اليوم 24:
2025-06-30@19:18:09 GMT

إصلاح المدونة واتجاهات الأسرة المغربية

تاريخ النشر: 28th, January 2024 GMT

لحسن خليل *

تأتي الدعوة لإصلاح مدونة الأسرة بالمغرب في سياق إصلاحات عديدة تطبع المرحلة الراهنة من تطور المجتمع المغربي. إصلاحات ترمي أساسا إلى ضبط النتائج الاجتماعية التي أفرزتها عملية تأهيل الاقتصاد المغربي وفق مقتضيات العولمة. فأمام تحضر متسارع وانتشار الهشاشة داخل أوساط العمال وتزايد أعداد الأعطاب في قطاع الصحة  والتعليم.

وتوسع ظاهرة الشغل غير القار أصبح لزاما على الدولة الانتقال من سياسة المواطنة القانونية التي تدافع عن الحقوق الفردية. إلى سياسة المواطنة الاجتماعية التي تسعى لإقرار الحقوق الاجتماعية والجماعية وعلى رأسها الأسرة المغربية.

بيد أن ما يعطي لعملية إصلاح مدونة الأسرة أهمية خاصة اليوم؛ هي أنها جاءت وفق قرار وطني داخلي عكس التجربة الإصلاحية السابقة التي كانت مدفوعة بأثيرات خارجية أعطتها أجواء أيديولوجية جعلتها قضية في التوظيف الجيو سياسي التي تستعمله الدول العظمى للضغط على الدول النامية من أجل التدخل في شؤونها الداخلية وفرض إملاءات مجحفة في حقها.

اليوم تطرح ضرورة إصلاح مدونة الأسرة كقضية مجتمعية وفق قرار وطني وداخل نقاش مغربي –مغربي وبآليات توسع دائرة مشاركة كل مكونات المجتمع المغربي بما فيها ممثلو الأمة في البرلمان. فالدعوة اليوم لإصلاح مدونة الأسرة المغربية هي التعبير عن إرادة إخراج قضايا المجتمع المغربي من التوظيف الجيوسياسي والتأكيد على إصلاح قضايا التقدم الاجتماعي هو شأن وطني يعتمد على بدائل الذكاء الوطني، وبالتالي تحقيق سيادة وطنية في اقتراح الحلول والبدائل الملائمة لتاريخية المجتمع المغربي.

ولقد جاءت الدعوة لإصلاح مدونة الأسرة المغربية؛ والأسرة المغربية تعرف واقعا يؤشر على تحولات كبرى عرفتها في خضم التحولات التي عرفها المجتمع برمته. فالأسرة التي يعيشها المغاربة اليوم هي أسرة مختلفة عن تلك التي سادت في الماضي، حيث سلطة الأب قوية متفردة والتراتبية صارمة تحتل فيها المرأة وضعية التبعية، فالمتتبع لتحولات الحياة الأسرية المغربية ونوعية الاختيارات الثقافية التي تسودها؛ سيلاحظ أن فضاء الأسرة لم يعد فضاء مغلقا؛ والأفراد داخله يستطيعون إيجاد مكان يليق بأدوارهم واختياراتهم وتعدد توجهاتهم الثقافية. لقد صار ينظر للأسرة على أنها فضاء مطالب بأن يحقق السعادة لأفراده ويوفر شروط ازدهار العواطف الجميلة كالتضامن والإحساس بالأمن النفسي. ولم تعد الأسرة المغربية في غالبيتها تطلب من الفرد الاكتفاء بلعب دور محدد بشكل مسبق  من قبل التراتبية الصارمة؛ والخضوع لسلطة أبوية لاتناقش.

