المفتي: المذاهب المعتبرة نشأت على أيدي أئمة عظام متمكنين من أدواتهم
تاريخ النشر: 5th, January 2024 GMT
قال الأستاذ الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: إن الاختلاف الفقهي المنضبط هو من الثراء العلمي للتراث الفقهي والإفتائي ومن سَعة الأفق والاجتهاد والسعي لتحقيق مراد الله من التيسير؛ فكل المجتهدين يجتهدون من أجل الوصول إلى مراد الله- عز وجل-، وكلٌّ له مقدماته وأدلته وبراهينه بما يغلب على الظن.
جاء ذلك في لقائه الأسبوعي في برنامج "للفتوى حكاية" مع الإعلامي شريف فؤاد على فضائية قناة الناس، خلال استكمال فضيلته الحديث عن الفتوى الترانسفالية للإمام محمد عبده، التي أجاب فيها عن بعض الأسئلة لمستفتٍ من بلد تسمى ترانسفال بجنوب أفريقيا، مضيفًا أن اختلاف العلماء رحمة بالأمة، وهو ظاهرة إيجابية؛ لأن هذا الاختلافَ الفقهي له ما يُبرره شرعًا وعقلًا.
وأكد فضيلته أن تغيُّر الحكم وَفْقًا للبيئات والأحوال والأزمنة والأمكنة أمر مُسلَّم به ومتفق عليه؛ لأنه يحقق مصالح الناس، وهو أمر موجود ومتعارف عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد هجرته الشريفة إلى المدينة نزلت تشريعات جديدة لم تكن موجودة في العهد المكِّي لتُنظِّمَ حياةَ الناس وتضبط بعض المعاملات التي شابها الغرر والجهالة؛ فنزلتْ ضوابطُ شرعيةٌ لبعض المعاملات، ثم سار الفقهاء أيضًا على هذا النهج من بعد النبي صلى الله عليه وسلم تحقيقًا لمصالح الناس؛ لأن الشريعةَ قائمة على التيسير ورعاية مصالح الناس، فالمصلحةُ هي أساسٌ للفتوى نتيجةَ الظواهر التي حَدَثتْ؛ وهذا من سماحة الشريعة ورحابتها.
وأشار فضيلة المفتي إلى أن قضية الخلاف الفقهي، إنما وُضعت لها قواعد ضابطة لضبط حركة الخلاف في المجتمع، حيث إن الاختلاف الفقهي للعلماء منطقة واسعة، ولو أُخذ بالمعايير المنضبطة فسيكون ذلك رحمة للأمة، أما لو أُخذ بمنهج آخر إقصائي فإننا سنكون في مشكلة كبيرة.
وشدَّد فضيلته على أنَّ البناء العلمي للأمة يتم ويكتمل بالاستفادة من خبراتها السابقة وليس بهدم المرحلة المباركة من عمر الحركة المذهبية، والتي استطاعت أن تحتوي الجميع، وأن تصبغهم بصبغتها الوسطية الرافعة للحرج عن الأمة، الآخذة بيدها نحو كل ما هو يسير وسهل بفضل مسيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نُقلت لنا عن طريق الصحابة ثم التابعين في انسياب تام وتعاون ملموس.
وأشار مفتي الجمهورية إلى أن المذاهب المعتبرة قد نشأت على أيدي أئمة عظام لا يُختلف على علمهم أو تمكُّنهم من أدوات النظر والاستدلال والاستنباط، وكل هذا لا يمنع ولا يتعارض مع التفاعل فيما يقع من حوادث ومستجدات، فهذه المذاهب تركت لنا المناهج التي تتيح لنا التعامل مع الواقع وَفق مراد الشرع الشريف فضلًا عن أن هذه المذاهب حظيت بعناية علمية شديدة، ساهمت في تأصيل وحفظ علم الفقه وإثرائه باجتهادات علماء هذه المذاهب على مر العصور، فلا يجوز بحال أن يدَّعِيَ مُدَّعٍ بأن تقليد هذه المذاهب يُعَدُّ خروجًا عن الطريق الصحيح لتلقِّي علوم الشرع الشريف.
