العُمانية: تشكل الهوية الثقافية ركيزة أساسية لنمو الطفل معرفيًّا وإبداعيًّا من خلال العديد من المحفّزات والمكوّنات حوله التي يتفاعل معها بشكل يومي من خلال "البيت والمدرسة والمجتمع"، وما يستلهمه من أمور مرتبطة بالدين الإسلامي وعقيدته السمحة، وفي سلطنة عُمان هناك مؤثرات كثيرة تضاف إلى ما سبق من مكونات ومحفّزات تشكل تلك الهوية، تتصل بجوانب معرفية مرتبطة بالثقافة العُمانية الأصيلة الضاربة في القدم، والعادات والتقاليد والسمت العُماني.

وأكد عددٌ من المختصين على ما يمكن أن يُضاف إلى الهوية الثقافية في أدب الطفل في سلطنة عُمان من خلال المحفزات والممكنات الأدبية والعلمية، مع الإشارة إلى التحديات التي تواجهها الهوية في ظل التداخل المعلوماتي في الفضاءات الثقافية المفتوحة.

بدايةً يقول الدكتور عامر بن محمد العيسري، أستاذ مساعد للتربية المبكرة بجامعة السُّلطان قابوس: إن أدب الطفل في سلطنة عُمان نشأ أولا في كنف أدب الكبار وامتزج به، وبدأ أول ما بدأ شفويًا يعتمد على الرواية للأدب والقصص الشعبية على ألسنة الأجداد والجدات، أو في صورة أشعار تتوارثها الأجيال، مثل حكايات الغواصين ومغامرات الهجرة والسفر وحكايات الشجاعة والبطولة والألغاز والألعاب الشعبية التي كان لها دور في إثراء الأدب وتذوقه لدى الأطفال وتنشئتهم وبناء شخصيتهم، وتمثّل الاهتمام بالأطفال وأدبهم في سلطنة عُمان في مجهودات بعض الوزارات المعنية بالطفل مثل: وزارة الإعلام التي قدمت برامج للأطفال في الإذاعة والتلفزيون، وفي بعض الصحف المحلية التي خصص صفحات وملاحق أسبوعية لأدب الأطفال.

ويضيف: المتتبع للخطوات الحثيثة في سلطنة عمان لتطوير أدب الأطفال، وما يكتب لهم يلحظ وجود بعض التحديات التي توضح أهم الخطوات التي ينبغي السعي لتنفيذها على أرض الواقع لتمضي مسيرة تطور أدب الطفل قدمًا بصورة منظمة، وعلى رأسها المخصصات المالية المحددة لمجال الطفولة، والتقنية الرقمية التي تمثل تحديًا كبيرًا يمكن أن تبعد شريحة واسعة من الأطفال عن الاستمرار في متابعة ما يكتب لهم، ومن أهم هذه الخطوات المهمة التي ينبغي العمل عليها، وجود استراتيجية أو رؤية أو وضوح في الأدوار والآليات، وزيادة الدراسات والنقد الهادف للإنتاج المقدم للأطفال، وتوفير المتخصصين في مجال نقد أدب الأطفال ودعمهم وتعزيزهم، وزيادة الوعي بأهمية تطوير وتجويد ما يقدم للأطفال من إنتاج أدبي، وزيادة وعي الأهالي بآليات اختيار المناسب منه لأبنائهم، وزيادة الحلقات والفعاليات والمسابقات المتخصصة في هذا المجال، وإتاحتها بشكل واسع لجميع الفئات، ووجود دعامات أساسية لإبراز الإنتاج المكتوب للأطفال مثل: المجلات، والقناة الفضائية المتخصصة للأطفال، وتحويل الإنتاج القصصي المكتوب إلى قصص وبرامج كرتونية متحركة ووجود الكتب التفاعلية وتوظيف التكنولوجيا بها، ووجود مدونات وقنوات ومواقع إلكترونية متخصصة في أدب الأطفال، وتخصيص منابع تمويلية ثابتة لدعم الإنتاج المقدم للأطفال وتطويره وتقديم التسهيلات وتبسيط الإجراءات الإدارية فيما يتعلق بطباعة ونشر وإنتاج محتوى أدب الطفل، والابتعاد عن النظرية الربحية في الإنتاج المقدم للأطفال من خلال تقليل البهرجة في الشكل والاهتمام بالمحتوى المقدم وفائدته وتأثيره على الأطفال والاهتمام بالموروث الشعبي والثقافي واهتمامه بالعمق والصدق والخيال وموضوعات فلسفة الحياة التي تهتم بمستقبل الأطفال، وتعدّهم للمشاركة بفاعلية في المجتمع، على أن يتم توجيه كتاب الطفل إلى شرائح عمرية متعددة، يحتاج كل منها إلى اختيار ما يلائمه من موضوعات وأسلوب ومفردات لغوية، وصور وأشكال وألوان وأوعية ثقافية مختلفة، وإخراجات مشوقة وأدوات مساعدة.. مما يجعل كتاب الطفل أكثر تعقيدًا عشرات المرات من كتب الكبار فيؤدي ذلك إلى إنتاج كتب متخصصة وذات جودة من ناحية (النص والصورة والتصميم والإخراج والتسويق).

