا اكتفوا بما حققوه من مكاسب وهذا ليس من صفات التاجر الشاطر، وهم بالأمانة “تجار” يمتلكون من أدوات الشاطرة في التخوين وتحوير القيم لخدمة مشاريعهم التدميرية.
أما “المتاجرين الجدد” يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين اثنتين.
المجموعة الأولى: استفادوا من وجودهم بين أناس يقدرون مكانتهم المجتمعية ويبثون سمومهم، كما استفاد غيرهم من وسائل التواصل الاجتماعي فتاجروا وفق منطق (البيع بالتجزئة) بعدما بدأ يقوم بدور الوكيل المعتمد أيديولوجياً في استخدام معايير بيع مفردات “التخوين” والمزايدة على من يدافعون عن القضية بأدوات العصر وبعيداً عن عقلية القتل والتدمير وغيرها من المفردات التي لا تليق بحجم القضية وعدالتها الإنسانية.
المجموعة الثانية: اللاعبين الدوليين وهؤلاء من كبار التجار، فالسؤال المطروح الآن لماذا الرئيس الأمريكي جو بادين مستمر بالدفاع عن الموقف الإسرائيلي حتى الآن رغم مرور أكثر من 45 يوماً على الحرب؟
الإجابة كما اعتقد لا تبتعد كثيراً عن قرب موسم الانتخابات الرئاسية (فالانتخابات هو الموسم التجاري لكل سياسي العالم للقضية). ومثلما يكسب الأيديولوجيين (بمختلف التسميات) في منطقة الشرق الأوسط من خلال رفع الصوت والشعارات وإلهاء المواطنين عن القضايا الأساسية لهم من تنمية واستقرار والعيش المشترك والتسامح في طرح الأفكار التي تبني المجتمعات، فإن الرئيس بايدن يتاجر هو الآخر بالقضية مع اللوبي اليهودي (أيباك) في الولايات المتحدة فالانتخابات الرئاسية قادمة الرئيس بايدن يستطيع تقدير “حجم الفائدة” المرجوة من موقفه خاصة إذا كان المنافس المحتمل هو دونالد ترامب.
المغامرات السياسية لبعض “المقامرين” لأعدل قضية إنسانية تسببوا في إرجاع الصراع إلى البدايات الأولى قبل ثمانين عاماً وما حدث بعدها من تصاعد لغة “التخوين” وأكثر ما يقلقهم أن يتحقق السلام والاستقرار في العالم قد يكون طرح مثالي ولكن لنتمنى للشعب الفلسطيني لأن يعيش بسلام كما يعيشون أصحاب الأيديولوجيات.
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
رأي.. إردام أوزان يكتب عن المسار الجديد لحزب العمال الكردستاني وتداعياته الإقليمية: باب يفتح ولكن ليس على مصراعيه
هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لقد كانت الأرض تتحرك تحت الشرق الأوسط منذ بعض الوقت. في خطوة جديدة غير متوقعة ومهمة، أعلن حزب العمال الكردستاني (PKK)، المتورط منذ زمن طويل في أحد أعنف الصراعات الإرهابية وأكثرها توترًا سياسيًا في المنطقة، عن نيته حلَّ صراعه المسلح الذي استمر عقودًا وإنهائه. بالنسبة لتركيا، يُعد هذا الحدث أكثر من مجرد حدث أمني بارز؛ بل لحظة فارقة قد تُعيد رسم مسارها المحلي وتُعيد تشكيل مصفوفة القوة الإقليمية.
في الوقت الذي تتعامل فيه تركيا مع مشكلتها الكردية المتغيرة بسرعة، فإنها لا تشكل مستقبلها فحسب، بل تعمل أيضاً على إعادة تعريف النظام الإقليمي.
