الجثث المتحللة في قطاع غزة.. ما الأمراض التي تنقلها والمخاطر التي تحملها؟
تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT
أصبحت مشاهد الجثث المتحللة شائعة بقطاع غزة في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والذي خلّف -حتى أمس الثلاثاء- 20 ألفا و915 شهيدا و54 ألفا و918 جريحا، معظمهم أطفال ونساء، فما الأمراض التي قد تنجم عن انتشار الجثث في غزة؟
أمس، رصدت الجزيرة جثامين شهداء فلسطينيين تحللت في شوارع بيت حانون شمالي قطاع غزة، حيث لم يتمكن الأهالي من دفنها بسبب شدة القصف الإسرائيلي وتعذر وصول سيارات الإسعاف والدفاع المدني.
من جانبها، نقلت وكالة الأناضول عن شهود عيان ومصادر محلية أن هذه الجثامين بقيت في الشوارع منذ بدء الهجوم البري الإسرائيلي على غزة في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وقبل ذلك وردت شهادات عن جثث أخرى تركت في الطرقات ونهشت الكلاب أجزاء منها.
وكذلك أظهرت صور خاصة للجزيرة جثامين شهداء في شوارع حي الشيخ رضوان شمالي القطاع لم يتمكن الفلسطينيون من دفنها أيضا.
جثث رضع متحللةونهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي نقل أحد المراسلين صورا صادمة من مستشفى النصر للأطفال، تظهر جثث أطفال متحللة في قسم العناية منع جيش الاحتلال إخراجها ودفنها.
ووقتها، أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أنه وثق العثور على 5 أطفال رضع موتى وبحالة تحلل في حضانة مستشفى النصر بعد أن تُركوا لمصيرهم منذ 3 أسابيع بما "قد يرتقي إلى جريمة إعدام مروّعة وجريمة ضد الإنسانية". ودعا المرصد لتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة في الحادثة.
ما الأمراض التي قد تنجم عن انتشار الجثث في قطاع غزة؟علميا فإن الجثث تشكل خطرا صحيا ضئيلا وليست مصدرا لانتشار الأوبئة، وعادة لا تنشر الأمراض بين العامة. ولكن هذا ينطبق في حالة وجود خدمات صحية ورعاية وموظفين يتولون التعامل معها ودفنها بالطريقة اللائقة.
أما في غزة، فإن الأمر ليس كذلك، حيث قام الجيش الإسرائيلي بتدمير القطاع الصحي واستهداف الكوادر الطبية، وتبقى الجثث ملقاة في الشوارع لأيام وأسابيع، ولا يستطيع أحد سحبها ودفنها.
هل هناك خطر على الأشخاص الذين يتعاملون مع الجثث؟
الأشخاص الذين يتعاملون مع الجثث (عمال الإنقاذ، موظفو المشرحة، وما إلى ذلك) يتعرضون لخطر طفيف للإصابة بالسل والتهاب الكبد "بي B" و"سي C" وأمراض الإسهال. ومع ذلك، فإن هذه الأمراض لا تدوم أكثر من يومين في الجثة. ويمكن للعمال تقليل المخاطر من خلال ارتداء الأحذية والقفازات المطاطية وممارسة النظافة الأساسية (مثل غسل أيديهم).
ولكن في غزة هناك نقص في المعدات مثل القفازات وأقنعة الوجه والمعقمات ومستلزمات النظافة مثل الصابون، وبالتالي هناك خطر أكبر لإصابة من يعملون في نقل الجثث ودفنها.
هل يمكن لجثث الموتى أن تلوث الماء؟من المحتمل، نعم. وكثيرا ما تتسرب إفرازات من الجثث، مما قد يؤدي إلى تلويث الأنهار أو مصادر المياه الأخرى بأمراض الإسهال.
ما الأمراض والمشاكل التي قد تنجم عن انتشار الجثث في قطاع غزة؟يمكن أن تشكل الجثث غير المدفونة في غزة -وخاصة مع هطول الأمطار- هذه المخاطر:
1- انتشار الأمراض وتلوث المياهيمكن لمياه الأمطار أن تغسل سوائل الجسم والملوثات من الجثث، مما قد يؤدي إلى تلويث مصادر المياه التي يعتمد عليها الناس للشرب والطهي والاستحمام، مما يؤدي لانتشار الأمراض وخاصة أمراض الإسهال.