مؤثرات ثقافية

وتحدثت الدكتورة وفاء بنت سالم الشامسية المتخصصة في أدب الطفل قائلة: إن تنمية هويّة الطفل الثقافية تكتسب أهميتها من ارتباطها بالحياة اليومية للطفل، إذ يعيش في بيئة مليئة بالمؤثرات الثقافية، ويسمع لغة ويرتبط بها، وينشأ في مكان ويشعر بالانتماء إليه، ويمارس عادات وتقاليد مختلفة فتصبح مكونًا رئيسًا من أيدولوجيته الثقافية والمعرفية، ويتفاعل مع عالمه الصغير المحيط به فتنشأ لديه خلفية معرفية وفكرية واجتماعية تتفاوت في تأثيرها من طفل لآخر.

وأكدت على أن هناك بعدًا مهمًّا في الهوية الثقافية وأهمية تنميتها لدى الطفل، إذ أنها أساسٌ لتنمية قدرته على التعامل مع الثقافات الأخرى باحترام من حيث التوافق معها أو التصالح أو التسامح، وهي محكٌّ مهمٌّ يبلور تعامله مع العالم المتغير، والتعلّم من التجارب البشرية والثقافات البشرية الواسعة، لذلك حين يترجم الكاتب الذي يكتب للطفل المحفزات والممكنات الأدبية والعلمية عليه أن يضع خارطة واضحة المعالم بها، فالهوية الثقافية عالمٌ واسعٌ وممتدٌّ، ولا ترتبط بالعالم المادي فقط بل تتجاوزه لعوالم أخرى، والاشتغال على هذا الأمر ضرورة ملحّة لما لأدب الطفل من تأثير كبير على المتلقّي الصغير بما يقدّمه من معالجات وشخصيات يتماهى معها، ويتأثر بها، وبما يضيفه إلى موسوعته العلمية من معارف ومعلومات تظل عالقة في ذهنه لفترة زمنية طويلة مما يشكل لاحقًا تأثيرًا يظهر على قيمه ومبادئه وسلوكياته. لكن ما يحكم هذا الاشتغال هو الأدوات التي يستخدمها الكاتب، ومحدّدات الفئة العمرية التي يخاطبها؛ كي يضمن تقديم معالجة محكمة تعزز الهوية الثقافية لدى الطفل.

وتقول: إن المعالجة تأتي في أشكال مختلفة، منها المكتوب، ومنها المسموع، ومنها المشَاهد، وتبقى "القصة" أكثر الأنواع المطروقة من قبل الكتّاب لمبررات كثيرة، تليها القصص المصوّرة، والمسرحيات، والأناشيد، أمّا من حيث الموضوعات المعالَجة فهي كثيرة، وتأتي القيم على رأس القائمة، ثم هناك الهوية الوطنية، والتاريخ، والدين، واللغة، في حين بقيت بعض المحاور قليلة المعالجة إن لم يكن التطرق لها نادرًا كالهوية الجنسية، والجمالية.

وفي شأن التحديات تقول: التحديّات موجودة، وباتت كثيرة بسبب التداخل المعلوماتي، ولكن الأصل في التنشئة هو تمكين الطفل من هويته الثقافية الأصيلة، وتعزيز مهارات التعامل مع ما حوله بطريقة واعية يعتمد فيها على الغربلة، والتقييم، والمقارنة للوصول إلى المنطقة الآمنة، وأن الاهتمام بالجانب المعرفي فيما يتعلق بالهوية الثقافية يأخذ نصيب الأسد، بينما لا يحظى الجانبان الوجداني والمهاري بذات الاهتمام، رغم أهميتهما القصوى، فهما يؤديان دورًا مهمًّا في استقطاب المحفّزات والتأثر بها، ثم ترجمتها لسلوكيات يمارسها الطفل في الوسط الذي يعيش فيه.