لقد أثبت التاريخ أنه عندما تتحرك تركيا بعزم ووحدة، تحذو المنطقة حذوها، مما يفتح آفاقًا جديدة للسلام والتعاون. يحمل هذا التحول المحوري تداعيات عميقة، ليس فقط على تركيا، بل على الشرق الأوسط بأكمله، إذ يُمثل نقطة تحول مهمة في صراع امتد لعقود.
يأتي هذا القرار في أعقاب سلسلة من الإجراءات السياسية المهمة، بما في ذلك مبادرة أطلقها حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، بقيادة الرئيس أردوغان، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بالتعاون مع حزب الحركة القومية. وقد مهدت دعوة عبد الله أوجلان لوقف أنشطته في فبراير/شباط الطريق للإعلان الرسمي لحزب العمال الكردستاني في 12 مايو/أيار. ويؤكد هذا التسلسل من الأحداث على التفاعل المعقد بين السياسة الداخلية والديناميكيات الإقليمية الأوسع.
يرتبط توقيت هذه المبادرة ارتباطًا وثيقًا بالمشهد السياسي التركي الراهن. فحزب "العدالة والتنمية" يُعاني من تراجع شعبيته، وتتوقف طموحات أردوغان لولاية رئاسية ثالثة على تعديل دستوري ضروري يتطلب أغلبية الثلثين في البرلمان. ولتحقيق ذلك، أصبح كسب دعم الأصوات السياسية الكردية أمرًا بالغ الأهمية. إضافةً إلى ذلك، دفع التباطؤ الاقتصادي المستمر النخبة السياسية إلى البحث عن قصة نجاح قد تحشد الدعم الشعبي أو تُحوّل الانتباه عن القضايا المالية المُلحة.
التشابك السوريخارجيًا، تُعقّد ديناميكيات الوضع في سوريا المجاورة الوضع أكثر. رسّخت وحدات حماية الشعب/قوات سوريا الديمقراطية، وجودًا شبه حكومي فيما يقرب من ثلث سوريا. ويُشير قبول النظام السوري مؤخرًا لقوات سوريا الديمقراطية إلى مرحلة جديدة من الاستقلال الاستراتيجي الكردي. والجدير بالذكر أن قرار وحدات حماية الشعب بالنأي بنفسها عن دعوة أوجلان لنزع السلاح أبرز مسارها المتباين وقدرتها على تعطيل مسار الحل في تركيا.
إذا رأت أنقرة في هذه اللحظة فرصةً لتفكيك القدرة العملياتية لحزب العمال الكردستاني في أضعف حالاته، فإن التطورات عبر الحدود تُهدد بإلغاء هذه المكاسب. إن تجزئة سوريا، وتمكين الميليشيات الكردية، وتغير التحالفات الإقليمية قد يجعل من تفكيك حزب العمال الكردستاني مجرد وهم تكتيكي لا حلاً استراتيجياً. وتُشكل هذه الشبكة المعقدة من المتغيرات الخارجية مخاطر جسيمة قد تُعقّد المشهد السياسي لأنقرة مستقبلاً.
التعامل مع الماضي وإدارة المستقبلإن الخسائر النفسية والاقتصادية لصراع حزب العمال الكردستاني لا تُحصى. فقدنا عشرات الآلاف من الأرواح، وهجّرنا أجيالًا، واستقطبنا مجتمعات. واستنزفت النفقات العسكرية الموارد الوطنية. يتطلب التئام هذه الندبة أكثر من مجرد نزع السلاح، بل يتطلب شجاعة سياسية، وعدالة انتقالية، وعقدًا اجتماعيًا يشمل أكراد تركيا كأصحاب مصلحة متساوين في مستقبل الجمهورية.
مع ذلك، على حكومة أردوغان أن تتوخى الحذر. فبينما قد يُسوّق لخطوة حزب العمال الكردستاني على أنها انتصار سياسي، فإن المبالغة في تصويرها على أنها "هزيمة" قد تُقوّض أي مصالحة حقيقية. ففي بلدٍ تُدمّره جروح الإرهاب بعمق، وتظلّ حقوق الأكراد قضيةً خلافية، يجب أن تُحقّق الرسائل العامة توازنًا دقيقًا بين تكريم الضحايا، وضمان الأمن، وخلق مساحة سياسية حقيقية للتماسك.