وفي غزة يؤدي المزيج من الأعداد المتزايدة من الجثث المتحللة، والنقص الحاد في المياه، ونقص خدمات النظافة والصرف الصحي، وغياب الرعاية الطبية، إلى زيادة خطر مرض الكوليرا، وهو مرض من أعراضه الإسهال.
2- جذب النواقل (الكائنات التي تنقل الأمراض)يمكن للجثث غير المدفونة أن تجتذب الحشرات والقوارض التي يمكن أن تحمل الكائنات الحية المسببة للأمراض. ويمكن للحشرات والفئران أن تنشر العدوى. كما يمكن أنت تجذب الجثث حيوانات أخرى قد تقتات عليها خاصة في ظل عدم وجود غذاء، مثل القطط والكلاب.
3- الملوثات المحمولة جوايمكن أن تنتقل الغازات والجسيمات المتحللة عبر الهواء، مما قد يسبب مشاكل في الجهاز التنفسي للأشخاص الموجودين في المنطقة المجاورة.
4- التأثير على الصحة العقليةيمكن أن تكون لرؤية ورائحة الجثث غير المدفونة آثار نفسية على المجتمعات، مما يسبب الصدمات النفسية.
ومن مسببات أمراض الإسهال:
العدوى نتيجة الجراثيم أو الفيروسات أو الطفيليات، التي ينتشر معظمها عن طريق المياه الملوّثة بالبراز. ويزداد شيوع العدوى عندما تشحّ المياه النقية اللازمة للشرب والطهي والتنظيف. والفيروس العجلي والإشريكية هما الأكثر شيوعا وأهمّ مسبّبات الإسهال. مصادر مياه الملوثة ببراز البشر، مثلا من مياه المجارير والمراحيض والجثث. ويحتوي براز الحيوانات أيضا على ميكروبات كفيلة بالتسبب بالمرض.
كارثة صحية
وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي حذر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من أن كارثة صحية تلوح في قطاع غزة، حيث لا تزال الجثث متناثرة في الشوارع وتحت أنقاض المباني التي دمرها العدوان الإسرائيلي. وأشارت المنظمة الحقوقية إلى خطورة انتشار أمراض مثل الكوليرا واضطرابات الجهاز المناعي في كافة أنحاء القطاع.
وقالت المنظمة الحقوقية، ومقرها جنيف، إن قطاع غزة يفتقر إلى الخدمات الأساسية اللازمة للبحث عن الجثث تحت الأنقاض، سواء بسبب نقص الآليات والمعدات الثقيلة التي تحتاجها فرق الإنقاذ والدفاع المدني، أو الشلل الكامل لسيارات الإسعاف والفرق الطبية. بالإضافة إلى ذلك، فإن انقطاع التيار الكهربائي يجعل من الصعب وضع الجثث في المشرحة، مما يؤدي إلى عمليات دفن غير لائقة.
يؤدي "التحلل العلني" لجثث الموتى لفترات طويلة إلى نقل أمراض خطيرة، بما في ذلك الفيروسات المنقولة بالدم والسل. وقال الأورومتوسطي إن التهابات الجهاز الهضمي مثل الكوليرا يمكن أن تنتشر بسهولة أيضًا، من خلال الاتصال المباشر مع الجثث التي يتسرب منها البراز أو الملابس المتسخة أو الأدوات أو المركبات الملوثة.
وقد يؤدي الدفن غير السليم والدفن العشوائي للجثث في المقابر الجماعية إلى الإصابة بأمراض مختلفة مثل الكوليرا، والتي قد تنتشر بسبب وجود الجثث بالقرب من مصادر المياه أو فيها. وقالت المنظمة الحقوقية إن وجود الجثث بالقرب من مصادر المياه أو فيها أمر مقلق للغاية.
ويمكن أن يؤدي ذلك إلى مشاكل صحية مثل الإسهال وأمراض أخرى لأن الجثث قد يتسرب منها البراز وتلوث مصادر المياه. بالإضافة إلى ذلك، قد تظل بعض البكتيريا والفيروسات نشطة في الجسم لفترة من الوقت بعد الوفاة، مثل التهاب الكبد والسل.
وأضافت المنظمة أن بعض الحيوانات، بما في ذلك الطيور والقوارض والحشرات، يمكن أن تتغذى على الجثث وتنشر الأمراض، مثل البعوض المسبب للملاريا.