إن إكراهات الشغل وظلاله الثقيلة على حياة الفرد جعلت انتظارات هذا الأخير من الأسرة تتلخص في توفير الراحة العاطفية في منآ عن جهد المنافسة والتدافع والصراع الذي يعيشه في المقاولة أو الإدارة. وخلق مناخ الروابط الودية. أي كما يقول دوركهايم في آخر درسه السوسيولوجي سنة 1882 ((إننا مرتبطون بأسرنا من خلال ارتباطنا بشخصية أبينا وأمنا وزوجتنا وأطفالنا) لهذا فإن خطاب الحنين لنموذج أسري مضى؛ هو خطاب يعكس صعوبات العيش التي تخلقها التحولات الاقتصادية ولا يعبر عن فعل اجتماعي جماعي داخل المجتمع المغربي. فعلى عكس خطاب الحنين للماضي نلاحظ توجها عاما يصب في السعي لبناء واقع أسري جديد ينبثق من ضرورة العيش في عصر مثقل بإملاءات الشغل وسلطته على إيقاعات الحياة؛ وإملاءات الاستهلاك الذي صار يحدد المكانة الاجتماعية؛ وإملاءات الفردانية المتصاعدة التي تطبع الروابط الاجتماعية بمرونة وهشاشة. بهذا المعنى فإن خطاب الحنين لماضي الأسرة المغربية هو وعي متألم بواقع جديد لهذه الأسرة يقوم على مرجعيات جديدة أساسها مقومات الهوية لكن بتأويل جديد يمنح قيم المساواة مكانة كبيرة ويختلف في بناء عملية توزيع الأدوار بين الجنسين وقبول واضح لسلطة المرأة ودورها الاقتصادي وتقاسم وتشارك في السلطة الأبوية والاعتراف بحقوق الطفل. وإفراغ الطلاق عن أي بعد دراماتيكي؛ والتعايش مع الأسرة المركبة من أبناء الزوج أو الزوجة مع أب أو أم سابقة.

فتنامي الفردانية داخل المجتمع المغربي خاصة في الحواضر؛ جعل سلطة الآباء تغير قنواتها ووسائلها. وأصبح القانون مطالب بالتدخل لتنظيم الأسرة التي صارت فيها علاقات التبادل والتقاسم والتشارك تطغى على علاقات التراتبية والتلقين، التي تبدو محدودة أمام انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي وسهولة الوصول للمعلومات والأفكار والقيم.

فالأسرة المغربية اليوم هي فضاء مفتوح على عوالم متعددة؛ وغير مسجونة في الواقع المحلي، لذا صار أفرادها يطالبون بأن تشكل مجالا لازدهارهم وأفراحهم وعواطفهم. حتى يتمكن الجميع داخلها أن يجد مكانته التي يتخيلها ويحقق انتظاراته في التعاطف والتضامن والتعاون.

فالمغربي مهما خرج وابتعد عن أسرته؛ وغامر في الحياة وانفرد بمباذرات وحقق نجاحات وإخفاقات؛ يبقى دائما ينظر لأسرته كأنها المكان الذي يوجد فيه من يفهمه ويسنده ويمسح عن جبينه غبار تعب الحياة. ففردانية المغربية والمغربي تحتفظ دائما برؤية علاقاتية تعطي للجماعة أهمية في حياتها الخاصة.

هذا الواقع الجديد للأسرة المغربية يعبر عن واقع اجتماعي جديد أكثر عمقا ما فتئ يهيكل العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع المغربي. هو واقع تراجع أدوار الجماعة في ضبط سلوكات ومواقف واتجاهات الأفراد. فالأطر التقليدية لم تعد قادرة على لعب أدوار مرجعية في حياة الأفراد وبناء مستقبلهم الذي يكتنفه الغموض. فبفعل انفتاح المجتمع المغربي على مستجدات العولمة القادمة بـ (تحولات كبرى) أصبح مجتمعا يقترب أكثر من صفة (مجتمع المخاطر) الذي يسود المجتمعات الغربية. حيث المخاطر الاجتماعية صارت تلقي بظلالها العريضة على كل مناحي حياتها. على هذا الأساس فإن إصلاح مدونة الأسرة المغربية اليوم هو في عمق بناء الدولة الاجتماعية التي ترمي تقديم المساعدة والتـأمين لكل الفئات التي تعيش محدودية الدخل؛ وهشاشة الشغل والتهديد بالبطالة الطويلة الأمد، وتعجز أمام تكلفة التغذية والصحة والسكن اللائق.

 

فأمام تصاعد البطالة المقنعة، وهشاشة علاقات الشغل؛ ومناصبه داخل المقاولة التي تعيش بدورها في اقتصاد لا يخلو من مفاجآت؛ والخوف من الشيخوخة والعجز بسبب المرض… كلها عوامل تدفع الأفراد باستمرار ليعيشوا أمام المخاطر في مختلف مراحل حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. خاصة الفئات الشعبية العريضة التي لا تجد من يساعدها على تدبير التحولات التي تثقل كل مناحي حياتها.

فإذا كانت استراتيجية  الدولة الاجتماعية هي العمل على الحد من تأثيرات وتداعيات الاقتصاد الليبرالي القائم على حرية السوق؛ فإن الأسرة تحتاج إلى حماية لتماسكها وتقوية وحدتها ودورها؛ لأنها لن تبقى في منآ عن الاضطرابات  التي تخلقها عولمة لا تكثرت بالخصوصيات والمصالح المحلية والوطنية.

