مرتضى الغالي

يقول صاحبنا في كتابه إن الشعر البدوي له جذور راسخة في الثقافة السودانية حيث يمكن الرجوع به إلى زمن بعيد، عندما تسللت القبائل العربية إلى السودان مدفوعة بالجفاف وخرجت من شبه الجزيرة العربية إلى بلادنا، واستوطنت في الأراضي الخصبة من سهول البطانة وشرقها الأوسط وفي أجزاء أخرى من السودان..!
وبالرغم من احتفاظ أشعار هذه المجموعات الوافدة التي أنتجوها في مواطنهم الجديدة بأشكالها وأنماطها وبعض موضوعاتها وأغراضها؛ فهي قد اكتسبت أيضاً ملامحها الخاصة التي ميّزتها كنتاج فني محلي ينتسب إلى نطاق جغرافي إفريقي.

.!
لقد أسهم التشكيل الجغرافي/السياسي، والعامل الاجتماعي/ الثقافي المتفرّد في تطوير الشعر البدوي السوداني، ويمكن التمثيل لهذه التأثيرات من خلال شعر الحردلو؛ فهو الإيقونة الأشهر لهذه الأشكال والنُظم الفنية..كما يمكن أيضاً التمثيل ببعض معاصري الحردلو من شعراء البادية..!
الطبيعة البدوية المتميزة للبطانة تمثل المصدر الأساسي في إلهام الأجيال اللاحقة من شعراء البادية..وسقوط الأمطار - بخاصة - هو الحدث الأكبر الذي يجري توقّعه وتشوّفه واستشرافه وانتظاره على مدار العام..!! فهو بمثابة المحرّك الرئيسي (main trigger) للخيال الشعري..!
**
وتمثل تباشير موسم الخريف الماطر (لحظة احتفالية غامرة) ولا عجب أن يخلدوها في إشعارهم...والحردلو حتى في مهجره بعيداً عن مسقط رأسه يترجم حنينه للبطانة في شعر يصوّر مشاهد بيئته ويستعيدها للحياة كاملة تنضح ألقاً وحيوية:
الخبر اللكيد قالو البطانة اترشّت
وساريتاً تبقبق للصباح ما انفشّت
هاج فحل ام صريصر والمنايح بشّت
وبت ام ساق على حدب الفريق اتعشّت
هنا الإبداع ونقل هذه الصورة إلى اللغات الأخرى يتيح رؤية الإبداع المحلي عندما يرقى إلى مدارج العالمية.. لقد تأكدت الأخبار التي وصلت إلى الحردلو:
الخبر الأكيد قالوا البطانة اترشّت
Confirmed news from home,
the Butana plains were hit by heavy rain
استشفاف الخريف العميم عند الحردلو يتم من خلال "دقائق المخلوقات" ومن تصوير حالة الخصوبة في ضروع السوائم:
هاج فحل ام صريصروالمنايح بشّت
Male cricket raged with lust; udders of cattle grew full
ولا عجب ألا تحتاج جِمال الفريق كما يجعلها عادل بابكر (أو الظباء) إلى المشي بعيداً للحصول على عشائها..أن لها في جوار المضارب ما تشتهي:
and in the vicinity she-camel enjoyed a lush meal
كل هذا دار بخيال الحردلو..فقط لمجرد سماعه ما توارد من أخبار البطانة..!
**
الوَله بالطبيعة يبدو انه ما يسهم في تشكيل تصور شعراء البطانة للجمال..! المهاة أو الظبية والعشب الطري اللادن هما رمز المقايسة والمعيار المماثل لجمال المرأة في أشعارهم..! وكثير من مقاطع هذه الأشعار وما تحتشد به من التشبيهات والأوصاف وجدت طريقها إلى الأغنيات والإنشاد منذ بداية القرن التاسع عشر..!
هناك ثلاثة مؤثرات كان لها تأثير بالغ على محتوى وشكل ونغمة وجِرس وتنغيم ونبرة ورنّة وأسلوب أشعار الحردلو وهي:
تصوّره للجمال،
والتصاقه بعالم الطبيعة،
ثم التحوّلات العاصفة في حياته...!
**
والعامل المُلفت في أشعار الحردلو هو ارتباط تصويره لجمال المرأة باحتفائه بجمال الطبيعة..! وقارئو أشعاره لا يمكن أن يفلت عنهم تصويره الواعي للمرأة كرمز بارز للطبيعة وملمح من ملامحها..! أن تغزّله وامتداحه لجمال المرأة يصل إلى قمته عندما تجري مضاهاة جمالها بروعة الطبيعة وباعتباره من بين مفردات تجلياتها؛ خاصة الظباء وأغصان النبات الغضة الندية الطيّعة المتأودة..!
ذات الحال عندما يتخذ الظباء موضع غزله وتركيزه..! هنا يتم استدعاء الجمال الإنساني لإكمال الصورة..!! وهنا كما سنرى يمكن أن تجري مقارنة شعر الحردلو الذي يتغنّي فيه بالطبيعة بالشعراء الرومانتيكيين المشاهير (وليام ووردورث وجون كيتس)..وأيضاً مناقشة الدوبيت أو المربوع (quatrain) كنموذج ذائع من شعر الحردلو..فقصائد الحردلو تتشكّل إما من مربوع مفرد أو بتجميع وحداتها...والمربوع هو الذي يشكّل معظم أشعاره ويتناول من خلاله موضوعات واسعة ومتنوعةaddresses broadly diverse topics
(الخبر اللكيد قالوا البطانة اترشّت)..ليس في ذلك شك..!