وتبيّن أن أدب الطفل في سلطنة عُمان قطع شوطًا كبيرًا في بلورة المحفزات مستعينًا بأدواته الأدبية والعلمية، وما رأيناه وعايشناه في معرض مسقط الدولي للكتاب في نسخته الأخيرة لهو شاهدٌ على ثراء الاشتغال في مجالات الهوية الثقافية، وتقديمها بأساليب مختلفة ومتنوعة للطفل القارئ، وتأتي الموسوعة العُمانية للأطفال على رأس الهرم فيما قُدِّمَ له تمكينا لمعارفه، وتأصيلا لهويته الثقافية، وربما أشير في مجمل الحديث إلى وجود بعض الفجوات، ومن ضمنها ما نلمسه من قلة الإيمان بدور أدب الطفل في إحداث التغيير المطلوب لدى الأجيال القادمة، إضافة إلى أهمية التكامل بين كل المؤسسات والمشتغلين في أدب الطفل لصناعة المشهد الثقافي الموجّه للطفل بهويته ومعطياته المختلفة بالطريقة العلمية المناسبة، مع التأكيد على ضرورة التمكّن من أدوات الكتابة والمعالجة العميقة والصحيحة للطفل، خصوصا مع ما نراه من ضعف في بعض المعالجات والاشتغالات على مستوى النص أو الرسم أو الإخراج.

هوية الطفل

وترى الباحثة والناقدة في الأدب العُماني الدكتورة فايزة بنت محمد الغيلانية أن المنظومة التربوية والثقافية والإعلامية في سلطنة عُمان تحرص على أن تبرز التربية الدينية الإسلامية، والثقافة العربيّة الأصيلة، والهويّة الوطنية بمكوّناتها الماديّة والمعنويّة، في كلّ ما له صلة بالطفل، من أدب مكتوب، أو مسموع، أو مرئي، وتعد هذه المقوّمات الثلاثة من أهم المحفزات في أدب الطفل في سلطنة عُمان.

وتضيف إنه من خلال الإنتاج المتزايد في أدب الطفل في سلطنة عُمان، وظهور أقلام شابّة تطرح رؤيتها لعالم الطفل من خلال هذا الإنتاج، الذي يتيح الانفتاح على الآخر مع الحفاظ على الهويّة، والتماهي مع التطوّر العلمي من حوله من خلال توظيف نماذجه المختلفة في هذا الإنتاج بوصفه جزءا من العالم الذي يحيط بالطفل، أو يحيا فيه، تبرز مهارات القرن الحادي والعشرين مثل مهارات الاتصال والتواصل، ومهارات التفكير النّاقد، وتوظيف الخيال مثل محفزات تندمج مع الصّور التقليدية، والقيم الأخلاقية المتعارف عليها، لتنتج للطفل أدبًا يربطه بمجتمعه، وبالعالم من حوله، ويتيح له في الوقت نفسه التعامل معه في جوانبه الإيجابية والسلبية بوعي، وقدرة كبيرة على حلّ المشكلات.

وتؤكد على أنه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال في ظلّ الانفتاح المعلوماتي، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وسهولة وصول الطفل إليها؛ أن نمنع وصولها إليه، وهو ما يمثّل التحدي الأكبر، فما يمكن متابعته من الوالدين أو المنزل، يمكن للطفل أن يتابعه من خلال الحديث مع أصدقائه، أو مشاهدته أو قراءته في أيّ من الأماكن التي يرتادها الطفل. وعليه فإنّ الحديث مع الطفل، وتوعيته، ومشاركته ما يقرؤه أو يشاهده يمكن أن ينمّي وعيًا نقديًّا في شخصية الطفل، وقدرة على التعامل مع المتغيرات المتسارعة من حوله، يمكّنانه من التمييز بين الجيّد وغيره وفق المعايير التي تعززها المكوّنات والمحفّزات القيميّة، والسمات الفنيّة المقبولة في أدب الطفل التي اعتاد وجودها فيما يتابعه ويقرؤه ويشاهده.

