تلاقي التصوف والإبداع.. أبعاد روحانية في الفن الإسلامي المعاصر
تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT
بعيدًا عن المسارات التقليدية، يسبر مجموعة من الفنانين أغوار التجليات الروحانية في الفنون الإسلامية المعاصرة، مستلهمين جوهر التصوف الإسلامي ورمزياته البصرية... يتجاوزون في إبداعاتهم حدود المألوف، معتنقين في أعمالهم زوايا رؤية مبتكرة تتجلى في استيحاء الجوانب الروحانية والتأملية من التراث الإسلامي... يخوضون في مفاهيم مجردة وفلسفية كالزمان والمكان، ويستقصون طبيعة الواقع والإدراك، مستكشفين قضايا اجتماعية وسياسية من خلال لوحاتهم الفنية.
يقدم الفنان المصري أحمد قشطة في عمله «اللانهائية والتجلي» تأملا في دور الجندي كرمز للحماية والأمان عبر العصور، بينما تستمد الفنانة الكازاخية جولنور موكازانوفا الإلهام من التراث البدوي في أعمالها، مستخدمةً اللباد كوسيط فني، بينما يناقش الفنان السعودي سعد الهويدي أهمية الروحانية والتصوف في حياة الإنسان. وتتناول الفلسطينية سمر حجازي في «الحدود المتجاوزة» آليات تشكل المعنى وأثرها على إدراك المتلقي.
يطرح هذا الاستطلاع الرؤى المتنوعة لهؤلاء الفنانين، مقدمًا تأملات عميقة في مضمون أعمالهم الفنية المختلفة..
في العمل الفني «اللانهائية والتجلي» لأحمد قشطة يتكاتف الجنود على الجدران بتنويعات لا نهائية من الاحتمالات الرياضية، تماما كالمشربيات العتيقة في حواري المدينة القديمة، حيث يتسلّل الضوء من فتحاتها الدقيقة وهي تكسر أشعة الشمس الحارقة، لكنها تبقي قبسا من نورها، وهي إذ تشتت قوة الشمس إلا أنها لا تلغي حرارتها، بل ترشد طيشها وتهذب حضورها وتجليها.
يرى الفنان المصري أحمد قشطة (المقيم في إسبانيا) بأنّ الجندي هو اللبنة الأولى في جدران الحماية والأمان، وهو القاسم المشترك في مختلف حكايات التاريخ الكامنة في طبقات الحضارة الإنسانية، وأن الجندي قد يرتدي زيا جديدا وقد يبدل أسلحته ودروعه، لكنه يظل حاضرا بروحه وبحضوره الطاغي على الأشياء، وفي فلسفة لعبة الشطرنج، فعلى الرغم من أنه العنصر الأضعف إلا أنه الوحيد القادر على التحول، وتأتي هذه التجربة الفنية نتاج تفاعل العلاقات المجردة، والبحث الدائم وراء النسبة وأسرارها، فالجمال كله نسب والموسيقى نسب والشعر والعمارة نسب، والظل والنور واللون نسب والتراتيل والترانيم والمزامير كل شيء بمقدار.
ويضيف «قشطة» يأتي العمل للتعبير عن مفهومه للفن الإسلامي، حيث يعتبر بأنه قد وجد ليسكن القلب، وينقش برقة رسالة محفورة على جدار العقل، وينفذ سائغا إلى عمق كيان الإنسان، ويخاطب فيه الزمان والمكان حيث أنفاس الغائبين، ويجود بجماله ليملأ فراغات الروح، ويتركها سارحة في الملكوت تسبح بحمد الله.
التمسك بالثوابت
عن أعماله بمجملها يشدد الفنان سعيد العلوي على أهمية الاحتفاظ بالثوابت التراثية والتمسك بها، إذ تُعد هذه الثوابت التي ورثناها عبر العصور أساسًا حيويًا للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز الانتماء. يمثل التراث رابطًا بين الماضي والحاضر، ويمنحنا خلاصات ومعارف ذات قيمة يمكننا أن نستفيد منها في حياتنا اليومية. ومن خلال استثمار الهبات التي أنعم الله علينا بها من مواهب وإبداعات، نتمكن من تطوير أنفسنا ومجتمعاتنا. فالعقل البشري، كواحدة من هذه الهبات، يمكنه أن يدفعنا نحو التقدم والتطور في مختلف المجالات، ومن ضمنها المجال الفني. وبالتالي، يتوجب علينا استثمار هذه الثوابت والهبات بشكل مبدع وجمالي يتفق مع التحولات الحضارية الحديثة. وينبغي للفنان أن يلعب دورًا مهمًا في استلهام هذه الإنجازات وتعزيز الهوية من خلال إبداعاته الفنية.
