إعادة الحياة لكُتب الأخلاق
تاريخ النشر: 19th, February 2024 GMT
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
تزخر مكتبتنا الإسلامية بعدد وافر من كتب الأخلاق، والكثير منها كتبها علماء سابقون رحمهم الله وأجزل لهم الثواب، وتعد هذه الكتب تراثاً ثرياً بحق، فهي تحوي من المفاهيم والقيم الأخلاقية الشيء الكثير، لكن هذه الكتب لم تعد كتب تستعين بها أجيال اليوم لتستقي منها معارفها وقيمها الأخلاقية؛ بل كثيرًا ما ينظر لها على أنها كتب تراثية لم تعد صالحة لهذا الزمن، ولا بُد من اعادة صياغتها لتلائم لغة العصر.
هذا الكلام ينطوي على قدرٍ من الصواب، وهو ما يتعلق باللغة المستخدمة في هذه الكتب. لكن في المقابل، من غير الصحيح النظر اليها على أنها لم تعد صالحة لهذا الزمن؛ بل إن فيها من الكنوز والقيم الأخلاقية ما لا يوجد في غيرها وعلى أبنائنا الاطلاع عليها وقراءتها.
لكنني أظن أن تجديد هذه الكتب لا يمكن أن يقتصر على اللغة؛ بل لا بُد من إضافة الدراسات التجريبية في مجال السلوك البشري لها؛ فالاستعانة بالدراسة التجريبية لتفسير السلوك البشري سيضيف بُعدًا آخرَ مُهمًا لكتب الأخلاق، وستخرج هذه الدراسات التجريبية مع المفاهيم المنطقية والدينية التي تزخر بها هذه الكتب، برؤية أكثر تكاملية وواقعية، كما إن إضافة الدراسات التجريبية لهذه الكتب سيسهم في سد الفجوة بينها وبين أجيال اليوم؛ فأجيال اليوم تتجه الى الدراسات والنماذج الواقعية والتجريبية أكثر من اعتمادها على التنظير والتحليل المنطقي، ولعل ذلك سيساعدنا في نفض الغبار عن بعض تراثنا الثري.
سأسوق مثالًا ما زالت تحتفظ به ذاكرتي من خلال قراءاتي لبعض الدراسات في مجال السلوك البشري، ففي حادثة وقعت بأحد الأحياء في مدينة نيويورك عام 1964، قام أحد المارّة بطعن فتاة تبلغ من العمر 28 عامًا وتُدعى كيتي جينوفر، دون أن يدافع عنها أحد، على الرغم من استغاثتها، وعلى الرغم من أن 38 فردًا-على أقل تقدير- من سكان ذلك الحي سمعوا صراخها واستغاثتها، لكن لم يقم أحدٌ منهم بالمساعدة أو حتى طلب الشرطة. وقد هزت هذه الحادثة المجتمع الأمريكي آنذاك، وتحدثت عنها الصحف والمجلات، واتهمت هذه الصحف المجتمع بأنه بدأ يفقد قيمه الأخلاقية، لكنَّ عددًا من علماء النفس والمختصين بالسلوك الإنساني، لم يعتمدوا فقط على هذا السبب المُتبادر الى الذهن؛ بل حاولوا اللجوء إلى التجارب العلمية في الكشف عن سبب هذا السلوك غير المفهوم لعلهم، يكشفون عن بعض أسرار هذه النفس البشرية.