وتوضح أن الاضطراب المؤسسي في التعامل مع عناصر الهويّة الوطنيّة يمثّل تحديا آخر، لا سيما فيما يتعلّق بالاهتمام باللغة العربية، وتعزيزها بوصفها مكوّنًا أساسيًّا في الهويّة الوطنيّة من خلال التسميات الأجنبية التي بدأت تظهر في المجتمع العُماني لبعض الأماكن التي يمكن أن يرتادها الطفل مثل (ذا فيليج) أو (داون تاون) وغيرها، مما يؤثر بشكل كبير على المدى البعيد في ترسيخ صورة الهويّة في شخصية الطفل، بين ما ينبغي له أن يكونه، وما هو من حوله من مفردات ومسمّيات، وأزياء، وممارسات بعيدة عن هويته الأصلية، ويصبح الأمر أخطر حين يأتي أدب الطفل -أحيانا- مكتوبا باللهجات العاميّة، التي لا تعين على تنمية قدرات الطفل اللغوية، وتبتعد به عن بعض الغايات التي يسهم الأدب بأنواعه المختلفة في تحقيقها، لا سيما في ظلّ ابتعاد مؤسسات أخرى كالمؤسسات التربوية من مدارس وغيرها عن تعزيز مكانة اللغة العربية في نفوس الناشئة؛ نظرًا لغلبة الاعتماد على اللهجات في التدريس وغيره من ممارسات فيها. وهذا ما يجعل التوافق بين المؤسسات المختلفة ذات الصلة بالطفل منقطعا، وأدوارها متضاربة مما يؤثر – دون شك – في تعيين هوية ثقافيّة أصيلة، ومتينة، وواضحة في أدب الطفل.

ركائز ثابتة

وقال الكاتب عبدالرزّاق الربيعي الذي صدرت له إصدارات شعرية ومسرحية موجهة للأطفال: إن تعزيز الهوية الثقافية من أهم الواجبات الملقاة على عاتق من يكتب للطفل في سلطنة عُمان، وهذه الهوية تقوم على ركائز ثابتة، وعميقة، فسلطنة عُمان غنية بموروثاتها الثقافية التي تشكّل مصدرًا مهمًا ومعينًا لا ينضب ينهل منه المشتغلون بالكتابة للطفل، واكتسبت غنى ثقافيًّا ومعرفيًّا، بفضل تاريخها الممتد إلى عصور قديمة، وانفتاحها الثقافي الممنهج على الثقافات الأخرى وهو انفتاح نتج عنه تواصل مع الحضارات المحيطة بدأ منذ العصور القديمة، عندما ارتبطت بعلاقات تجارية مع تلك الحضارات، وكان اللبان والبخور همزة وصل بينها وبين دول قامت في وادي الرافدين والنيل والهند.

ويشير إلى ضرورة أن يعرف الطفل في سلطنة عُمان هذا التاريخ وأن يدرك سمات هذه الهوية المتأصلة ذات الجذور العميقة التي يغلب عليها الاعتدال والتسامح، والتعايش، والتعدّد، والخصوصيّة الوطنية التي تدخل في مفردات الحياة اليومية من ملبس ومأكل ومشرب، وللوصول إلى تحقيق هذا الهدف السامي لابدّ من جهد كبير يبذل على مستوى فردي ومؤسساتي، فالتحدّيات التي تواجهها الهوية في هذه المرحلة كبيرة، والانفتاح الثقافي أضرّ بالثقافة المحلية، وهذا الجهد يبدأ من البيت، حيث يربّى الطفل محافظًا على موروثه الثقافي والاجتماعي وانتمائه لقضايا مجتمعه، حريصا، كلّ الحرص، على العادات، والتقاليد التي من شأنها أن تشكّل منه مواطنا يتفاعل مع مجتمعه، ثم تأتي مهمّة المدرسة التي تقوم بالتأكيد على تلك المفردات وغرس الانتماء الوطني لدى النشء الجديد وإعداده إعدادًا صحيحًا للمستقبل، ويكون دور المشتغلين بأدب الطفل هو مساعدة البيت والمدرسة بهذه المهمة بما ينتجونه من إبداعات في الكتابة الشعرية والسردية والفنون البصرية، لوضع البوصلة في اتجاهها الصحيح، لذا فالمهمة الملقاة على عاتقهم كبيرة، فلابد من تكاتف الجهود من أجل تحقيق الهدف المنشود.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الهویة الثقافیة فی أدب الطفل أدب الأطفال التعامل مع الطفل من من حوله یمکن أن من خلال ة الطفل الهوی ة على أن ا یمکن ة التی

إقرأ أيضاً:

المواطنة الرقمية بسلطنة عمان .. ممارسات مسؤولة في الفضاء الالكتروني

تمثل المواطنة الرقمية أحد الجوانب الأساسية في التعامل مع الفضاء الإلكتروني، وأصيح الوعي بالحقوق والواجبات الرقمية ضرورة في ظل تنامي الاستخدام اليومي للتقنيات الحديثة.