الشبكة الإقليمية لا تزال قائمةحزب العمال الكردستاني ليس مجرد جماعة مسلحة، بل هو كيان فاعل عابر للحدود الوطنية، يتواجد بشكل رئيسي في العراق وإيران وسوريا وأوروبا، ويمتد إلى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية. لن يؤدي حل جناحه المسلح إلى محو وحدات حماية الشعب الكردية، أو قوات سوريا الديمقراطية. بل قد تتطور هذه التشكيلات، أو تُعيد تقييم نفسها، أو تُعيد صياغة هويتها، مما يُشكل تحديات جديدة للجهات الفاعلة الإقليمية.
في ظل وضع مقلق، قد يُؤدي تفكك حزب العمال الكردستاني إلى انهيار الوحدة الكردية، مما يُؤدي إلى فراغ في السلطة قد تستغله الجماعات المنشقة المتطرفة. ومع تحول حزب العمال الكردستاني من الصراع المسلح إلى الاستراتيجيات السياسية، قد تشعر الفصائل داخل اتحاد المجتمع الكردستاني ووحدات حماية الشعب بضغوط لإظهار أهميتها من خلال أعمال عدائية أكثر. وقد يؤدي هذا إلى تصاعد العنف مع تنافس هذه الجماعات على السلطة والموارد والهيمنة الإقليمية، سواء داخل تركيا أو في جميع أنحاء المنطقة.
في ظل هذه البيئة الفوضوية، قد تستغل الجهات الخارجية الوضع لتحقيق أجنداتها الخاصة، مما قد يؤدي إلى صراع بالوكالة تدعم فيه القوى الإقليمية الفصائل الكردية المتنافسة. وقد يؤدي احتمال سوء التقدير والتصعيد إلى تفاقم الصراع في تركيا، مما يضطرها إلى التدخل عسكريًا ليس فقط ضد فلول حزب العمال الكردستاني، بل أيضًا ضد الجماعات الكردية الأخرى التي قد تنشط في المعارضة.
مفترق طرق استراتيجيتتكشف هذه اللحظة على خلفية تراجع النفوذ الأمريكي، وإعادة تقييم إيران لمواقفها، وتطبيع عربي مع سوريا، وعدم استقرار إسرائيل. في ظل بيئة متقلبة كهذه، ستختبر قدرة تركيا على تشكيل القضية الكردية داخليًا وخارجيًا براعتها الدبلوماسية وتماسكها الداخلي. قد تؤدي أي خطوات خاطئة إلى رد فعل عنيف من المتشددين، أو تمكين المتطرفين، أو دعوة للتدخل الأجنبي في عملية هشة أصلًا.
باب يفتح ولكن ليس على مصراعيهإعلان حزب العمال الكردستاني إنهاء الكفاح المسلح وحل نفسه حدث تاريخي، ولكنه ليس نهائيًا. فهو يُشير إلى نهاية فصل وبداية فصل آخر غامض. لدى تركيا فرصة للقيادة، ليس من خلال الهيمنة، بل من خلال حوار تحويلي يعالج المظالم الهيكلية العميقة.
إذا أُديرت هذه اللحظة بحكمة، فقد تُعيد تقييم ليس فقط الديناميكيات الداخلية لتركيا، بل أيضًا مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة. أما إذا أُسيء إدارتها، فقد تُمزّق المشهد الإقليمي المُتوتر أصلًا، وتُعيد إشعال صراعات قديمة تحت مسميات جديدة. في القضية الكردية، كما في معظم أنحاء الشرق الأوسط، لا توجد نهايات واضحة، بل تقارب في الإرادة والذاكرة والخيال السياسي.
* نبذة عن الكاتب:
إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.
ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.
كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.