عفِنٌ في مملكة المنتظم الدولي كشفه الفيتو الأميركي
تاريخ النشر: 3rd, March 2024 GMT
هي مذبحة جديدة، تقع بموازاة المذابح التي تَجري في غزّة، وضحيتُها هذه المرّة الأمم المتحدة. القذيفة التي أصابتها هي الفيتو الأميركي الذي أقبر مشروع الإيقاف الفوري للحرب الذي تقدّمت به الجزائر العضو غير الدائم في مجلس الأمن.
الغاية التي من أجلها قامت الأمم المتحدة، وهي تحقيق السلم واستتباب الأمن، تترنّح بعد اليوم، إذ تحولت غاية الأمم المتحدة إلى نقيضها، وأصبح وقف إطلاق النار جُرمًا، واستمرار العدوان على الأبرياء والعُزّل ومواصلة الدمار "فضيلة" من قِبل أعلى هيئة للأمم المتحدة وهي مجلس الأمن.
يُفهم استعمال الفيتو لقرار يُسوِّغ استعمال القوّة، لكن أن يُستعمل الفيتو ضد قرار يدعو لوقف الحرب، هو السريالية بعينها. نحن حقًا في عالم أورويلي بامتياز، حيث يفيد الشيء نقيضَه، وحيث يقوم انفصام ما بين القول والفعل؛ الزعم بوقف الحرب، في الخطاب، وتغذية نارها فعليًا. أما النظام العالمي الجديد الذي بشّرت به الولايات المتحدة ويقوم على احترام القانون الدولي، فهو في حقيقة الأمر شِرْعة القوي، وعالمٌ خالٍ من خطر الدمار الشامل، يستند إلى أكذوبة قوّضت بُنى دولة، وهلهلت نسيج شعب، وأشعلت فتيل الإرهاب، أما محور الشر والدول المارقة، فليست ما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما ما وصمته الولايات المتحدة بذلك.
العدو الأكبر للعالم العربي، هو وضع الفُرقة التي هو فيها، وهو أهم سلاح يستعمله خصومه ضده، ولن يكون لهذا العالم الفسيح مكانٌ تحت الشمس إذا استمر "النظام" العربي على ما هو عليه
أولى الضحايا في الحروب هي الحقيقة، كما يقول كلوسفيتيز، ولكن الحقيقة كما لو كانت جسم قتيل، يعلن عن مكنونه من خلال الرائحة التي تفوح منه. تنبعث في شبح القتيل غيلة، كما في مسرحية هاملت تُحدّث عما يريد المتآمران التستر عنه.
وأولى الحقائق التي فضحها الفيتو الأميركي على مُقترح الوقف الفوري للحرب على غزّة، هي أن الولايات المتحدة طرف في التقتيل الذي يجري في غزة، وأن كل تمارين الخطابة عن شجب الغلو في التقتيل، واستياء الإدارة الأميركية من شطط إسرائيل، كلها ذرّ الرماد في العيون، ذلك أن التقتيل يتم بسلاح أميركي، وبمَدَد مخابراتي منها، وتغطية دبلوماسية، بل وتعاون ميداني.
أمّا حلّ الدولتين، وحقُّ الفلسطينيين العيشُ في كرامة، فهي تقديم خدمة الشفتين لشعوب تؤمن بالخطابة، من منظور الولايات المتحدة، وبشكل الخطاب، دون مضمونه، ولها قدرة فائقة على النسيان، وردود أفعال شعوبها فقاقيع عابرة تنتفش مع الزمن، أو نار الهشيم، ما تشُبُّ حتى تنطفئ… وفي جميع الأحوال، يمكن تعطيل عناصر العالم العربي، من خلال توظيف تناقضاتها الداخلية أو البينية.
وثانية الحقائق هي أن الأمم المتحدة محفل للخطابة، فقط. لا تمثل ضميرًا، ولا هي أداة قانونية زجرية، وليس لها قوة ردعية رغم النوايا الحسنة لمسؤوليها، والعمل الجبار الذي تضطلع به بعض مؤسساتها. لكن الغاية ليست هي مجرد تضميد جراح ومواساة مكلوم، بل منع أن يُجرح الجريح، أولًا، وإمكانية معاقبة المعتدي ثانيًا، وفي هذين الأمرين، الأمم المتحدة عاجزة، لا تستطيع إيقاف عدوان، ولا معاقبة معتدٍ.
هاتان الحقيقتان تقوداننا إلى نتيجتين: الأولى أن القاطرة الأميركية التي قادت العالم منذ سقوط حائط برلين باسم الأحادية القطبية، كانت جائرة، والنور الذي خبا، حسب بيت لروديار كيبليتغ، ويحمله بعض التبشيريين في ركاب أميركا، هو في حقيقته نار تلظّت به شعوب عدة، أو كما يقول إيمانويل طود، كانت الولايات المتحدة الحل لمشاكل العالم، بعد الحربين العالميتين: الأولى والثانية، وأضحت مصدر المشاكل بعد سقوط حائط برلين.
