قال تعالي فى كتابه الكريم: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، سورة البقرة 216.
ويعني ذلك: أن الإنسان يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة، فيصيبه الجزع والحزن، ويظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية، والفاجعة المهلكة، لآماله وطموحاته وحياته، فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة، وهدية في شكل بلية، وفوائد نظنها مصائب، ومنافع للإنسان من حيث لا يحتسب، والعكس صحيح: فكم من إنسان سعى في شيءٍ ظاهره خير، وفعل المستحيل للحصول عليه، وبذل الغالي والنفيس من أجل الوصول إليه، فإذا بالأمر يأتي على خلاف ما يريد.
هناك مثل (رب ضارة نافعة) لم يأتِ من فراغ، فقد نمر بالكثير من الظروف والأمور المحزنة، ونشعر أننا خسرنا الكثير، وربما ذلك الضرر قد أزال عنه مصيبة كبيرة قد تحصل لنا مستقبلاً، أو تأتي بعدها منفعة عظيمة.
وقد نرى مواقف ونسمع قصصاً كثيرة في ذلك، مثلا أن رجلاً قدم إلى المطار، وكان حريصاً على رحلته، وهو مجهد بعض الشيء، فأخذته نومة ترتب عليها أن أقلعت الطائرة، وفيها ركاب كثيرون يزيدون على ثلاثمائة راكب، فلما أفاق إذا بالطائرة قد أقلعت قبل قليل، وفاتته الرحلة، فضاق صدره، ولم تمض دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى أعلن عن سقوط الطائرة، واحتراق من فيها بالكامل، فسبحان الله. لعله خير.
وهناك من التاريخ عبرة وقصص، فكثير من الناس عاشوا حياة مؤلمة، تحمل فوائد لاحقة لأصحابها ولغيرهم، كسجن بعض العلماء الذي ساعدهم في تأليف كتب قيّمة كالعلامة الفقيه السرخسي رحمه الله الذي ألف كتابه المشهور: (المبسوط) إملاء على طلابه، وغربة وسفر العلامة ابن القيم الذي يسر له تأليف كتابه المعروف: (زاد المعاد)، وفقدان بصر بعض الشعراء والأدباء (ابن المعري) الذي كتب أجمل القصائد، وكذلك الأديب (طه حسين) حيث كتب مذكراته مع فقدان بصره، وكثير ممن أعطى العلوم الثمينة في ظروفه العصيبة.. فالإنسان يواجه في حياته العديد من المواقف السارة أو المحزنة، ويمر بحالات ضارة أو نافعة، فهل يتقبل ويصبر ويتذكر أن لله تعالى حكمة بالغة في كل أمر حتى إن كان ظاهره سيئاً! وأنه تعالى ينفعك مستقبلاً بغيرها ويعطيك ما تتمناه! فما على الإنسان إلا اليقين بأن الله لا يخذل الصابرين ويعوضهم الخير الكثير.
لذلك عندما يصيب شخص ما ظروف سيئة في حياته، لا ينبغي له أن ييأس من رحمة الله، فالله عز وجل له حكمة في كل أمر يصرفه حتى إن بدا ظاهره سيئًا، حتى في أبسط الأشياء كالشوكة التى تصيب الإنسان بالأذي، فقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها، إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة».
وفى النهاية
كل الأشياء التى تقع لنا أو تصيبنا ما هى إلا رسائل لتغيير مسارنا الي ما هو أفضل وأصلح لنا. وكل شيء عنده بمقدار، لهذا تكون أمورنا كلها خير أن نحن أحسنا قراءة الرسائل الربانية.
فما ضاقت إلا فرجت، وما تعسرت إلا تيسرت، وما اشتدت إلا سهل، وما أتى هم إلا اتبعه فرح وسعادة بإذن الله
فرب الخير لا يأتي إلا بالخير.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: لعله خير
إقرأ أيضاً:
أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية
أحمد زيور باشا، هذا الاسم الذي يلمع في صفحات التاريخ المصري، ليس مجرد شخصية سياسية عابرة، بل هو رمز للإصرار والعطاء والتفاني في خدمة وطنه.
ولد زيور باشا في الإسكندرية عام 1864 في أسرة شركسية تركية الأصل، كانت قد هاجرت من اليونان، لكنه بالرغم من جذوره الأجنبية، حمل قلبه وروحه على مصر، وجعل منها مسرحا لحياته المليئة بالعطاء والمسؤولية.
منذ نعومة أظافره، أظهر أحمد زيور براعة وحسا عميقا بالواجب؛ فقد التحق بمدرسة العازاريين، ثم واصل دراسته في كلية الجزويت ببيروت، قبل أن يتخرج من كلية الحقوق في فرنسا، حاملا معه العلم والخبرة ليخدم وطنه الغالي.
