أمشي طويلا غير أني أخون تقاليد المشائين بوضع سماعاتي التي تعزلني عن أصوات المدينة. آخذ الطريق الذي يمر عبر جسر Dornröschenbrücke. كالعادة ومهما كان الوقت من اليوم، تجد الشباب قد جلسوا عليه وأخذوا يعزفون، أو يتحدثون وظهورهم إلى الحاجز. مزاج الجسر فيه انفتاح ودعوة للتشارك. يطلبون من بعضهم ورق التبغ ليلفوا سجائرهم، أو الولاعات ليشعلوها، وفي الأثناء يتبادلون الأحاديث الصغيرة، التي تتحول لأحاديث حميمة كلما اقترب المساء وأظلم.
غالبا ما أسمع الموسيقى، بودكاست، أو كُتبا صوتية. أفعل هذا بخجل، لأن في المشي -كما يُفترض- تصفية للبال، واستسلام الأفكار التي تحط وتمضي، تحل دون دعوة، وتذهب دون إصرار.
عبرتُ الجسر إلى الحديقة، الحديقة إلى الشارع. هناك كانت جالسة وسط الطريق، امرأة لعلها في الأربعينات أو نهاية الثلاثينات. لا هي تجري كمن حولي متعجلة الوصول لهدفها، ولا هي جالسة باسترخاء على دكة بجانب الرصيف. لم يكن إلا حين مررتُ قريبا منها وصرت على بُعد أقدام، أن لمحت ما تحرس ثمة حمامة مجروحة تقف أمامها. وهذه المرأة تحرسها من السيارات والسائرين وفي يدها هاتفها. خمنت أنها ولابد قد طلبت من صديق أن يأتي بقفص لوضعها وحملها إلى البيطري. أتساءل ما الذي جعل هذه المرأة تشعر أن إنقاذ الحمامة هو مسؤوليتها، كان بإمكانها أن تلمح الطائر الجريح، تشعر بتعاطف عابر، وتمضي -مثلنا جميعا- في سبيلها إلا أنها لم تفعل، ولو أنها افترضت أن شخصا ما سيأتي ويحمل مسؤوليتها، ربما فقدت الحمامة -في الواقع، وفي تلك الأثناء- حياتها. تعلم المرأة دون شك أن اعتناءها بالطائر لا يعني فقط العبث بخطة ما بعد الظهيرة التي وضعتها، وإنما أيضا تحملها فاتورة البيطري.
ما الذي يعنيه أن تأخذ على عاتقك أن تُغير؟ أن تتطوع بكل ما في المبادرة من خسائر. يحتاج الأمر لشجاعة واستعداد، ولعقلية لا تخضع لمعادلات الاستثمار. كل مُبادر/ة مقامر يتوقع الخسارة أكثر من الربح ولا يبالي. أكثر ما قد يربحه إشادة تافهة هنا أو هناك أو ربما إن كان محظوظا (وقليلا ما يحدث هذا) يرى بعينيه التغيير. لكن الذات الصابية للإصلاح لا تعبأ. تتهور، تلتحم، وتقبل الخسارات دون خيبة. المُصلح/ة مُخرب. ثمة نوع من الثقة بأن الجهد -الذي لن يكون بالضرورة مُقدّرا- مع هذا لن يذهب هباءً، سيُبنى عليه. الإيمان الذي لا يستند إلى الوقائع هو ما يحث على المواصلة، إيمان يُصغي لوعود بعيدة. وعد بشيء -ليس بالضرورة أفضل، ليس في المدى القريب، وعلى نحو مُباشر على أي حال- لكنه يُقارب قدر الإمكان فكرته/ا عن الحياة. يُعلق التشكيكات كأوسمة. سيقولون: حالم، غير عملي، انتحاري، مُشاغب، غير صالح - سيمتلك موقفه، ولن يعبأ. «وحدة من اللي فاهمين الحرية غلط» هكذا تُعرف سبيكة عن نفسها في البايو. لا أعرف -للأمانة- هذه المرأة بشكل شخصي، الشيء الوحيد الذي أعرفه أن الطريقة التي تُقدم بها نفسها تُعجبني، إنها تقول بطريقتها: دعونا نختصر شوط النقاشات العقيمة، هنا أقف دون اعتذارية، ودون طول بال أيضا، فالذي أُريده رديكاليٌ لحد لا تحتمله الخيالات المائعة، التي نجحت السلطة في احتلالها وتشكيلها. أن تحتل السلطة خيالك، هذا أعنف ما قد يحصل لك، وأن تنتزع خيالك منها بعد، أن تسترده -رغم ما فيه من انتحارية- حق نفسك عليك، والطريقة الوحيدة لإنصافها.