أما النتيجة الثانية، فهي ضرورة تشريح حالة الأمم "المتحدة" التي هي أبعد ما تكون عن كونها "متحدة". هي مجرد منظومة تُكرس توافق القوى المنتصرة بمقتضى لقاء يالطا، عقب الحرب العالمية الثانية، حيث كانت أغلب دول العالم تحت الحجر، في أفريقيا وفي آسيا، وكان الفيتو إثابة لدول حفظت النظام الدولي من الانزلاق الذي كانت تمثله دول المحور، ولكنه لم يكن مجرد حق، بل مسؤولية قانونية وأخلاقية لا يمكن استعماله إلا في الحالات القصوى التي يتم فيها تهديد الأمن والسلم العالميين.
هل يمكن الخضوع لمنظومة ظهرت في سياق معين، والأخذ بقواعد تكرس واقعًا ولّى؟ نظريًا، ممكن، ما دامت المنظومة تحقق الأهداف التي قامت من أجلها، أما إذا فشلت وأضحى فشلها بنيويًا، فيتوجب إعادة النظر فيها. والحال أن الأمم لم تعد أداة لتحقيق السلم والأمن، وحق الفيتو لم يعد مسؤولية أخلاقية بل أداة حرب، ولم تتورّع دول دائمة العضوية في مجلس الأمن في الاعتداء على دول من دون مظلّة الأمم المتحدة.
العالم أرحب من خمسة أعضاء، كما يقول الخطاب الرسمي التركي، والحاجة ماسّة إلى إعادة هيكلة للأمم المتحدة وليس مجرد ترميمها، أو إرساء نظام عالمي جديد، بمؤسّسات جديدة.
ينبغي حفظ تاريخ استعمال حق الفيتو من قِبل الولايات المتحدة، في الذاكرة، في نازلة غزة، كما تواريخ حاسمة في مسار عصبة الأمم، حين ضمت اليابان منشوريا (1931)، وحين غزت إيطاليا الحبشة (1935)، مما عجل بانهيار عالم ما بين الحربين.
ولسوف يجد المؤرخون الأميركيون في الزمن المقبل الجواب على فشل خطابهم التبشيري عن البيت فوق التلة الذي ينبعث منه النور، ولماذا انطفأ النور، من خلال الفيتو الأميركي على وقف الحرب في نازلة غزة. لن يحتاجوا لإلقاء اللوم على الآخر، الذي يغبطهم على حريتهم وتعدديتهم وديمقراطيتيهم، كما في زعم الخطاب الأميركي الرسمي.
أما النتيجة الثالثة، فهي أن العدو الأكبر للعالم العربي، هو وضع الفُرقة التي هو فيها، وهو أهم سلاح يستعمله خصومه ضده، ولن يكون لهذا العالم الفسيح مكانٌ تحت الشمس إذا استمر "النظام" العربي على ما هو عليه.
نعم، هناك شيء عفِنٌ في مملكة (المنتظم الدولي)، كشفه الفيتو الأميركي.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الفیتو الأمیرکی الأمم المتحدة ة الأمم
إقرأ أيضاً:
حظر السفر الجديد الذي فرضه ترامب على 12 دولة.. ماهيته والهدف منه
(CNN) – يمكن لأي أمريكي عاقل أن يتساءل بموضوعية عن ماهية حظر السفر الجديد الذي فرضه الرئيس دونالد ترامب، والذي يؤثر على اثنتي عشرة دولة.
هل يتعلق الأمر بحماية الأمريكيين من "القتلة"، كما قال ترامب، الخميس، أم بمعاقبة الدول الصغيرة على عدد محدود من الطلاب الذين تجاوزوا مدة تأشيراتهم؟
كان دافع ترامب وراء حظر السفر خلال ولايته الأولى في عامي 2017 و2018 واضحًا. كان يسعى إلى الوفاء بوعد انتخابي قبيح بمنع جميع المسلمين من دخول الولايات المتحدة. وقد تحول هذا الوعد، على مر السنين، مع تكيف الإدارة مع قضايا المحاكم، إلى حظر سفر أشخاص من دول معينة، معظمها ذات أغلبية مسلمة، إلى الولايات المتحدة.
ولم يكن من الممكن أن توافق المحكمة العليا الأمريكية في نهاية المطاف على فرض حظر السفر إلا بعد موافقتها على تجاهل تصريحات ترامب المناهضة للمسلمين في حملته الانتخابية في عام 2016، والتركيز فقط على اللغة المتعلقة بالأمن في محاولته الثالثة.
ويستخدم ترامب هذه السلطة مجددًا في ولايته الثانية. ولكن هذه المرة، كما قال إنه يهدف الحظر إلى إبعاد "الأشخاص المروّعين" الموجودين حاليًا في البلاد، ومنع دخول القتلة.
وتشير البيانات إلى أن حظر السفر سيؤثر بشكل أساسي على الطلاب ورجال الأعمال من دول في إفريقيا وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي، بالإضافة إلى الشرق الأوسط.
