غزة والعودة لسياسات إدارة الصراع الفاشلة
تاريخ النشر: 24th, November 2023 GMT
من غير المرجح، في ظل المؤشرات الحالية للحرب في غزة، أن يجري تغيير المعادلات التي كانت قائمة قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، إذ رغم حجم الدمار الكبير الذي أنزلته إسرائيل، وخاصة في مناطق شمال غزة، وآلاف الشهداء من الأطفال والنساء، لا يبدو أن حكومة نتنياهو قادرة على تحقيق نصر حاسم يمكن أن يؤدي إلى تغيير خريطة الفاعلين في غزة، والقضاء -كما تدعي- على المقاومة التي تقودها حماس.
ومع الفارق الهائل في القوّة بين الطرفين، وهو عنصر لم يتم اكتشافه حديثا، إلا أن الطرف المقاوم في غزة يملك نقاط قوّة ليس بمقدور جيش إسرائيل بتركيبته الحالية، عناصر وقيادات، تحقيق نصر حاسم في غزة، كما أن إمكانيات المقاومة يصعب تدميرها مرّة واحدة وإلى الأبد، وخاصة وأن هذه الإمكانيات ليست هياكل وقوى صلبة وحسب، بقدر ما هي تراكم خبرات وأجيال، الجزء الأكبر منها غير منظم ومؤطر لكن يمكن تفعيله في أي وقت بحيث يستطيع صناعة قوى توازي قوّة حماس، هو قوى احتياطية عند الطلب الفلسطيني وعند حاجة المجتمع الغزاوي، وهو أمر يدركه الكثير من السياسيين حول العالم؛ الذين حذروا من أن القضاء على حماس قد ينتج دينامية متشظية تنتج عشرات التنظيمات القاتلة لكن بدون رأس وإدارة وقيادة.
ستكون العودة إلى الوضع ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر أحد الخيارات القليلة المطروحة للنقاش والتطبيق، وربما تنتهي جولة الصراع عند حدود المطالبة بإعادة الأسرى لدى كل من الطرفين، إذ إن فترة الهدنة التي قبلت بها حكومة اليمين المتطرف، والتي من المتوقع أن يجري تمديدها بطريقة ما، ستؤثر بشكل كبير على الزخم العملياتي الإسرائيلي
وحدها حكومة نتنياهو المتطرفة ترفض الاعتراف بهذه المعادلة المعقّدة، أقله حتى اللحظة، وقد تكون في طورها إلى الإقرار بها لكن عبر تشريبها شيئا فشيئا للمجتمع الإسرائيلي بعد أن سيطر التطرف عليه، وهو التطرف الذي غذّته نخبة الحكم الإسرائيلية لضمان وصولها للحكم واستمرارها به، وهي تدرك أن تراجعها عن الأهداف الكبيرة التي وضعتها في بداية الحرب يعني القضاء عليها، وربما عبر الدوس بالأحذية من جماهير متطرفة وأخرى غاضبة من حكم اليمين.
في إطار المعطيات الراهنة والحاكمة، ستكون العودة إلى الوضع ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر أحد الخيارات القليلة المطروحة للنقاش والتطبيق، وربما تنتهي جولة الصراع عند حدود المطالبة بإعادة الأسرى لدى كل من الطرفين، إذ إن فترة الهدنة التي قبلت بها حكومة اليمين المتطرف، والتي من المتوقع أن يجري تمديدها بطريقة ما، ستؤثر بشكل كبير على الزخم العملياتي الإسرائيلي، الذي وصل إلى مرحلة لم يعد يحقق نتائج استراتيجية مهمة، بعد أن تكيفت فصائل المقاومة في غزة مع الغارات الإسرائيلية، كما أنه لم يعد ممكنا إنتاج حجم الكثافة النيرانية التي استخدمتها إسرائيل في فترة الخمسين يوما الماضية، فالاستمرار بها يعني صرف رصيد إسرائيل الاستراتيجي من الذخيرة وهو أمر لا يمكن المغامرة به في هذه الظروف.
بالإضافة لذلك، ستضطر إسرائيل إلى الرضوخ للتيارات الناهضة في الإدارة الأمريكية، التي تطالبها بتسريع إيجاد مخارج للحرب لعدة أسباب، أهمها تقييم الأمريكيين أن هذه الحرب لن توصل إلى الأهداف التي تم رفعها في البداية، ومنها تفكيك حماس نهائيا، فهذا الهدف أثبتت الوقائع والتطورات أنه غير واقعي ولا يمكن استمرار السير به؛ لما قد ينتج عنه من خسائر ضخمة قد تطال وضع أمريكا ومصالحها في قلب المخاطر، والسبب الآخر أن استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل، سيكون من رصيد دعم الحرب في أوكرانيا التي تؤثر على التوازنات الدولية بشكل أكبر وأعمق من الحرب في غزة.