ويضيف: أنه من خلال الابتكار واستخدام التقنيات الحديثة، يستطيع الفنان التعبير عن الهوية العربية الإسلامية بأساليب مختلفة ومبتكرة. يمكنه استخدام الرموز والأشكال التقليدية للتواصل مع الماضي والتراث، في حين يجب عليه أن يجسد الروح الحديثة والتجدد التي تتماشى مع التطور الحضاري. إن الهوية العربية الإسلامية تحمل تنوعًا كبيرًا وتراثًا غنيًا يمكن للفنان أن يستوحي منه لإبداع أعمال فنية تعبر عن جمالية الثقافة العربية والإسلامية. يمكنه أيضًا استخدام العناصر الزخرفية والهندسية التقليدية في العمارة والحلي لإضفاء لمسة تقليدية على أعماله الفنية، مع الحفاظ على القدرة على الابتكار والتجديد. وبالتالي، يكون إنجاز الفنان العربي الإسلامي محاولة لاستثمار الهوية الثقافية والتراثية بقالب إبداعي يعكس التجدد والتحول، والفنان قد يكون جسرًا يربط بين الماضي والحاضر، ويساهم في تعزيز الوعي بالثقافة المنطقة والتراث العربي الإسلامي.
بالإضافة إلى ذلك، يشدد الفنان سعيد العلوي على أن الاحتفاظ بالثوابت التراثية لا يعني التجميد في الماضي، بل يجب أن يكون هناك توازن بين التراث والتجديد. يمكن للفنان أن يستوحي من التراث ويعيد صياغته بطرق معاصرة ومبتكرة، مما يُحافظ على الروح الأصيلة للثقافة وفنون المنطقة وفي الوقت نفسه يجعلها قادرة على التأقلم مع التطورات الحديثة. يعتبر الابتكار والتجديد في الفن وسيلة للمحافظة على الهوية وتطويرها في آنٍ واحد.
التوتر والعتبة
وعن عمليها «التوتر»، و«العتبة» تقول الفنانة الكازاخية جولنور موكازانوفا: بداية فإن عمل «التوتر» هو مكون من كرات لباد مجوّفة معلقة في الهواء ومتصلة بسلسلة ذهبية، يمثل هذا العمل الكون بأكمله بالنسبة لي، هو عبارة عن عالم دقيق وعام بنفس الوقت، يمثل تجارب الحياة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، حيث اكتشاف الماضي والحاضر من خلال طرح العديد من التساؤلات حول المستقبل، وقد يعكس هذا العمل حالة العالم في الوقت الحالي، مع وجود انقسامات داخل المجتمع الواحد، وتصاعد الرفض والقسوة، ومن خلال استخدام الذهب سعيت إلى دفع المشاهدين إلى التفكير في قيمة الحياة.
وتضيف موكاجانوفا: توظيف هذا الفن للتعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية على الصعيدين الوطني والعالمي، يستهدف تسليط الضوء على الكثير من المشاكل التي نشأت تاريخيا بسبب جشع البشر، حيث كان الذهب معدنا وعملة ثمينة.
أما عمل «العتبة» فهو سعي إلى توضيح العلاقة المعقدة بين العوالم الداخلية والخارجية. وفي المحادثات المتعلقة بعمليتها الإبداعية، تذكر موكازانوفا تراث تنغري والثقافة البدوية، وكذلك الارتباط بمعارف الأجداد، وغالبا ما تنعكس نقاط الاتصال أو «البوابات» في أيقونية أعمالها، خاصة في سلسلة «بوساغا»، حيث تفضل موكازانوفا العمل مع وسائط ملموسة مثل الأقمشة والمواد العضوية التقليدية الكازاخية مثل اللباد الذي تصنعه بنفسها من الصوف، ووفقا للفنانة، فإن اللباد هو وسيلة تعيدها إلى جذورها، وتوضح الفنانة الكازاخية جولنور موكازانوفا: «نحن مختلفون تماما عن أجدادنا، حياتنا اليوم ليس لها أي تشابه مع حياتهم، ولكن عندما أبدأ في عملية اللباد، أشعر بالارتباط من خلال اللمس بيدي».