وكان هجوم مواطن مصري على أفراد من الجالية اليهودية في كولورادو هو ما أقنع ترامب بتسريع خطط حظر دخول الأشخاص من 12 دولة إلى الولايات المتحدة، وإعادة تفعيل سياسة حظر السفر التي كان رائدًا فيها خلال ولايته الأولى.
لكن مصر ليست على قائمة حظر السفر. ولا الكويت، البلد الذي عاش فيه محمد صبري سليمان، المشتبه به في هجوم بولدر، قبل مجيئه إلى الولايات المتحدة.
وقال ترامب: "مصر دولة نتعامل معها عن كثب. الأمور لديهم تحت السيطرة". بدلاً من ذلك، يشمل حظر السفر دولًا يرى ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو، اللذان أعدا القائمة، أن الأمور فيها خارجة عن السيطرة.
ويشمل ذلك دولًا مثل غينيا الاستوائية في إفريقيا وبورما، المعروفة أيضًا باسم ميانمار، في آسيا. ولا تُعتبر أيٌّ منهما بؤرةً للإرهاب تُهدد الوطن الأمريكي.
ويوضح أمر ترامب الذي أعلن فيه حظر السفر أن هذه الدول لديها معدلات عالية من الطلاب وغيرهم من المسافرين الذين يتجاوزون مدة تأشيراتهم في الولايات المتحدة. مشيرا إلى تقرير عن بيانات وزارة الأمن الداخلي المتعلقة بـ"تجاوز مدة الإقامة" لعام 2024، ليُثبت أنه بالنسبة لأكثر من 70% من الأشخاص من غينيا الاستوائية الحاصلين على تأشيرات طلابية أمريكية، لا يوجد سجل يُثبت مغادرتهم الولايات المتحدة عند انتهاء تأشيراتهم.
وبالأرقام الحقيقية، فإن هذا يعادل 233 شخصًا يحملون تأشيرات دراسية. والأعداد صغيرة أيضًا بالنسبة للدول الإفريقية الأخرى.
قال ديفيد بير، خبير الهجرة في معهد كاتو ذي الميول الليبرالية وناقد سياسة ترامب في الهجرة: "إنهم يُحاولون جاهدين عرقلة الأمور". وأضاف بير: "لا توجد فلسفة متماسكة وراء كل هذا".
يشمل حظر السفر المُعاد فرضه دولًا مرتبطة بالإرهاب، بما في ذلك إيران وليبيا والصومال والسودان واليمن، وجميعها كانت مشمولة أيضًا في حظر السفر الذي فرضه ترامب خلال ولايته الأولى. لكن تجدر الإشارة إلى أنه لم يُنفذ أي مهاجر أو مسافر من إحدى هذه الدول هجومًا إرهابيًا على الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، وفقًا لمراجعة أجرتها صحيفة واشنطن بوست خلال ولاية ترامب الأولى. بينما قتل رجل سوداني شخصًا واحدًا في كنيسة بولاية تينيسي عام 2017.
وكان الرجل المسؤول عن تفجير الشاحنة المفخخة في نيو أورليانز في يناير/كانون الثاني الماضي، شمس الدين جبار، من قدامى المحاربين في الجيش الأمريكي المولود في تكساس والمواطن الأمريكي.
يشمل حظر السفر الجديد أيضًا أفغانستان، مما قد يُعرّض العديد من الأفغان ذوي الصلة بمن ساعدوا الولايات المتحدة خلال حربها هناك للخطر، كما صرّح شون فان دايفر، رئيس منظمة الإغاثة AfghanEvac، لجيم سيوتو من CNN. وقال: "هناك 12 ألف شخص فُصلوا بسبب إجراءات حكومتنا، وينتظرون منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف".
وأوقفت إدارة ترامب مؤخرًا معالجة تأشيرات الطلاب، مما عطّل خطط آلاف الأشخاص للدراسة في الولايات المتحدة. وقال ترامب إنه غير مهتم بحظر الطلاب الصينيين.
وقال ترامب: "إنه لشرف لنا أن نستقبلهم، بصراحة، نريد أن نستقبل طلابًا أجانب، لكننا نريد أن يتم التحقق منهم"، مشيرًا إلى أنه ستكون هناك عمليات تحقق أكثر صرامة في المستقبل.
قد يكون لوجود قائمة حظر السفر تأثيرٌ أيضًا على مفاوضات التعريفات الجمركية التي أجرتها إدارة ترامب مع دولٍ حول العالم، بالإضافة إلى جهودها لحثّ الدول على استعادة المهاجرين الذين ترغب في ترحيلهم.
وقال بير: "الأمر يتعلق بالسلطة والسيطرة والتلاعب بالشعب الأمريكي لقمع المعارضة، بالإضافة إلى محاولة التلاعب بالعلاقات الخارجية مع هذه الدول من خلال إجبارها على فعل ما يحلو له لرفع اسمها من قائمة الدول غير المرغوب فيها".
أفغانستانأمريكاإيرانالصومالاليمنسوريامصرالإدارة الأمريكيةانفوجرافيكدونالد ترامبنشر الاثنين، 09 يونيو / حزيران 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.