بهذا فإن إصلاح مدونة الأسرة المغربية هو وعي وطني بالصعوبات التي تعيشها الأسر جراء تحولات عالم الاقتصاد الوطني؛ وإرادة لمساعدتها على التأقلم وحمايتها وتقويتها. فالظواهر التي تعرفها العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة المغربية إثر أزمات منظومة الصحة والتعليم وضعف إنتاج مناصب الشغل وجمود الأجور أمام تضخم يصعب التحكم فيه …  يفترض في إصلاح المدونة أن يعلي من وحدة الأسرة ويهذب الفردانيات؛ ويقوي المسؤولية دون الإضرار بالحرية ويحمي كرامة المرأة وحاجات الطفل النفسية والتربوية داخل الأسرة دون أن يجعل من أحد أفرادها المشجب لكل مشاكل الأسرة. فالمخاطر التي تلازم الحياة في اقتصاد منفتح على الدوام على مستجدات لا تتوقف عن التبدل دون أن تكون له القدرة الكافية على التنبؤ بها أو التحكم في رهاناتها؛ هي مخاطر لا يستطيع الفرد مهما كانت مؤهلاته على تبديدها بمفرده. لذلك سيكون من المهم تأهيل الأسرة المغربية حتى تستطيع أن تقف كوحدة اجتماعية، خلف الفرد وتدعمه ليواجه التحديات.

إن سيرورة بناء الدولة الاجتماعية التي تبدأ اليوم لابد لها من سياسة أسرية تجعل الأسرة قادرة على تقوية التماسك الاجتماعي الضروري لأي سياسة إدماجية  التي تهدف لها الدولة الاجتماعية. فإصلاح المدونة سيكون ناجحا إذا هو أخذ بعين الاعتبار إقامة روابط قوية بين بناء أسس الدولة الاجتماعية التي تتعامل مع أفراد مواطنين داخل عالم الشغل والإنتاج والمواطنة، وإصلاح الأسرة التي يجد فيها هؤلاء الأفراد حياتهم الخاصة ووحدتهم الاجتماعية الأولى. حتى تصبح دعامة نفسية وثقافية لهم في مساهمتهم في تنمية بلادهم. إن تحقيق هذه الروابط بين الحياة العامة والحياة الخاصة للمواطنات والمواطنين؛ وبناء آليات التكامل والتفاعل هو الذي يجعل موضوع الأسرة المغربية موضوعا للتقدم الاجتماعي داخل تصور تاريخي شامل للتنمية، وليس موضوعا لرهانات إيديولوجية عقائدية.

 

  أستاذ باحث في علم الاجتماع كلمات دلالية رأي مجتمع مدونة

المصدر: اليوم 24

كلمات دلالية: رأي مجتمع مدونة إصلاح مدونة الأسرة المغربیة الدولة الاجتماعیة الاجتماعیة التی المجتمع المغربی

إقرأ أيضاً:

طفرة طبية.. طريقة جديدة لعلاج الشيخوخة وأمراض الدماغ باستخدام هذا البروتين| تفاصيل

في خطوة واعدة نحو مكافحة الشيخوخة وأمراض الدماغ التنكسية، توصل باحثون من جامعة ماكواري الأسترالية إلى دور جديد ومهم لبروتين يُدعى PDI، يمكن أن يُحدث تحولًا جذريًا في طريقة فهمنا لآليات الإصلاح الخلوي والوقاية من التلف العصبي. 

الدراسة التي نُشرت في دورية Aging Cell، ونشرها موقع (new atlas) تفتح آفاقًا جديدة للعلاج الجيني والتدخل المبكر في أمراض مثل الزهايمر وباركنسون ومرض العصبون الحركي.

احذر.. روبوتات الدردشة قد تُضللك صحيًا| إيه الحكاية؟إريك ترامب يلمّح إلى احتمال ترشحه لرئاسة أمريكا| تفاصيلما هو بروتين PDI؟

البروتين المعروف باسم إيزوميراز ثنائي الكبريتيد (PDI) يُعد من البروتينات الشائعة داخل السيتوبلازم – السائل الجيلاتيني الذي يملأ الخلايا – ويلعب دورًا أساسيًا في توجيه البروتينات الأخرى إلى تكوينها الصحيح، لكن الاكتشاف الجديد أظهر قدرة هذا البروتين على القيام بمهام تتجاوز دوره التقليدي.