وذكر فضيلة المفتي أن الإمام محمد عبده حرص في فتاويه على إبراز قاعدة أصولية مهمة وهي: "لا يُنكر المختلف فيه ولكن يُنكر المجمع عليه"، مستدلًّا بمثال من الأمثلة التي هي من قسم المختلف فيه، كإنكار البعض على صلاة المتمذهب بمذهب الإمام الشافعي عند الصلاة خلف الإمام الحنفي لوجود بعض الاختلافات الفقهية المعتبرة في هيئة الصلاة، مستشهدًا في بذلك بردِّ الإمام محمد عبده على سؤال ورد في ثنايا الفتوى الترانسفالية قائلًا: "وأما صلاة الشافعي خلف الحنفي فلا ريب عندي في صحتها، ما دامت صلاة الحنفي صحيحة على مذهبه، فإن دين الإسلام واحد. وعلى الشافعي المأموم أن يعرف أن إمامه مسلم صحيح الصلاة بدون تعصب منه لإمامه، ومن طلب غير ذلك فقد عد الإسلام أديانًا لا دينًا واحدًا، وهو مما لا يسوغ لعاقل أن يرمى إليه بين مسلمين قليلي العدد في أرض كل أهلها من غير المسلمين".
واختتم فضيلة المفتي بالتأكيد على أن هؤلاء العلماء كانوا يكنون لبعضهم كل تقدير واحترام، وسيرتهم في ذلك معروفة مشتهرة، منها -على سبيل المثال لا الحصر- ما يروى عن الإمام الشافعي في تركه للقنوت في صلاة الفجر عند زيارته لمسجد أبي حنيفة النعمان في العراق، وهو يرى وجوبه، ومن يتركه يسجد للسهو، ولما سئل عن ذلك أجاب الإمام الشافعي: تركته احترامًا لصاحب هذا القبر؛ ويقصد الإمام أبا حنيفة لأنه كان يكره من المنظور الفقهي قنوت الفجر.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
عندما يكون هناك «خداع بصري وتلوث صوتي»!
بدر بن صالح القاسمي
أحتاج في بعض الأحيان إلى حالة صمت طويلة، وإلى سكون أشبه بجمود نفسي وعقلي من أجل أن أستوعب ما يأتي به بعض البشر أو بالأحرى ما يروجونه من أفكار مسمومة وحديث لبق منمق، لكنه عبارة عن «خداع بصري وتلوث صوتي» لا يسمن ولا يغني من جوع.
عندما أستفيق مما أنا فيه، أشرع في صب أعمدة الأسئلة في مكانها الصحيح، هل الذين يدعون معرفة كل شيء في هذا الوجود هم أشخاص عقلاء مثل بقية البشر أم أن حديث الوهم والخداع الذي يلفظونه بألسنتهم الطويلة، يأتي من أدمغة غسلت تماما من أي فكر مستنير؟! في بعض الأحيان أعلن ما بيني وبين نفسي، أن ثمة خطأ بشريا يرتكبه البعض عندما يدعون الناس إلى الاستسلام والتخلص من كل طاقتهم وتحطيم إرادتهم بأيديهم، معربين لهم عن ثقتهم بأن «الحياة ليس بها مستقبل»، وبأن الذي منحهم الله إياه من نعم، عليهم التخلص منه وأن يذروه بعيدا عنهم لأنهم «سيموتون»!.