على الفطرة
من جانبه يبحث الفنان السعودي الدكتور سعد الهويدي في عمله «على الفطرة» عن دور وتأثير بصمة الإنسان في الدلالة على وجوده وفرادته، فهي السمة الفيزيائية والبيولوجية التي تستخدم في تحديد هويته الخاصة، حيث تعد بصمة الإصبع رمزا لحاجة الإنسان الملحة لترك أثر يدل على وجوده، لذلك يأتي العمل الفني كشعاع رأسي يدل على الطاقة الكامنة داخل الإنسان وتأثيرها المحتمل، حيث يوحي شعاع الضوء بالاتصال مع الكون من خلال العبادة الدينية والأنشطة التأملية التي تنير الروح والعقل، وترسل الطاقة إلى أماكن أبعد من المستوى الأرضي، وتمكن الإنسان من تجاوز حضوره المادي، وبالتالي بصمات أصابعه.
ويعاين عبر ممارسته الفنية، العديد من الموضوعات المتعلقة بالذاكرة والتجارب المسجلة، ويطرح تساؤلات حول أهميتها بالنسبة للمنجز الإبداعي الذي يرى بأنه أفضل وسيلة للتعبير عن أفكاره وتصوراته، والتي يعبر عنها عن طريق السرد القصصي المرئي، لمعرفة الأثر الذي تحدثه لدى المشاهد، وكيف يمكن أن ينعكس هذا الأثر على الفنان نفسه.
حدود متجاوزة
بينما يستكشف التجهيز الفني كبير الحجم ذو الوسائط الفنية المتنوعة «الحدود المتجاوزة 10» للفنانة الفلسطينية سمر حجازي الطرق التي يتشكل بها المعنى بناءً على تصوّر المشاهد في الزمان والمكان، مع تسليط الضوء أيضا على استحالة تجميع المعنى وتجسيده، وفي هذا العمل، تظهر العناصر الأساسية للتجهيز الفني معلقة من السقف ومصنوعة من خيوط مطرزة على شكل زخارف تقليدية دون استخدام القماش، كما تتدلى الزخارف جنبا إلى جنب لتكوين أنماط متكررة ومتداخلة، في حين تعلّق المواد العاكسة داخل العمل الفني وحوله لتعكس العمل نفسه وصورة المشاهد أثناء تحركه في أنحاء المساحة الفنية، إذ تعمل بنية العمل الفني وماديته على إشراك المشاهد بشكل فعال في اكتشاف الدور الذي يلعبه في إظهار تجربته وتشابكه مع خلق المعنى.
وتضيف «سمر حجازي»: ينتمي «الحدود المتجاوزة 9» إلى نفس سلسلة الحدود المتجاوزة 10 ويتبع نفس خط التساؤل بشأن كيفية إنشاء المعنى وتشكيله من خلال منظور المشاهد، باستخدام تقنيات المنسوجات والنحت والتجهيز الفني والطباعة، وتستكشف هذه الأعمال إمكانيات توسيع الحدود الداخلية لصناعة المعنى، وهي تستمد الإلهام من التقاليد الحرفية المختلفة وتستخدم عناصر مثل الضوء والظل والانعكاس والحركة لخلق تجارب غامرة متعددة الأبعاد تستكشف من خلالها طبيعة الإدراك المتغيرة باستمرار في الواقع.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العمل الفنی من خلال
إقرأ أيضاً:
تأرجح النص بين المباشرة والرمزية مع أزمة المعنى في الشعر العربي
"العُمانية": يجد الشعر في حقيقته، في مواجهة حتميّة مع تحوّلات المعنى وتبدّلات الذائقة في وقت تتسارع فيه اليوم خطى الأحداث وتتصاعد فيه أصوات اللحظة ووقائعها على حقيقة وواقع التأمل. وفي الوقت الراهن ثمة حقيقة لا يمكن إنكارها تتجسد في تسطيح يُفقد النص الشعري بُعده الإنساني الرمزي، وتبقى القصيدة المعاصرة في صراع شبه معلن بين الرمز والتقرير والعمق والتسطيح، وبين الجمال الحقيقي والتأثير اللحظي.