وبعد دراسات مُستفيضة وتجارب كثيرة ومكررة، اتضح أن الأمر لا علاقة له بتدني القيم الأخلاقية للمجتمع الأمريكي؛ بل كشفت الدراسة عن سلوك بشري عام في ذلك المجتمع، وربما في بقية المجتمعات أيضًا، وهو ما يعرف اليوم باسم "لا مبالاة المُتفرِّج"؛ إذ توصّلت الدراسة إلى أن السبب يعود الى ما يعرف بتأثير توزُّع المسؤولية على الأفراد، ومفاد هذه الظاهرة أن الفرد عندما يكون ضمن مجموعة كبيرة، فإنه يتهرب من تحمل المسؤولية ويُقنع نفسه أن المسؤولية تقع على عاتق فرد آخر في المجموعة ولا تقع عليه، وأن ذلك الآخر سيتصرف بعد قليل أو قد يقنع نفسه بأن ذلك الفرد قد تصرف بالفعل! ويظهر هذا التبرير بقوة في الحالات التي تكون المسؤولية فيها غير مُحددة بوضوح، وهذا ما حدث في الجريمة المروعة والتي قُتلت فيها كيتي جينوفر.
لذا يوصي بعض علماء السلوك البشري أن أحدنا إذا احتاج الى مساعدة طارئة في سكة مكتظة بالمارّة، عليه أن يتجه الى أحدهم بشكل خاص ويطلب منه المساعدة، بدلًا من أن يصرخ ويستغيث طالبًا المساعدة من الجميع، والسبب في ذلك، أن الانسان الذي ستطلب منه المساعدة سيشعر بالمسؤولية أكثر من غيره؛ لأنك بسؤاله إياه ألقيت المسؤولية عليه في طلب المساعدة، وتأثير "لا مبالاة المتفرج" انخفض عنده بشكل كبير، فاحتمال استجابته وتقديمه للمساعدة ترتفع بشكل ملحوظ.
السؤال هنا: ألا تشير هذه الدراسة الى أحد الأساليب الخفية التي تلجأ لها النفس البشرية في محاولتها للتهرب من تحمل المسؤولية؟ أليست هذه الدراسة وأشباهها أكثر تأثيرًا من التحذير المجرد من خداع النفس وأساليبها الملتوية؟ ألا يفيد هذا النوع من الدراسات في تنبيه الانسان من أن من مسؤوليته أيضًا التحقق من أنَّ أحدًا مدَّ يد العون وقام بتقديم المساعدة، فإذا لم يجد أحدًا، فعليه أن يُبادر بالقيام بتحمل تلك المسؤولية، وإلّا سيُحاسب الجميع على تهربهم، وسيحاسبون على ذلك في يوم الجزاء.
هكذا نلاحظ أن هذه الدراسة التجريبية كشفت أمرًا مُختلفًا تمامًا عمّا قفز في أذهاننا في بداية الأمر؛ بل ربما لم يكن بالإمكان الوصول الى النتيجة التي توصلت لها الدراسة دون الاستعانة بالتجارب العملية.
وأخيرًا.. لا بُد من الإشارة الى أهمية العمل الجماعي في مجال الكتابة في مواضيع مرتبطة بالسلوك البشري والأخلاق، فبدلَ أن يقدم على كتابة الكتاب الأخلاقي فرد واحد، عليه أن يستعين بآخرين من تخصصات أخرى، كأن يكون أحدهم مُختصًا بالجوانب الدينية، وآخر مختص بدراسات السلوك البشري، وثالث متخصص في الكتابة الموجهة للجمهور، وبذلك ربما نُحيي تراثًا ثريًا تفتقده أجيال اليوم ونعيده للحياة.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
لم أعد أحب نفسي ولا أحب الحياة أيضا
سلام الله على الجميع وبعد: سيدتي قراء الموقع، سأكون مختصرة في رسالتي لأني مشكلتي واضحة وأريد استشارتكم لأستعيد حيويتي وحب الحياة.
أجل سيدتي قد تستغربين الأمر أن تفقد فتاة في ريعان العمر الهمة وحب الحياة، خاصة وأني طالبة جامعية ومن المفروض أن يكون لي الكثير من المشاغل إلا أنني أفضل دوما النوم والراحة والمكوث في البيت والتفكير في أمور تافهة، لا أرغب في شيء، لا أحلام ولا أهداف، مستسلمة للغاية، حتى عائلتي لا أجالسهم، وأحب الإجتماع معهم.