وتزداد المخاوف من انتشار الأوبئة في غزة، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي والتدمير الممنهج للقطاع الطبي واستهداف المستشفيات، الذي كان منها مستشفى العودة شمالي قطاع غزة، والذي تحول إلى مسرح للعمليات العسكرية الإسرائيلية خلال الأيام الماضية، بعد استهدافه عدة مرات وفرض الحصار عليه وقتل وإصابة واعتقال عدد من طواقمه الطبية وموظفيه والجرحى والنازحين بداخله.
ولم يتلق مستشفى العودة أي مساعدات طبية أو غذائية منذ أكثر من شهرين، وقد استنفد معظم مخزونه من هذه المواد خلال الأسابيع الماضية قبل أن يخرج عن الخدمة ويكتفي بتقديم رعاية طبية متواضعة للجرحى لديه.
ويقول بكر أبو صفية، الطبيب الجراح بمستشفى العودة، للأناضول، إنه يقوم بأعمال مدير المستشفى أحمد مهنا منذ أن اعتقلته القوات الإسرائيلية قبل حوالي 6 أيام.
ويضيف أبو صفية أنهم في المستشفى منذ اليوم الأول للحرب ومعظم الطواقم الطبية والموظفين هنا لم يغادروا إلى منازلهم حتى اليوم، في عمل متواصل لمدة تزيد على 80 يوما.
ويتابع "استقبلنا المئات من الجرحى والشهداء وقمنا بإجراء مئات العمليات الجراحية أغلبها بالأطراف".
ويتحدث الطبيب أبو صفية عن تعامل القوات الإسرائيلية مع المستشفى، قائلا: تم حصار المستشفى بشكل مشدد على مدار 18 يوما انتهت قبل نحو أسبوع.
واستهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية في بداية العدوان الطابق الثالث من المستشفى واستشهد آنذاك 3 أطباء ومرافق لجريح، وأصيب ممرضان يعملان مع منظمة أطباء بلا حدود، وفق أبو صفية.
كما قتل موظفان من طواقم المستشفى أحدهما ممرض متطوع والآخر عامل خلال فترة حصاره برصاص قناصة الجيش الإسرائيلي الذين كانوا ينتشرون في المباني المحيطة، كما يقول الطبيب الفلسطيني.
وذكر أنه خلال فترة الحصار طلب الجيش الإسرائيلي من الذكور الذين تزيد أعمارهم على 16 عاما، الخروج بملابسهم الداخلية فقط.
وقال "خرج 86 شخصا بناء على طلب الجيش وبعد عدة ساعات عاد الجميع باستثناء 12 شخصا اعتقلهم الاحتلال وبينهم مدير المستشفى أحمد مهنا".
وأوضح الطبيب أبو صفية أنه كان من بين المعتقلين 4 نازحين ومصاب واحد يعاني من بتر في ساقه، وأحد المرافقين، والبقية من الكوادر الطبية بالمستشفى.
وفي أحدث التطورات، أشار إلى أنه تم قصف المستشفى بعدد من القذائف المدفعية، أمس الثلاثاء، ما تسبب بإصابة إحدى العاملات ودمار كبير في عدد من غرف المستشفى.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: مصادر المیاه فی قطاع غزة ما الأمراض أبو صفیة الجثث فی التی قد یمکن أن فی غزة
إقرأ أيضاً:
الاقتصاد سياسة.. ولا يمكن فصلهما
سهام بنت أحمد الحارثية
harthisa@icloud.com
منذ أن تشكّلت الدول وبدأت تمارس وظائفها، ظل الاقتصاد جزءًا لا يتجزأ من أدواتها السياسية، فالسياسات الاقتصادية ليست مجرد قرارات تقنية تُتخذ بمعزل عن الواقع، بل هي في جوهرها قرارات سياسية تعكس مصالح، وأولويات، وتوازنات قوى. القول إن الاقتصاد محايد أو مستقل عن السياسة يتجاهل حقيقة أن كل قرار مالي أو استثماري أو تجاري يتطلب إرادة سياسية لتوجيهه، وتحمل تبعاته.
في التاريخ القديم، كانت السيطرة على الموارد الاقتصادية تُعد بمثابة إحكام للسيادة السياسية. الإمبراطورية الرومانية لم تكن لتصمد دون تأمين تدفق القمح من مستعمراتها، وعلى رأسها مصر، التي شكّلت “سلة الغذاء” للإمبراطورية. وفي ذلك الزمن، لم يكن الغذاء مجرد سلعة؛ بل أداة للحكم، والاستقرار السياسي كان رهناً بالوفرة الاقتصادية.
أما في العصر الحديث، فقد تجلّت العلاقة بين الاقتصاد والسياسة بوضوح في أزمة النفط عام 1973، حين قررت الدول العربية المنتجة للنفط خفض الإنتاج وفرض حظر على الولايات المتحدة وهولندا بسبب دعمهما لإسرائيل. أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط بنسبة 300%، وانزلاق الاقتصاد العالمي في موجة تضخم وركود حاد. وهنا لم يكن النفط مجرد مادة خام؛ بل أداة سياسية أثَّرت في مواقف دول، وساهمت في إعادة تشكيل النظام الدولي.
في التجربة الصينية، شكّل النمو الاقتصادي منذ نهاية السبعينيات خطة سياسية منظمة، لم يكن تحرير السوق وتوسيع قطاع التصدير هدفًا اقتصاديًا فحسب، بل وسيلة استراتيجية لإرساء شرعية الحزب الشيوعي داخليًا، وتعزيز مكانة الصين في النظام العالمي. خلال أربعة عقود، نجحت الصين في انتشال أكثر من 800 مليون إنسان من الفقر، وفق بيانات البنك الدولي، وأصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهو إنجاز اقتصادي ما كان ليتحقق لولا رؤية سياسية محكمة.
الواقع الأوروبي يعزز أيضًا هذا الترابط الوثيق، فالاتحاد الأوروبي بُني على فكرة أن التكامل الاقتصادي سيمنع اندلاع الحروب مجددًا بين دول القارة. إنشاء السوق الموحدة، وتبني العملة الموحدة “اليورو”، لم يكن مسعى اقتصاديًا بحتًا، بل هدفًا سياسيًا طويل المدى لتحقيق السلام والاستقرار. رغم التحديات، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي نحو 18 تريليون دولار في عام 2023؛ مما يعكس عمق هذا التكامل الذي جمع بين السياسة والاقتصاد.
في منطقتنا العربية، تتضح العلاقة في اعتماد العديد من الدول على السياسات الاقتصادية كأدوات للتماسك الاجتماعي والسياسي. برامج الدعم الحكومي للوقود والغذاء، والتوظيف في القطاع العام، والإعفاءات الضريبية، كلها قرارات اقتصادية تُستخدم سياسيًا لاحتواء التوترات الاجتماعية وتعزيز شرعية الدولة. وفي دول الخليج، مثلًا، لا تُفهم خطط التنويع الاقتصادي بمعزل عن التحولات السياسية والاجتماعية التي تهدف إلى ضمان الاستدامة والاستقرار في عالم ما بعد النفط.
ومن واقع تجربتي، حين ناديت أثناء المقاطعة الشعبية الأخيرة بعد حرب غزة بضرورة تطوير المنتج المحلي ليحل محل السلع المُقاطَعة، اعتبر البعض أن هذا الموقف تعاطف عاطفي لا علاقة له بالاقتصاد، وأن الأجدى هو تغيير سلوك المستهلك فقط. لكن هذا الفهم يغفل عن حقيقة أن الأزمات تخلق فرصًا لإعادة توجيه الموارد، وتعزيز الإنتاج الوطني، وتثبيت السيادة الاقتصادية. وقد وقعت بعض الجهات والدول في هذا الخطأ، حين تعاملت مع المقاطعة كفعل شعبي مؤقت بدل أن تستثمره في بناء بدائل وطنية مستدامة.
حتى في مفاوضات صندوق النقد الدولي مع الدول، يظهر الاقتصاد كأداة ضغط سياسي.. الاشتراطات المصاحبة لبرامج الإصلاح، مثل تحرير سعر الصرف، أو خفض الدعم، أو خصخصة المؤسسات، ليست فقط إصلاحات تقنية، بل تؤثر مباشرة في القاعدة الاجتماعية والسياسية للحكم، وتعيد رسم العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
في النهاية.. الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة. لا يمكن فصل الإنفاق عن التمويل، ولا الضرائب عن العقد الاجتماعي، ولا الاستثمار عن رؤية الدولة لمكانتها في الداخل والخارج. كل قرار مالي هو رسالة سياسية، وكل سياسة اقتصادية تعكس هوية الدولة وأولوياتها… لهذا، فإن من يزعم أن الاقتصاد حيادي، يغفل عن واحدة من أهم حقائق التاريخ: الاقتصاد كان وسيظل أداة للسياسة، وأحيانًا جوهرها.