وفي هذا السياق يتطرق الشاعر العراقي عدنان الصائغ حول القضايا الراهنة وأثرها في تحوّل القصيدة الشعرية وواقعها الفكري، وكيف أثرت تلك القضايا بكل توجهاتها في شكل ومضمون القصيدة المعاصرة، متطرقًا إلى علاقة القصيدة المعاصرة بالأسئلة المتمثلة في الزمن والهوية ويقول: يرى أبو الحسن القاضي الجُرجاني وهو عالم موسوعي وأديب وناقد من أعلام القرن الرابع للهجرة أنَّهُ "ليس في الأرض بيتٌ من أبيات المعاني لقديم أو محدث إلَّا ومعناه غامضٌ مستتر". ويرى الفيلسوف جون كوهين "أنَّ الغموضَ في القصيدة أساسيٌّ بالنسبة إليها ولكنه ليس مجانياً، إنه الثمن الذي تدفعه مقابل إيضاحٍ من نوعٍ آخر"..، مفتتحاً لقراءات عدة تأخذ مستوياتها المتعددة والمختلفة تبعاً لاِختلاف تأويل المتلقي، فيكون للنص ـ تبعاً لذلك ـ عدة مستويات في القراءة.
ويضيف الصائغ: "هذه المستويات تقترب أحيانًا من النص وتبتعد عنه في أحيان أخرى، حيث تكون هذه المسافة بينهما عادةً مسكونة بالغموض والضباب بحيث لا يمكن رؤية مشهد النص كاملاً لكننا يمكن أن نتأمله. وهذا التأمل يقودنا إلى متعة إضافية يوفرها لنا الحدس والتأويل والمخيلة. غير أنَّ بعض النصوص تسقط في بئر الظلام والتعمية الكاملة فلا نرى منها شيئاً".
ويشير إلى أن هذا التفريق يجب أن يكون بين هذين النوعين من الغموض: أي الغموض بوصفه خطاباً ـ مغايراً للسائد المباشر ـ بما يملكه من طاقة إيحائية تزيد النصَّ دلالةً ولذة، وبين الغموض المقفل الذي يعتمد على العلاقات الغرائبية المفتعلة بين الألفاظ المعجمية والتي لا يمكن أن تمنحنا سوى شكلٍ معقَّدٍ من الألغاز التي يستعصي فك رموزها اللغوية والبلاغية المفبركة أصلاً.
ويؤكد بقوله: إنَّ "الرمز" الفني، عكس هذا، فهو يحتاج إلى فهمٍ كاملٍ للعلاقات بين عناصر الصورة الشعرية والتناسق اللغوي والتشكيل السردي والمرجع وعلم الدلالة والانزياح وتوتر الفجوات والتعاشق بين المخيّلة والصورة والتأويل، حيث يعطي النص أكثر من مدلول ويأخذ أكثر من شكل وإحالة. فيخرج عن المألوف المعروف وهذا الخروج يباعده عن دائرة المتلقي السهل "المباشر" ويقربه من دائرة المتلقي المبدع ـ الكاتب الآخر، بما يملك من مرجعية وتجربة ومخيلة تجعله يعيش لذةً ومتعةً في قراءة النص. وبالتالي فهو يقربه من فهم الشاعر الحديث ونصوصه. بينما يتخبّط الآخرون في مجاهيل ودهاليز الغموض الأعمى، دون أن يتمكنوا من معرفة أول الطريق أو آخره. وهذا التخبّط هو الذي ملأ مكتباتنا اليوم بهذه الأكداس المكدسة العمياء التي يسمونها جزافاً شعراً وهي عبارة عن ضربٍ في هواء الكلام. وبالإضافة إلى عدم جدواه فهو يشكّل سياجاً معرقلاً وعازلاً ومعوقاً أمام الذائقة للوصول إلى النصوص المبدعة. حيث يشكو جلّ الشعراء - هذه الأيام - من خطورة القطيعة بين القارئ والشعر.