إصلاح الحمض النووي: وظيفة خفية ومصيرية

أثبتت التجارب أن بروتين PDI يمتلك قدرة غير متوقعة على الانتقال من السيتوبلازم إلى نواة الخلية، وهي مركز التحكم الخلوي، حيث يشارك بشكل مباشر في إصلاح خيوط الحمض النووي المتضررة (DNA).

هذا الاكتشاف يعزز فرضية أن إصلاح الحمض النووي ليس فقط ضروريًا لبقاء الخلية، بل يُعتبر مفتاحًا لدرء الشيخوخة المبكرة والحد من خطر الإصابة بأمراض تنكسية خطيرة.

الشيخوخة والتلف العصبي: الرابط الجيني

يؤكد الدكتور سينا شادفار، عالم الأعصاب بجامعة ماكواري، أن تلف الحمض النووي يحدث يوميًا نتيجة الضغوط البيئية الداخلية والخارجية، كالتلوث والأشعة فوق البنفسجية. ويضيف: "كما يحتاج جرح الجلد إلى التئام، يحتاج الحمض النووي في الخلايا إلى إصلاح مستمر."

ومع التقدم في العمر، تضعف أنظمة الإصلاح الذاتي في الجسم، مما يؤدي إلى تراكم الأضرار الخلوية ويفسح المجال لظهور الأمراض العصبية والشيخوخة البيولوجية.

PDI: أمل في مواجهة أمراض الدماغ

ما يجعل الاكتشاف أكثر أهمية هو أن الخلايا العصبية لا تنقسم أو تتجدد مثل بقية خلايا الجسم، ما يجعل إصلاح الحمض النووي فيها أمرًا حيويًا لبقائها، وتظهر أهمية بروتين PDI هنا بقدرته على إصلاح الخلل في الحمض النووي لتلك الخلايا الحساسة، ما يمنح العلماء أداة جديدة لمحاربة أمراض مثل الزهايمر وباركنسون ومرض العصبون الحركي.

التطبيقات العلاجية المستقبلية

يعمل الفريق حاليًا على تطوير علاجات جينية باستخدام بروتين PDI، من ضمنها العلاج بتقنية mRNA لتوجيه هذا البروتين إلى مواقع التلف الجيني داخل الخلايا، ويهدف هذا التوجه إلى التدخل المبكر قبل تفاقم الأمراض العصبية، مما قد يوقف تقدمها أو يمنعها من الأساس.

بين الأمل والتحذير: PDI وعلاج السرطان

رغم الفوائد الواعدة لبروتين PDI، إلا أن له جانبًا مظلمًا في سياق السرطان، فقد ثبت أن المستويات العالية من هذا البروتين قد تُستخدم من قِبل الخلايا السرطانية للدفاع عن نفسها ضد العلاجات، مما يزيد من مقاومة الأورام للعلاج الكيمياوي لذلك تسعى الأبحاث أيضًا إلى تطوير طرق لتعطيل خصائص PDI الوقائية داخل الخلايا السرطانية، بهدف تعزيز فعالية العلاجات المضادة للأورام.

طباعة شارك الشيخوخة أمراض الدماغ البروتين بروتين PDI جامعة ماكواري الأسترالية مكافحة الشيخوخة

مقالات مشابهة

  • الحكومة تؤكد حرصها على الجودة في إصلاح التعليم
  • الأسرة والمجتمع في فكر المسيرة القرآنية
  • بنكيران: لا يمكن إصلاح الشأن العام بالفاسدين والديمقراطية غائبة عن الواقع السياسي
  • طفرة طبية.. طريقة جديدة لعلاج الشيخوخة وأمراض الدماغ باستخدام هذا البروتين| تفاصيل
  • الحبس 3 سنوات مع الشغل لعصابة خردة سرقة الوحدات الخارجية للتكييفات بالمعصرة
  • قوة المجتمع في ترابطه الأسري وتماسكه
  • أحمد موسى عن كامل الوزير: الناس اللي معاه مش بيروحوا بيوتهم من كتر الشغل
  • أين تذهب ملايير إصلاح الأعمدة الكهربائية؟ خيوط مهملة تصعق طفلاً حتى الموت بالقنيطرة
  • راجعين من الشغل.. الداخلية تكشف تفاصيل العثور على جثتين أسفل كوبري بالقاهرة
  • شحادة: تخفيض ضرائب المركبات خطوة تحفيزية للاقتصاد