لا مفر إذا من العودة إلى سياسة إدارة الصراع، من قبل أمريكا وإسرائيل في فلسطين، التي قامت بدرجة كبيرة على منطق الضغط على الفلسطينيين تارة وترك الباب مواربا امام مفاوضات سياسية بصيغة من الصيغ، أو على الأقل الوعد بمفاوضات في مرحلة ما، على ألا تصل إلى حد تطبيق اتفاقيات أوسلو أوحل الدولتين، مقابل استمرار سياسات إسرائيل في القضم البطيء للأراضي الفلسطينية، وربما التراجع عن التهديد بتهويد القدس والمسجد الأقصى.
جزء من هذه المعادلة ستفرضها التطورات الإسرائيلية في المرحلة المقبلة، إذ من المرجح سقوط الطبقة الحاكمة الحالية التي بات رصيدها الانتخابي متدنيا في الأوساط الإسرائيلية، وخاصة وأن المجتمع الإسرائيلي سيشعر بحجم الألم بعد أن تبرد جراحه، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي سترتبها تكاليف الحرب والصراع السياسي داخل النخب الإسرائيلية، والجزء الآخر سيفرضه الخارج الذي أدرك أنه تورط في السير وراء الجنون الإسرائيلي ويبحث عن مخارج للأزمة الراهنة.
المرحلة المقبلة، ومهما قيل عن أن ما قبل الحرب لن تكون كما بعدها، لن تكون سوى عودة لسياسات سابقة، ومن خلالها ستحاول الطبقة الحاكمة في إسرائيل إقناع الجمهور بأنها انتقمت لقتلاها، بل وأنهت قدرات حماس، فيما ستصر حماس على ان إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها
لا يعني ذلك أن مستقبلا ورديا ينتظر الفلسطينيين وغزة، فالمجتمع الغزاوي سيحتاج وقتا طويلا لتضميد جراحه من هذه الحرب المجنونة، كما أن حماس ستواجه ضغوطا هائلة من مجتمع مسيس بدرجة كبيرة، والأهم من كل ذلك، أنه ليس لدى الفاعلين الكبار ولا الأطراف العربية القدرة على فرض رؤاهم وتصوراتهم، من نوع إيجاد حل شامل للقضية وإجبار إسرائيل على الاعتراف بحق الفلسطينيين، وستراهن جميع الأطراف على الديناميات التي ستنتجها الحرب في المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني، وإمكانية توظيفها بعد ذلك في إنتاج صيغ جديدة للحل.
على ذلك، المرحلة المقبلة، ومهما قيل عن أن ما قبل الحرب لن تكون كما بعدها، لن تكون سوى عودة لسياسات سابقة، ومن خلالها ستحاول الطبقة الحاكمة في إسرائيل إقناع الجمهور بأنها انتقمت لقتلاها، بل وأنهت قدرات حماس، فيما ستصر حماس على ان إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها.. وهكذا.
twitter.com/ghazidahman1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة إسرائيل الفلسطيني الهدنة إسرائيل فلسطين غزة الهدنة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لن تکون فی غزة ما قبل
إقرأ أيضاً:
كريم وزيري يكتب: أرباح الحروب التي لا نراها في نشرات الأخبار
في كل حرب، تتجه الأنظار نحو الجبهات، نحو الدبابات التي تزمجر، والطائرات التي تمطر، والجنود الذين يسقطون على أطراف الخرائط، لكن قليلون من ينظرون خلف الكواليس، حيث تجلس الأطراف الرابحة في صمت، تتابع المشهد من شاشات تحليل البيانات أو مكاتب صفقات السلاح، تحتسي قهوتها بهدوء بينما تُعد الأرواح على الأرض مجرد أرقام في تقارير الأداء، ومنذ الحرب العالمية الأولى وحتى أحدث صراع في أوكرانيا أو غزة، ظل السؤال نفسه يُطرح بين من يجرؤون على كسر السرديات الرسمية وهو من يربح حقًا من هذه الحروب؟
هناك من يعتقد أن تاجر السلاح هو الرابح الأكبر، وهو رأي له وجاهته، فصناعة السلاح هي من أكثر الصناعات التي لا تخسر أبدًا، الحرب بالنسبة لها ليست دمارًا بل موسم رواج، كل دبابة تُستهلك تُستبدل بأخرى، وكل صاروخ يُطلق يُعوض بعقد توريد جديد، وشركات كبرى مثل لوكهيد مارتن، ريثيون، تُضاعف أرباحها كلما احتدمت الجبهات، والحروب تُستخدم كإعلانات حية لمنتجاتهم، ويكفي أن تنجح طائرة واحدة في تنفيذ مهمة دقيقة حتى تصبح نجمة معارض السلاح التالية، والدول لا تشتري فقط القدرة على القتل، بل تشتري وهم التفوق، هالة الردع، وشعورًا زائفًا بالأمان.