murtadamore@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

ما أقدسَ .. أم ما أرخص .. التُراب

صراحة نيوز ـ شجون : عوض ضيف الله الملاحمة

ما أقدس .. التُراب
أم ما أرخص .. التُراب
أم التِبر .. من التُراب

ما أرخص .. التُراب
عندما ينعق فيه .. الغُراب
وتنهشه .. الذئاب
وتولغ فيه … الكلاب
ويوغل فيه .. النصّاب
ويتغوّل فيه .. الأغراب
ويكون مرتعاً … للذباب
ولقمةً سائغة لكل .. نهّاب

عندها هاجر .. هاجر ..
وأهجر الأهل .. والصِحاب

سبق لي ان هاجرت .. قسراً
ولم أملك من أمري .. أمراً
وذقت في حياتي حلواً .. ومُرَّاً
لكنني كنت .. إستثناءاً
أعزّني البلد المُضيف ..
وأسبل عليّ عِزاً .. وسِتراً

كل شيء طعمه .. تُراب
عند فُرقة .. الأحباب
والبعد عن .. الصِحاب
والقلب قد صدأ .. وذاب

تُراب الوطن .. أقدس تُراب
تُرابه تِبر .. أبداً .. ليس كما التُراب
عندما لا يُذلُّ فيه .. مواطن غلبان
ولا يطلب فيه إبنه .. الإحسان
ترتفع قيمة الوطن ..
ويُقدِّسه .. الإنسان

حُبُّ الأوطان متجذر .. عند الإنسان
أينما ذهب الإنسان .. وابتعد
يكون لوطنه .. أواب
لاشتياقه للأهل .. والصِحاب

ترُاب الأوطان .. تِبر
وإستمرار الحب .. للأوطان
يحتاج الكثير .. من الصبر
وتَحَمُّلِ الذُلّ .. والقهر

البُعد أحياناً .. ضرورياً
إختيارياً كان .. او إجبارياً
لأن الغربة .. ( في ) الأوطان
أقسى من البعد .. على الإنسان
عندما تعاني .. من الحرمان
ولا تجد غصناً .. كما الطير
تشدو عليه .. وتعزف الألحان

عندما لا تجد .. نفسك
يُصبح الأمر عندك .. سِيّان
لا فرق بين الحِلِّ .. والهِجران

ما أقساه عندما يكون .. طارداً
وحضنه على أبنائه .. بارداً
ويأبى الوطن .. أن يكون له أحضان

يصبح التواجد فيه .. كما الهجران
لا يختلفان .. يصبحان .. صِنوان
وعند المظلوم .. سِيّان

أحياناً .. يصعب ..
زرع الإنتماء للأوطان
كيف تنظِّر على إنسان .. ( جوعان )
او على شاب عن العمل .. ( عطلان )
التغني بالوطن .. لا يُطعِم الإنسان

سيغادر الناس .. الأوطان
لو كان حاكمها .. بن الخطاب
ولا يحِنّون .. للإياب

لأنهم لا يملكون حفنة .. من تُراب
وكل طاريء .. يتقمص دور المواطن
لكنه يلعب دور .. النهّاب
وهو المحترف .. النصّاب
وفي السّرِ .. يقذف الوطن ..
باللعنات .. وأقذعِ السِباب

هذا مصير الأوطان .. كل الأوطانّ
التي تراهن على الغريب .. النصّاب
وإبن الوطن .. في غياهب النسيان
مركوناً للضياع .. ( يَرّْمَعُ ) التراب
( ويسِفُّ) ما يأبى تناوله .. الذُباب

مقالات مشابهة

  • صائد الطائرات الصيني.. كيف تمكنت باكستان من إسقاط المقاتلات الهندية؟
  • شاهد | رد ترامب عندما سُئل هل أنت قلت ستقضي على الحوثيين؟ ..كاريكاتير
  • كشمير: بلاد الجمال والصراعات
  • ورد الطائف.. عطر الملوك الفاخر ورمز الجمال والرفاهية
  • البنك الأردني الكويتي يواصل دعمه للجمعية العربية لحماية الطبيعة في مبادرة القافلة الخضراء
  • محافظ الغربية: تشكيل لجنة لسرعة الانتهاء من توقيع الأحوزة العمرانية على الطبيعة
  • الانبهار بسحر الطبيعة .. شلال مياه طابا يأسر رواد مواقع التواصل
  • الشفاء البطيء… سرّ جروح الإنسان التي تتحدى سرعة الطبيعة!
  • ما أقدسَ .. أم ما أرخص .. التُراب
  • بلدة مقنيات .. عبق التاريخ وجمال الطبيعة