لا أعتقد بأن حتمية الموت هي من يجب أن تدفعنا نحو اعتزال كل شكل من أشكال الحياة، وأعتقد بأن مثل هذه النداءات مضللة وإن كان أصحابها ينعقون فوق كل شجرة وحجر، الحياة لم توجد من أجل جلب التعاسة للبشر، بل هي أرض خصبة للعمل والجد والاجتهاد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ثم توضع الموازين ويثاب المجد ويعاقب المخطئ، أما حتمية الموت فهي الحقيقة التي لا مناص منها وهي القدر الذي يلاقيه كل البشر والكائنات الحية الأخرى، فلما نرمي كل شيء على هذه الحقيقة أي «الموت»!.
تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي مجموعة من المقاطع الصوتية والمرئية لبعض الأشخاص الذين يدعون المعرفة بالحياة، ويدعون الناس إلى التراخي والاستسلام للقدر المحتوم، بل يطالبونهم بان يكبلوا أنفسهم بالأغلال والأصفاد، ويصطفون في طابور انتظار لحظة خروج الروح.
الموت هو اللحظة التي لا نعرف متى ستأتي لاي شخص منا، أما الترويج للأفكار السوداء فهي فعل شيطاني لا يمت للواقع بصلة، وما الذين يرفعون أصواتهم ويدعون المعرفة ويلبسون ثوب النصح والإرشاد ما هم إلا زوابع تأتي وتذهب مع الوقت!.
والبعض يهرف بما لا يعرف، يفتي في كل الأمور دون وعي أو يقين أو دراية علمية أو دينية، يصدحون ليل نهار فقط من أجل أن يتابعهم الملايين، ويتأثر بحديثهم الناس، يجدون في البحث عن «ضحايا» يصغون إلى تخاريفهم ومسرحياتهم الهزلية.
منذ فترة زمنية ماضية سمعنا عن شخص فارق الحياة، ثم اكتشف أمره بأنه أنفق كل ما كان يملك من مال، تاركا أبناءه في عوز ومشقة وبلاء، لكنه لم يترك الدنيا مديونا لأحد، بل ترك أبناءه يطلبون العون والمساعدة من الآخرين!.
عندما بحث الأبناء عن أموال أبيهم التي كان يدخرها على مدى سنوات طويلة، اكتشفوا أن ثمة شخص «أفتى له بأن الإنسان يعذب على المال الذي يتركه بعد موته حتى وإن كان حلالا»، وعليه صدق الرجل حديثه، وقام بإنفاق كل ما يملك لوجه الله، ولم يترك شيئا لأولاده!.
وهذا الذي أفتى بهذه الفتوى، نسي ما ورد في السيرة النبوية الشريفة: فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: «يا رسول الله، أنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنه لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بشطره ؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» متفق عليه.
قرأت ذات مرة حديثا يقول: «الدنيا لا تستحق أي حرب نفسية سواء كانت مع نفسك أو مع أي شخص آخر، لأنها تتقلب من لحظة إلى أخرى، صحتك قد تخونك واحبابك سيتركونك لا محالة، لا يوجد ضمان لا يشي ولو لدقيقة واحدة، فالأحوال كلها تتبدل في ثوان معدودة، لذا لا داعي مطلقا لإشعال الصراعات في حياتك»..، كلام جميل، ولكن هذا ليس معناه أن يتخلى الإنسان عن أي رابط يربطه بالحياة، ويلقي بكل الهزائم على القدر أو الآخرين.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: «لقد خلقنا الإنسان في كبد»، فمكابدة الحياة ليس معناها الاستسلام والانهزام من مواجهة الأزمات والصعوبات، ولكن طالما أن الانسان لا يزال على قيد الحياة عليه بالعمل، وأن يصارع رغباته ونزواته من أجل أن يخرج من دار الفناء إلى دار القرار آمنا مطمئنا.
هناك الكثير من الحقائق التي لا يتحدث عنها الناس، بل يركزون على نقطة سواء واحدة، يلفون حولها الحبال غليظة، وينصبون المشانق في رقاب البسطاء، يخرجوهم من رحلة الكفاح والنجاح إلى طرق المظلمة التي لا ترى فيها شمسا ولا قمرا.