أفعال وأقوال صغيرة كهذه (لكنها ليست تافهة بأي معنى) تُعيد المرء إلى نفسه. لا أقول أنها تذكير بأن الدنيا بخير (ما أبعدها عن ذلك)، لكنها تطمين إلى أننا سنحتمل هُراءها. وأننا سنجترح (هل ثمة من يستخدم هذه الكلمة بعد) بأيدٍ عارية - معانٍ ثرية، مهما يكن العالم قاحلا، شحيحا، وداعيا للتسليم.
نُهادن، نلتقط أنفاسنا، ونعود لها. القادم سيكون بقسوة الفائت إن لم يكن أقسى. سنمشي طويلا، وسنُسلم أجسادنا المتحركة الزمام وسنعثر بمئات الأفكار ونُخلفها. لكنها لن تُخلفنا كما توقعنا وستدفعنا خطوة وراء خطوة نحو شيء لا نعرفه.
أي تجربة شخصية تمر بها امرأة تُنقذ حمامة، أي حنان فيها، وأي قيمة تمنحها فكرة الإنقاذ. ماذا عن الذين لا يخطر ببالهم تقديم العون؟ هل يأتي هذا من ثقة ساذجة في البشر (أن شخصا ما ولابد سيتوقف عندها ويرعاها)، هل يأتي من بلادة (ما نراه من ظلم يومي يُحصننا، ويضع حاجزا ثقيلا بيننا وبين استسلامنا لعواطف طارئة)، هل يأتي من قلة حيلة (ليس الجميع قادر على أن يدفع فاتورته، فما بالك بدفع فاتورة بيطري لحيوان بري، ثم ماذا عن الوقت الذي لا يملك المطحونون -تحت ثقل الأعباء اليومية- رفاهية صرفه في شأن غير مخطط له).
دعونا نتذكر أن نعطف أكثر، فلننصت للحظة، لما تُقرر الحياة أنه أهم، فلنضرب بارتباطاتنا عرض الحائط، فلنتحدَّ الكاليندر، وجداول القطارات، ومواعيد التسليم، لأنها هي الأخرى سلطة نافذة تُقرر ما يهم وما لا يهم بالنيابة عنا، وتجعلنا عبيد الساعات والخطط الموضوعة لنا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
الفرق بين الورم والسرطان.. ما الذي يجب معرفته؟
يمكن أن يظهر الورم في أماكن متعددة مثل الدهون والعضلات والعظام والأعصاب والغدد. لكن ليس كل ورم سرطاني، ولا كل سرطان يظهر على شكل ورم.
غالبًا ما يختلط على كثيرين، وحتى على بعض العاملين في المجال الطبي، الفرق بين "الورم" و"السرطان"، ما يؤدي إلى ارتباك في فهم الحالة الصحية للمرضى. ففي بعض الأحيان يستخدم الأطباء مصطلحات مثل ورم، كتلة، آفة أو بقعة للتخفيف من وقع الخبر، بينما يقصدون السرطان فعليًا.
ما هو الورم؟يعرف قاموس أكسفورد الورم بأنه "أي انتفاخ غير طبيعي في أي جزء من الجسم أو عليه".