في السياق ذاته يتحدث الشاعر العُماني عبدالله علي الكعبي عن "الرمزية الشعرية كأداة فنية لفهم العالم وتكثيف المعنى"، وما يجعلها أكثر تمكنًّا على التعبير من اللغة المباشرة، وبين ما تصل إليه كتشفير أدبي وفكري جمالي، وضرورة جمالية في الوقت نفسه، ويؤكد: "يبدو لي هناك تداخلات كثيرة جدًا وذات أبعاد معنوية حيث أقاصي النص الشعري ذي البُعد الفكري والتعريفي. الشعر كتعريف عصي على الإجماع هو من ينابيع الوجوديات المعروفة، وهذا يقودنا بدوره إلى الأسئلة المطروحة أيضًا فما الرمز إلا وسيلة وطريقة من طرق الشعر وها هو ذا يكثر في عصرنا وهو ذو امتداد تاريخي أيضًا.
ويضيف: "لنتفق أن الصوفية هي اكتمال الرمزية وتوجيهها إلى عالم العرفان والعامة والخاصة من ناحية تاريخية، لكن أيضًا لا ينفي وجود الرمز الشخصي في الشعر القديم، فيبدو ذلك جليًّا في رمزية الطلل كلازمة عند الشعراء الجاهليين فالشعر منذ أن هلهله مهلهل إلى صلاح في ديمومة مستمرة بين الرمزية كأداة تعبير.. وعليه من هذه المسألة يمكننا أن نخرج بالشعر من احتدام الصراع بين المباشرة والغموض للوصول إلى المعنى بسهولة عن طريق فكرة مفادها أن هناك شعرة وخطًا بين الشعر والنثر لا تتعلق بالغموض والوضوح، فلربما كان النص مباشرًا في طرحه لكنه يمتلك الأدوات الكفيلة بإدراجه في قائمة الشعر وربما هو غير مباشر ورمزي ولكنه يبتعد عن الشعر كل البعد.
ويقول: "إذا وضعنا الشعر في قالب واحد وهو الرمزية ثم وضعنا للرمز قالبًا واحدًا سوف يحيل بنا في نهاية المطاف أن نلغي الإبداع وذلك بقتل كل رمز شخصي جديد، وعليه حتى الرموز لابد لها أن تقع في جانب الابتكار وتفجير العديد منها وهذا يتأتى من خلال التجربة والاقتراب من اللغة والأشياء وكينونتها".
ويوضح: "في رأيي الرمزية أصبحت جزءًا من ثقافة المجتمع بل وأصبحت نسقًا خاصًّا بلغة المجتمع وخاصة اللغة الأدبية ولها أسبابها العديدة من الاقتصاد والتكنلوجيا والحداثة والسياسة، ولكن أهم ما في الموضوع هو الابتكار والابتعاد عن التكرار وقتل الاندفاع اللغوي الابتكاري".
وللشاعر العُماني هاشم الشامسي رأي في هذا السياق، ويأتي منتصرًا لقصيدة النثر ليوضح حقيقية الشعر كونه بين المباشرة والرمزية ويقول: تعددت أساليب كتابة الشعر الفصيح كقصيدة الوزن المقفى إلى قصيدة التفعيلة ثم قصيدة النثر، هذه التعددية في أساليب كتابة الشعر هي ظاهرة صحية وتمثل تطورًا في توظيف المفردات اللغوية وكيفية بناء الجملة الشعرية، وهي تجارب أسهمت في إثراء الساحة الأدبية الشعرية.
ويضيف: بالنسبة لقصيدة النثر، هناك فرق بين النثر الجميل وقصيدة النثر كونها شعر وليس نثر جميل، لأنها مكتملة ككائن مستقل وحي، وتكتسب قصيدة النثر هيئتها وحضورها الشعري من بنية الجملة وبناء الفقرة التي تجعل القارئ مستمراً في القراءة حتى النهاية، تتخلص قصيدة النثر من وظيفة الوصف بفرضية منطقية، فبفضل عنصر " اللاغرضية" يتخلص السرد الذي هو سمة رئيسة في قصيدة النثر، من منطقيته النثرية، فهو ليس مخططاً روائياً يريد أن يصل إلى نتيجة ما، وإنما غرضه غرض فني جمالي محض.قصيدة النثر هي جنس فني تستكشف القيم الشعرية الموجودة في لغة النثر، تسعى إلى التخلص من قيود نظام العروض، والتحرر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليدية، وهي منفتحة على الشعر والسرد والنثر الفني.
لذلك فإن كتابة قصيدة نثرية يجب أن تتسم بالوضوح والبعد عن المباشرة، كما تتسم مفرداتها بالعمق بحيث يراد من مفرداتها ما هو أعمق وأبعد من المعنى المذكور، وتجعل من القارئ الوقوف عندها لفهم ما يعنيه الشاعر وما يرمي إليه منها، وهو ما نعنيه بالإنزياح أو الغموض، بحيث يعمل الشاعر في جعل مفرداته التي يستخدمها بأن تكون متوازنة بين الوضوح والرمزية بعيداً عن المباشرة والوصول إلى المعنى الذي يجعل من النص الشعري أكثر لذة ومعنى.
ويؤكد على أنّ القصيدة تأتي كبناء منسجم ومتوازن فيها من الحياة والتكامل والتنامي بعيداً عن الكلام المبعثر مما يجعل القصيدة تشكّل وحدة للموضوع، متضمنة الإشارات والإيماءات والتلميحات التي تؤثر في فكر القارئ. والرمز موجود في كل أساليب الكتابة الشعرية، مثل العمود والتفعيلة والنثر، وهو قدرة الشاعر على الاشتغال في النصّ الشعري وإنتاجه بحيث يعمل الشاعر على كتابة قصيدة متوازنة بين الواقع والرمز وعدم الوقوع في فخ المباشرة، وقدرة الشاعر على توزيع اشتغاله على الجمل الشعرية والعمل على انسجام المفردات وتفاعلها مع النص الشعري، ومن هنا نجد أن الموسيقى في قصيدة النثر في تفاعل مفرداتها المحمّلة بالرمز، ويمثل الرمز في قصيدة النثر انزياحاً عن المباشرة في النص الشعري.
ويوضح أن الرمز هو أحد أوجه الحداثة الشعرية وجاءت قصيدة النثر لتجسد هذا الاشتغال وتجعل من المتلقي يتفاعل مع النص الشعري بحيث يقف متأملاً الجملة الشعرية باحثاً عن مزيد من التفاعل والتأويل ومشاركاً الشاعر في رؤياه ومراميه، وقصيدة النثر ليس لها إيقاع موسيقي ظاهر، ولكن فيها عناصر أخرى للشعر هذه العناصر هي الخيال والوجدان والمجاز والإيحاء، هذه العناصر هي أساس كتابة الشعر، وتركز على الموسيقى الداخلية من خلال تجانس الألفاظ ومن خلال استجابتها للفكرة المعينة عند الشاعر، كما أن قصيدة النثر كانت أقرب إلى كتابة الدراما المسرحية بصورة أوضح بما تتميز به من مرونة في الخطاب، الشاعر والأديب العُماني سماء عيسى مثلاً (لا شيء يوقف الكارثة، صوت سمع في الرامة). وفي ختام رؤيته حول في السياق، يوضح أنّ الشعر قد يأتي في شذرة أو ومضة وذلك يمثل الإيجاز الذي تتميز به اللغة العربية في بلاغتها وبُعدها الجمالي، ويجعل من القصيدة يسيرة وبليغة، وهذا ما يجعل توظيف الرمز بأسلوب شعري يرى فيه المتلقي غايته ومتعته، مع أهمية الابتعاد عن المباشرة التي تأتي على شكل الخاطرة أو التقريرية أو الشرح.
أما الشاعر السوري هاني نديم، فيتحدث في هذا الجانب ويقول: خرجت القصيدة من عباءتها المقصبة وفرّت من البلاط من بين يدي القصور إلى الشارع الذي أصبح هو القضية اليوم، لم يعد من المناسب في هذا المخزون البصري من حولنا أن تكون القصيدة متعالية ببلاغاتها ورطاناتها ومواضيعها الكبرى، لم يعد هناك قضايا كبرى أو يكاد. ويضيف: فالعمود وإن كتب اليوم فهو نوع من المكابرة والنوستالجيا أكثر من كونه معطى من معطيات الوقت الراهن. اليوم هو وقت قصيدة النثر بكل تأكيد، وتمثلاتها، وفوضاها، وغموضها أحياناً، وإن كنت بشكل شخص لا أحب الطلاسم والغموض، لكنه جزء أصيل من ضبابية اليوم، إلا أن جوهر الشعر وماهيته الداخلية لم تتغير، ما زال جليلاً صادقاً نبيلاً.