طفولته لم تكن سهلة، فقد كان صبيا بدينا يواجه العقوبات بحساسية شديدة، وكان العقاب الأصعب بالنسبة له مجرد “العيش الحاف”، لكنه تعلم من هذه التجارب الأولى معنى الصبر والمثابرة، وكان لذلك أثر واضح على شخصيته فيما بعد، إذ شكلت بداياته الصعبة حجر أساس لصقل إرادته القوية وعزيمته التي لا تلين.
عندما عاد إلى مصر بعد دراسته، بدأ أحمد زيور مسيرته في القضاء، ثم تقلد مناصب إدارية هامة حتى وصل إلى منصب محافظ الإسكندرية، وبدأت خطواته السياسية تتصاعد بسرعة.
لم يكن الرجل مجرد سياسي يحكم، بل كان عقلا مفكرا يقرأ الواقع ويفكر في مصلحة الوطن قبل أي اعتبار شخصي، تولى عدة حقائب وزارية هامة، منها الأوقاف والمعارف العمومية والمواصلات، وكان يتنقل بين الوزارات بخبرة وإخلاص، ما جعله شخصية محورية في إدارة شؤون الدولة، وخصوصا خلال الفترة الحرجة بعد الثورة المصرية عام 1919.
لكن ما يميز أحمد زيور باشا ليس فقط المناصب التي شغلها، بل شخصيته الإنسانية التي امتزجت بالحكمة والكرم وحب الدعابة، إلى جانب ثقافته الواسعة التي جعلته يجيد العربية والتركية والفرنسية، ويفهم الإنجليزية والإيطالية.
كان الرجل يفتح صدره للآخرين، ويمتلك القدرة على إدارة الصراعات السياسية بحنكة وهدوء، وهو ما جعله محل احترام الجميع، سواء من زملائه السياسيين أو من عامة الشعب.
عين رئيسا لمجلس الشيوخ المصري، ثم شكل وزارته الأولى في نوفمبر 1924، حيث جمع بين منصب رئاسة الوزراء ووزارتي الداخلية والخارجية، مؤكدا قدرته على إدارة الأمور بيد حازمة وعقل متفتح.
واستمر في خدمة وطنه من خلال تشكيل وزارته الثانية، حتى يونيو 1926، حريصا على استقرار الدولة وإدارة شؤونها بحنكة، بعيدا عن أي مصالح شخصية أو ضغوط خارجية.
زيور باشا لم يكن مجرد سياسي تقليدي، بل كان رمزا للفكر المصري العصري الذي يحترم القانون ويؤمن بالعلم والثقافة، ويجمع بين الوطنية العميقة والتواضع الجم.
محبا لوالديه، كريم النفس، لطيف الخلق، جسوره ضخم وقلوبه أوسع، كان يمزج بين السلطة والرقة، بين الحزم والمرونة، وبين العمل الجاد وروح الدعابة.
هذا المزيج الفريد جعله نموذجا للقيادة الرشيدة في وقت كان فيه الوطن بحاجة لمثل هذه الشخصيات التي تجمع بين القوة والإنسانية في آن واحد.
توفي أحمد زيور باشا في مسقط رأسه بالإسكندرية عام 1945، لكنه ترك إرثا خالدا من الخدمة الوطنية والقيادة الحكيمة، وأصبح اسمه محفورا في وجدان المصريين، ليس فقط كوزير أو رئيس وزراء، بل كرجل حمل قلبه على وطنه، وبذل كل ما في وسعه ليبني مصر الحديثة ويؤسس لمستقبل أفضل.
إن تاريخ زيور باشا يعلمنا درسا خالدا، أن القيادة الحقيقية ليست في المناصب ولا في السلطة، بل في حب الوطن، والعمل الدؤوب، والوفاء للعهود التي قطعناها على أنفسنا تجاه بلدنا وشعبنا.
أحمد زيور باشا كان نموذجا مصريا أصيلا، يحكي عن قدرة الإنسان على التميز رغم الصعاب، ويذكرنا جميعا بأن مصر تحتاج دائما لأمثاله، رجالا يحملون العلم والقلب معا، ويعملون بلا كلل من أجل رفعة وطنهم وشموخه.
ومن يقرأ سيرته، يدرك أن الوطنية ليست شعارات ترفع، بل أفعال تصنع التاريخ، وأن من يحب وطنه حقا، يظل اسمه حيا في ذاكرة شعبه، مهما رحل عن الدنيا، ومهما تبدلت الظروف.