ويمكن أن يظهر الورم في أماكن متعددة مثل الدهون والعضلات والعظام والأعصاب والغدد. لكن ليس كل ورم سرطاني، ولا كل سرطان يظهر على شكل ورم. فهناك أورام حميدة لا تشكل خطورة عادة، مثل: الدهون تحت الجلد (Lipomas)، والأورام الدموية (Hemangiomas)، التي تظهر غالبًا كبقع حمراء أو أرجوانية على الجلد.
وفي المقابل، بعض الأورام الحميدة قد تسبب مشاكل بسبب موقعها، مثل:الألياف الرحمية (Uterine fibroids) التي تؤدي إلى نزيف حاد أثناء الدورة الشهرية، وأورام الغدة النخامية الحميدة (Pituitary adenomas) التي قد تفرز هرمونات بكميات مفرطة.
ورغم أنها ليست سرطانية، قد تكون هذه الأورام خطيرة أحيانًا ويُنصح بإزالتها جراحيًا.
ما هو السرطان؟ينشأ السرطان عندما تطرأ تغييرات جينية على الخلايا الطبيعية، تُعرف بالتحولات أو الطفرات، مما يسمح لها بالانفلات من الرقابة الطبيعية للجسم.
Related نتائج واعدة.. هل تغيّر الجسيمات المعدنية مسار علاجات السرطان؟قفزة علمية: تقنية تُحوِّل دواءً عادياً إلى قاتلٍ خارق للخلايا السرطانيةاكتشاف طبي جديد.. تجارب تُظهر إمكانية دفع الخلايا السرطانية إلى الموت الذاتيوتتميز الخلايا السرطانية بعدة خصائص، أبرزها: النمو غير المنضبط، ومقاومة جهاز المناعة، والقدرة على غزو الأنسجة المحيطة (الانتشار الموضعي) ،والانتقال إلى أجزاء أخرى من الجسم (النقائل أو Metastasis).
وبهذا، يُميز السرطان عن الورم الحميد، فالخلايا السرطانية خبيثة وقد تشكل تهديدًا لحياة المريض. وتجدر الإشارة إلى أن بعض أنواع السرطان، مثل سرطان الدم (Leukemia)، لا تتشكل على هيئة كتلة صلبة.
كيف يتم اكتشافهما؟قد يلاحظ المريض وجود كتلة أو تورم، أو يظهر أثناء الفحوصات الطبية لأعراض معينة مثل صعوبة البلع. تختلف الأعراض بحسب مكان الورم أو نوع الخلايا المكونة له، فمثلاً أورام الجهاز الهضمي قد تسبب انسدادًا يؤدي إلى مشاكل في الهضم.
ويُستخدم التصوير الطبي مثل الموجات فوق الصوتية، الأشعة المقطعية (CT)، أو الرنين المغناطيسي (MRI) لتقييم الورم. كما يمكن أخذ عينة من النسيج للفحص المجهري لتحديد ما إذا كان الورم حميدًا أم خبيثًا.
كيف يُعالج الورم والسرطان؟ ولماذا يجب استخدام المصطلحات الصحيحة؟يمكن أن يكون العلاج متشابهًا في بعض الحالات، مثل إزالة الورم السحائي في المخ أو سرطان الجلد القاعدي. لكن السرطان غالبًا ما يتطلب علاجًا أكثر تعقيدًا وسرعة، لأنه قد ينتشر ويشكل خطرًا على الحياة.
وتشمل خيارات العلاج أحيانًا: الجراحة، العلاج الإشعاعي، والعلاج الكيميائي أو العلاجات الجهازية الأخرى التي تؤثر على الجسم بأكمله.
ويسبب استخدام الكلمات بشكل خاطئ ارتباكًا لدى المرضى. فكلمة "سرطان" قد تحمل دلالات سلبية مرتبطة بالمرض والموت، بينما بعض أنواع السرطان لها فرص شفاء جيدة.
وقد أظهرت الدراسات أن أقل من نصف المرضى يفهمون أن مصطلح "ورم" قد يشير إلى السرطان إذا استخدمه الطبيب كطريقة للتلطيف.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة