قبل بدء الهجوم ..مليشيات الحوثي تلجأ للسعودية والارتباك والخوف يصيب الجماعة.

المصدر: المشهد اليمني

إقرأ أيضاً:

في «سوسيولوجيا الشللية» كيف يفشل العمل الجماعي؟!

من منّا لم يقرأ قول المتنبي: إذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ، وإن أَنتَ أَكرَمتَ اللّئيمَ تَمَرَّدَا، فوحدها هذه الأبيات تكفي للكشف عن هشاشة الثقة في الآخر، عن تَوجّس الذات المنفردة من الجماعة، عن وعيٍ قديمٍ بأن الكرم غير المراقب بالتخصيص لا يُنتج ولاءً، بل يوقظ التخوين ويجعل الارتياب فرضية متعالية.

وقد لا يكون هذا سوى تمثيل رمزي لوعي عميق يغلب على ثقافتنا العربية، ولكنه قد يفسّر لماذا حين نلتقي في العمل، ينصرف فينا التزاحم لا البناء؟ ولماذا يعد اجتماعنا تأكيدا على الفردية رغم وحدة الجدران؟ ولماذا لا نؤمن بالتشاركية؟ ولا نريد اتهام شاعرنا بالمسؤولية عن التخويف من الآخر، لكن الرجل مرآة عصره، ولو تركناه وذهبنا لنبحث أكثر عن تغلغل هذه الخصيصة في الوعي العربي، وعن آثارها المفككة لروح الجماعة، سنجد الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» يؤكد على مفسدة الانفراد بالرأي في حقل يستوجب الجماعية والتعاون، يقول:«ما رأَيتُ شيئًا أَفسدَ للرأيِ، ولا أَقطعَ للجماعةِ، ولا أَفسدَ للقولِ، من هوًى مُتَّبَع- ص92». كم بليغة، ولعلها تنطبق على مجمل مظاهر بنيتنا المؤسسية في الفضاء العربي.

والحقيقة أن تراثنا المتغلغل في بنية اللاوعي يشير كثيرا إلى التخويف من الآخر، ويكفي الشعار الذي لُقِّنَاهُ ونحن بَعدُ في قاعات الدرس، شعار كان يحثنا على ضرورة الجماعية في العمل والرأي، «تأبى الرِّماحُ إذا اجتمعنَ تكسُّرا - وإذا افترقنَ تكسّرتْ آحادا» لكن من المؤسف أن الناظر في سياق العمل الجماعي العربي في كثيره سيجد المتنبي أكثر حضورا من الجاحظ. ونحن هنا لا نتأمل بقدر ما نرصد، فالبالغ مداه فينا هو، تقديم الهوى على الحكمة، وما مسارات التقائنا العربية إلا ساحات للتنافر، وامتحان صعب للنوايا، بل وتخريب متعمد للمصالح، وليست المشكلة داخل أروقة المؤسسات في غياب الرغبة بالتعاون، بل في حضور هويات متضادة لا تعرف كيف تلتقي. فلا أحد يُعلن عداوته للآخر، لكن الجميع يشكّ فيه. نعم تُرفع شعارات «روح الجماعة» على الجدران، لكنّ القرارات تدبر في الظلال. ودوننا ما ينتهي إلى معنى السلطة في المؤسسات المختلفة، إذ يتحول قائد الفريق إلى ما يشبه «الشيخ»، فلا تصدر أحكامه وقراراته من منطق إداري، بقدر ما هي تمثيل لمنطق المكانة. فيصح الفريق أقرب لمجلس العشيرة منه إلى حيز حداثي في سياق للدولة وأشغالها، أنه أشبه بمجلس تتعارك فيه أشكال من التمثيل الاجتماعي غاب عندها أنها هنا لا تمثل خلفياتها بقدر ما تعزز حضور ثقافتها المشكلة للوعي الجماعي في إطار تحقيق التكاملية.

والحقيقة أن البناء الاجتماعي في جوهره محكوم بجملة وظائف، فالذي يقوم به «الشيخ» في سياق القبيلة له من المشروعية ما يجعله ضرورة لبقاء تماسك الجماعة، لكن في سياق الأبنية التنظيمية للدولة فإن حضوره يجعل وظائفه مجردة من حقيقتها الاجتماعية، وبالتالي تنتج نقيضها، وهذا قول آخر قد نعود إليه، أي كيف تتأذى مؤسسات المجتمع حين تنتقل تمثيلاتها من حيزها الطبيعي إلى إقحامها في بنية لا تستطيع أن تنتج فيها أدوارا لصالح الجماعة؟ أما هنا فإننا نتحدث عن مظاهر غياب العمل الجماعي العربي، وسؤالنا يتصل بفشل الفعل الجماعي في مؤسساتنا، وهي حالة تستوجب النظر لصالح تطوير واقعنا العربي، وتحسين وعينا لأجل خدمة مجتمعاتنا: فلماذا لا نثق ببعضنا؟ ولماذا تتحوّل بعض مؤسساتنا إلى ساحات للصراع وتعطيل الطاقات، بدلا عن أن تسهم في رفع كفاءة العمل لصالح الجميع؟

إننا وفي هذا السياق نرى العودة إلى كتاب ميشيل كروزييه وإيرار فريدبرغ: «الفاعل والنظام: قيود الفعل الجماعي»، ضرورة معرفية، العنوان بالفرنسية L’acteur et le système : Les contraintes de l’action collective» فالكتاب الصادر عام 1977 عن دار Éditions du Seuil، لم يُترجم إلى العربية رغم كونه من أهم ما أُنجز في علم اجتماع التنظيمات. وهو عمل لا يقدّم أطروحة مغلقة أو دليلًا إداريًا، بل دعوة إلى تأمل، فالسؤال المركزي فيه هو: كيف يصبح التعاون عبئًا، والنظام قيدًا، والطاعة تمرينًا على المناورة؟، وبحق تعد أعمال كروزييه بالغة التماسك في حقل علم اجتماع الإدارة والتنظيم، بل يمكننا أن نقول بأنه أحد أهم المنظرين في هذا الحقل. نقرأ في مقدمة الكتاب : «ليست غايتنا تقديم كتاب مدرسي عن علم الاجتماع، بل مقاربة تحليلية تأملية تعيد التفكير في مسألة الفعل الجماعي عبر نموذج يعتمد على الواقع الفعلي لتفاعل البشر داخل التنظيمات، وعلى القيود التي يُنتجونها بأنفسهم». وهنا في مقالتنا القصيرة هذه نقدم قراءة لعمل كروزييه، طمعا في تعميم فائدة طرحه في مجالنا العربي. فماذا لدينا؟

كروزييه لم ينظر إلى المؤسسات كأنظمة عقلانية، بل كمناطق صراع ناعم، حيث تُوزع السلطة لا بناءً على المنصب، بل على شبكة من العلاقات غير المرئية بين أفراد الفريق، والكتاب يقدم أمثلة دالة على نظرية الرجل، فصاحبنا يؤمن بشدة بضرورة العمل الميداني في سياق مشروعه، ونقع في الكتاب على بعض نتائج هذه الميدانية، فمثلا عند دراسته مصلحة البريد الفرنسي، انتهى إلى أننا نجد العامل الذي يُشغّل آلة التلغراف يملك سلطة خفية تفوق سلطة رئيسه، لأنه وحده يعرف تشغيلها.

وفي المستشفى، ليست السلطة بيد الطبيب، بل مع الممرضة التي تضبط الزمن والعناية، وتدير النظام من حيث لا يُرى. وكروزييه لا يرى في النظام آلة بيروقراطية، بل مجال فاعلياتي لتنفيذ قواعد «لعبة اجتماعية»، لعبة بالمعنى الفلسفي أي هي مجال شبكي مركب على سياقات من استجابات منطقية، وفي هذا المجال يملك الكل مفتاحًا من مفاتيح الفاعلية، وبموجب هذا الموقع الذي يحتله الفاعل فإنه بالضرورة يملك سلطة، يملكها حتى لو لم يكن في القمة. ولهذا يقول: «الفاعل لا يوجد خارج النظام، لكن النظام لا يوجد إلا عبر الفاعل الذي يمنحه الحياة».

كما يرى أن الفعل الجماعي وبعبارة بليغة هو دراما دائمة، هو حوار بين الإرادة والقيود، بين الحرية والاستراتيجية، بين التنظيم والتفاوض.

وهنا نفهم لماذا تُخنق روح الفريق في مؤسساتنا، ولماذا تتحول اللقاءات إلى جلسات شكلية، ولماذا لا يثق الموظف في زميله، ولا المدير في فريقه، ولا المؤسسة في نفسها. لأن النظام لا يستطيع أن يُنتج تعاونًا ما لم يختبر مظاهر الثقة بين الأفراد. لكننا وفي كثير من مظاهر نشاطنا العربي نستعيض عن ضمير الـ«نحن» بضمير «الأنا» ولذا فإننا لا نملك ثقافة الثقة بالقدر المطلوب، ولعل السبب هو أننا لم نتحرر بعد من ثقل البنى التقليدية: «القبيلة، الشيخ...إلخ» وهذا يعني انغراس ثقافة الحذر، والخوف من الآخر. ولعل أكبر مظاهر هذه البنى يتبدى في ثقافة «الشلة»، والحقيقة أن الشللية ليست عَرَضًا طارئًا، بل امتدادٌ خفي لهيمنة ثقافة القبيلة في بنية العمل المؤسسي؛ حيث لا يُقاس الولاء بالكفاءة، بل بالقرب، ولا تُمنح الثقة بناءً على الإنجاز، بل وفق شبكات النفوذ.

وهكذا يتحول التنوع المؤسسي إلى طيف من العوالم المتحايثة التي لا تتقاطع إلا لمصلحة مؤقتة، وكيف تَخنِق في داخلها التعدد الخلّاق، وهو الأمر الذي إن سمح له بالنفاذ حقق نجاحات غير متوقعة، لأن المجال الاجتماعي المشكل من ثقافات مختلفة هو الأكثر قدرة على تحقيق الإنجاز. ومن الضرورة أن نفهم أن المؤسسة في جوهرها ليست مجرد بنية تشغيلية، بل مصهرٌ ثقافيٌ، يَستثمِر في الاختلاف لا أن يتوجس منه، وتبنى داخله مظاهر التنوع بالصورة التي تتجاوز انقسامات المجتمع. لإنه إذا عجزت مؤسساتنا عن ذلك فإنها تفتح الباب أمام تعطيب الإنتاج، وتقييد الإبداع.

والحقيقة أن كروزييه لا يعطينا وصفة جاهزة، لكنه يُنبّهنا أن الفاعلين في المؤسسات لا يفشلون لأنهم يريدون ذلك، بل لأنهم يتصرّفون بمنطق الدفاع عن النفس داخل نظام لا يمنحهم الأمان، ولا يشعرون بتمثيلهم داخل أُطره، وهنا تصبح الطاعة وسيلة لتجنّب الخطأ، بدل أن تكون مشاركة في بناء الصواب، لنكون أمام نظام يُنتج الفشل من حيث أراد التنظيم.

وهذا هو درس «الفاعل والنظام» بأن التنظيم لا ينجح إلا حين يعترف بالفاعلين بوصفهم شركاء في المعنى، لا مُنفّذين صامتين. وأن كل محاولة لإنتاج فعل جماعي دون إعادة توزيع السلطة، وتوضيح الأدوار، وبناء الثقة، لن تكون تمرينا في الطاعة الذكية، بل خنقا لطاقات الفريق في التنفس الحر.

إننا حين نشير إلى ضرورة تطوير البنى المؤسساتية في فضائنا العربي، فإن البداية من إعادة هندستها، لكن لا على منطق الولاء التقليدي، فهذا لن ينتج إلا تفكيك بُناها بالطريقة التي تتعطل فيها أي إمكانية للإنجاز، فالمطلوب حقا هو تفعيل الوعي بالتنوع والتشاركية في التنظيم المؤسسي، فهو الذي سيحرر فاعليها بسبب من تنوع خلفياتهم من قيد الامتثال إلى بلاغة الولاء للفعل. فالمؤسسة الحقيقية ليست مرآة للمجتمع، بل مصهرًا ثقافيًا يتجاوز هشاشاته، ما يجعل إنتاجيتها أعلى، وحين يستقر الوعي بأهمية الارتفاع بالمؤسسية كونها تعبيراً عن الدولة وليس الجماعة، حينها فقط نكون قد وفرنا للإنجاز مناخا صحيا، وللإبداع مسارات آمنة في أن يعطي شعبه وقيادته إنتاجا مبدعا، وما أبلغ شاعرنا إسماعيل بن القاسم العيني (أبو العتاهية) حين قال: «الناسُ للناسِ من بدوٍ وحاضرةٍ، بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ».

غسان علي عثمان كاتب سوداني

مقالات مشابهة

  • في «سوسيولوجيا الشللية» كيف يفشل العمل الجماعي؟!
  • جماعة عمان لحوارات المستقبل عقدٌ من الحوار البناء
  • لا ماء ولا طعام.. آلاف الفلسطينيين يصارعون الجوع والعطش والخوف في قطاع غزة
  • عائلات فقيرة تلجأ لغرف الصراف الآلي هربًا من الحر وانقطاع الكهرباء .. فيديو
  • العراق.. كلب مسعور يصيب 7 أطفال وتوقيف شقيق مختل ذبح طفلاً كالدجاج
  • أندية المكسيك تلجأ إلى «كاس» لإعادة نظام الصعود والهبوط
  • لإضفاء طابع ديني وعقائدي على الجغرافيا اليمنية.. جماعة الحوثي تجعل ''مران'' مديرية مستقلة في صعدة وتفصلها عن ''حيدان''
  • الاحتلال يصيب 7 مواطنين خلال اقتحام مخيم الجلزون شمال رام الله
  • الذكاء الاصطناعي بين ضرورة التطور التكنولوجي والخوف من تشويه الحقائق
  • الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ أُطلق من اليمن وإغلاق مؤقت لمطار بن غوريون