لكن الصورة تغيرت، فخلف الكاميرات، هناك لاعب جديد دخل الساحة، لا يرتدي زيًا عسكريًا ولا يظهر في نشرات الأخبار، إنه من يملك المعلومة، من يستطيع أن يوجه الرأي العام، أن يصنع العدو، أن يعيد تعريف النصر والهزيمة حسب مزاج مصالحه، من يملك المعلومة يملك القوة الناعمة والصلبة في آنٍ واحد، شركات مثل غوغل وميتا وأمازون لم تُصنف حتى الآن ضمن "شركات الدفاع"، لكنها تملك بيانات عن الشعوب أكثر من حكوماتها، وتستطيع حرف المسارات السياسية عبر خوارزمية، أو إخماد ثورة بتقليل ظهورها في "الترند".
لم تعد المعركة فقط على الأرض، بل على الشاشات، في كل ما يُقال ويُعاد ويُضخ، في كل إشعار يصل لهاتفك ويستهدف وعيك قبل أن يستهدف جسدك، باتت المعلومة أقوى من القنبلة، لأنها تهيئ لها الطريق، وتُشيطن طرفًا، وتبرر الحرب، وتمنح الضوء الأخضر النفسي قبل العسكري، ومن يتحكم في الصورة، يتحكم في المعركة، ومن يتحكم في التحليل، يتحكم في المصير.
صانع السلاح يربح عندما تشتعل الحرب، لكن صانع المعلومة يربح حتى في الهدنة، بل أحيانًا يُشعل الحرب لتخدم روايته، والمشكلة أن كثيرًا من الصراعات التي نشهدها الآن لم تُخلق من نزاع حقيقي على الأرض، بل من تضخيم إعلامي أو سردية مصطنعة، أصبح بالإمكان تصنيع "عدو"، ثم بث الخوف منه، ثم تسويقه كمبرر لحرب لاحقة، وكل ذلك دون أن يخرج مطلق المعلومة من مكتبه.
منذ سنوات بدأت شركات السلاح تستثمر في شركات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، والعلاقة بين الاثنين لم تعد منفصلة، وهناك من يصنع السلاح، وهناك من يصنع القصة التي تُبرر استخدامه، وهناك من يجهز الطائرة، وهناك من يجهز عقل المواطن ليتقبل القصف.
المعلومة أصبحت سلاحًا موازيًا، بل سابقًا على القذيفة. فالقصف يبدأ من رأسك، من فكرة يتم زرعها، حتى تصدّق أنها "حرب عادلة" أو "دفاع عن النفس".
السؤال الآن من يربح أكثر؟ من يبيع الموت في شكل معدني أم من يبيعه في شكل رواية؟ من يملك المصنع أم من يملك التأثير؟ من يتحكم في الجيوش أم من يتحكم في العقول؟ الواقع أن كليهما رابح، لكن الفارق أن تاجر السلاح يربح مرئيًا، في حين أن تاجر المعلومة يربح في الخفاء، دون أن يُسأل أو يُحاسب، بل الأسوأ قد تراه بطلًا، أو خبيرًا محايدًا، وهو في الحقيقة من يدير المعركة بطرف إصبع.
الربح في الحروب لم يعد فقط ماليًا، إنه أيضًا في التأثير، في إعادة رسم الخرائط، في التحكم في السرديات الكبرى، والأدهى من ذلك أن الشعوب نفسها باتت هي السلعة، بياناتهم، عواطفهم، مخاوفهم، سلوكهم على الإنترنت، كل ذلك أصبح يُباع ويُشترى ويُستخدم كوقود في حروب غير تقليدية، حروب لا يُطلق فيها رصاص بل تُحقن فيها العقول بما يكفي لتدمير ذاتها.
صانع السلاح يربح حين تسقط الجثث، لكن صانع المعلومة يربح حين تنهار الثقة، حين تصبح الحقيقة مشوشة، والواقع ضبابيًا، والعقل هشًا، قد لا تراه، لكنه موجود في كل إشاعة، في كل فيديو مفبرك، في كل خطاب تعبوي يُبث، في كل "ترند" يُدير الوعي الجمعي دون أن ينتبه أحد.
الحروب القادمة لن تكون فقط على الأرض، بل في الفضاء الإلكتروني، في غرف الاجتماعات المغلقة، في مراكز تحليل السلوك البشري، وساحة المعركة لن تكون فقط الجبهة، بل أيضًا شاشة هاتفك، عقل ابنك، وتصوّرك لما يجري من حولك.
قد لا تشتري سلاحًا، لكنك تستهلك المعلومة، وقد لا تقتل أحدًا، لكنك قد تقتل الحقيقة دون أن تدري.