سيدتي هذا الخمول وهذه اللامبالاة أتعبتني نفسيا، بت أرى نفسي غير نافعة، فهل يُعقل أن يكون هذا حال فتاة في الـ20 من عمرها..؟ فما العمل أفيدوني من فضلكم وجزاكم الله عني كل خيرا.
أمال من غرب البلاد
الرد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته عزيزتي أمال، يسرنا جدا مشاركتك معنا، فمرحبا بك، قبل الرد أسأل الله جلّ وعلا أن يشرح صدرك وييسر كل أمورك ويزرع في روحك الهمة ويجعلك من الصالحات المتألقات، وأما بخصوص طرحك فأظن أنه لا يوجد شيء يدعو للقلق مادمت مدركة لمشكلتك، وحلها يستوجب منك أولا التوكل على الله، ثم وقفة مع نفسك وتحديد الأسباب وبعدها التطبيق الفعلي في التخلص منها، وبإذن الله سوف تستعيدين الشغف وطعم الحياة.
عزيزتي في طرحك لاحظت أمرا، هو مرورك على علاقتك بعائلتك مرور الكرام، واكتفيت بأنك لا تجالسينهم كثيرا ولا تحبين الاجتماع معهم، وأنا أعتقد أن هذا هو مربط الفرس، فكل فرد منا يستمد إلهامه الأول من العائلة، لما لها من أثر بالغ في بناء شخصيتنا وتحفيز التطور فيها، فعدم اهتمام الأسرة لما يحصل مع فرد من أفرادها سيؤدي حتما إلى تفاقم الأمور، خاصة حين يكون الأولياء منهمكون فقط بتوفير كل وسائل العيش غير منبهين للحالة النفسية لأولادهم، لذا سأوجه رسالة من خلال هذا المنبر للأولياء انتبهوا لأولادكم، ولا تغفلوا عن أهمية الحوار والتواصل معهم لفهم أعماقهم وتهذيب ما يمكن تهذيبه، هذا من جهة من جهة أخرى أوجه كلامي لك الآن العزلة كل الوقت والابتعاد عن العائلة ليس من الصائب، لأن الله لم يخلقنا هكذا بدون رسالة أو وظيفة، وأنت الحمد لله فتاة راشدة، أما سألت نفسك أنه ق يكون فردا من العائلة بحاجتك..؟ أما سألت نفسك أن أمك قد تكون بحاجة لحبك وعطفك عليها ومساعدتك لها بعد أن اجتهد سنين طوالا في خدمتكم..؟
عزيزتي بهذا الأسلوب أبدا ا تستمر الحياة، لن يكون لك الحق في العتاب أو لو أحد لأنك لا تسعين فيها، لذا لابد لك أن تبدئي وفورا في التغيير، بالتوكل على الله أولا والإرادة القوية حتى تستغلي كل لحظة من وقت وشباب وصحتك وعلمك لتطوير نفسك ونفع من حولك، وفيما يلي سأقدم لك بعض النقاط التطبيقية التزمي بها وهي:
1 حددي أوقات النوم ولا تزيدي عن 7 أو 8 ساعات.
2 نظمي أوقاتك بين ذكر الله وقراءة القرآن والدراسة والتزمي بها مهما كانت الأسباب.
3 حددي وقتا للعائلة واحتكي بهم، اوجدي مواضيع للنقاش فيها، وخلق أجواء تبعث الراحة في النفوس.
4 مهم جدا أن تحددي أيضا وقت لنفسك واعتني بصحتك جيدا.
5 أنصحك أيضا بالمطالعة بعيد عن الهواتف الذكية.
ومع كل هذا لا تنسي الدعاء والتضرع لله، فهو قريب مجيب، وتذكري أنك شابة مقبلة على الحياة، ولابد أن تقبلين عليها بإيجابية حتى تعود عليك بالفلاح والصلاح بحول الله.