ووضعت سلطنة عمان العديد من التشريعات واللوائح لتنظيم استخدام التكنولوجيا في المجتمع، مثل قانون تقنية المعلومات، وقانون المعاملات الإلكترونية، مما يعكس التزام الدولة بتوفير حماية قانونية للحقوق الرقمية، وتعد هذه التشريعات جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى مواكبة التحول الرقمي والتأكد من أن كل فرد يتبع القواعد القانونية والأخلاقية، وهو ما يعزز من ثقافة المواطنة الرقمية.

وأكد محامون في استطلاع أجرته «عُمان» أن القوانين العمانية وفّرت إطارًا قانونيًا لحماية المستخدمين، خاصة القُصّر، من المخاطر الرقمية المتزايدة.

وقال المستشار القانوني والخبير الاقتصادي الدكتور قيس السابعي، عضو الجمعية الاقتصادية العمانية أن مفهوم "المواطنة الرقمية" من أبرز المفاهيم الضرورية في العصر الحديث، خصوصًا مع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا والانترنت في حياتنا اليومية. وأضاف السابعي أن المواطنة الرقمية تشير إلى قدرة الأفراد على استخدام التكنولوجيا والإنترنت بطريقة مسؤولة وفعّالة، ما يعني أن المواطن الرقمي يجب أن يكون قادرًا على التعبير عن أفكاره بكل احترام ووعي، مع الحفاظ على خصوصيته الشخصية على الإنترنت وعدم نشر أي بيانات قد يتم استخدامها بشكل خاطئ في المستقبل.

وأكد قيس السابعي أن المواطنة الرقمية لا تقتصر على الاستخدام الآمن للتكنولوجيا فقط، بل تمتد لتشمل استخدام الوسائط المختلفة للإسهام في رفاهية المجتمع. وهي تشمل أيضًا إظهار السلوكيات الإيجابية على الإنترنت، مثل تعزيز ثقافة الحوار والاحترام المتبادل بين الأفراد في المجتمع الرقمي. ومن خلال هذا المفهوم، يتمكن المواطن الرقمي من الحفاظ على الحقوق الشخصية، مثل الخصوصية وحماية البيانات الشخصية من الانتهاك، مع الالتزام بالقوانين التي تنظم النشاطات الإلكترونية.

وبين السابعي أن ترسيخ المواطنة الرقمية في سلطنة عمان يتطلب من المؤسسات التربوية والأسر والمدارس لعب دور محوري في تعليم الأفراد كيفية استخدام التكنولوجيا بشكل صحيح وآمن. وأشار إلى أن المواطنة الرقمية لا تقتصر فقط على الأفراد البالغين، بل يجب أن تكون جزءًا من التربية في المراحل العمرية المبكرة، وذلك من خلال تعليم الأطفال كيفية التعامل مع الإنترنت بشكل آمن.

وأشار السابعي أن في سلطنة عمان، تم تطوير مجموعة من البرامج والمبادرات التي تعزز هذا المفهوم، مثل برنامج "انتخب"، الذي يعزز المشاركة السياسية الرقمية للمواطنين في العملية الانتخابية. كما أشار إلى منصة "تجاوب"، التي أُطلقت مؤخرًا لتوفير آلية للتفاعل مع المواطنين عبر الإنترنت من خلال تلقي الاستفسارات والشكاوى، مما يعكس تكامل المشاركة الرقمية في الحياة الحكومية والمجتمعية.

ونوّه الدكتور السابعي إلى أن العديد من الدوائر الحكومية في سلطنة عمان تعتمد على "الباركود الإلكتروني" في توفير خدمات إلكترونية سلسة وآمنة، وهو ما يعكس التقدم الكبير في تطبيقات التحول الرقمي داخل المؤسسات الحكومية. وأضاف أن هذه الأدوات الرقمية، مثل "تجاوب"، تساهم بشكل كبير في تحسين جودة العمل الحكومي وتيسير التواصل مع المواطنين بشكل أكثر فعالية وسرعة.

ووضح أن المواطنة الرقمية تساهم بشكل كبير في تطوير المجتمع من خلال بناء مجتمعات افتراضية يسودها الاحترام والوعي المشترك. كما أن هذا المفهوم يعزز من التفاعل بين المجتمعات المختلفة حول العالم، ويسهم في تبادل الأفكار والمعرفة عبر الإنترنت. ومع تزايد استخدام الإنترنت في جميع مجالات الحياة، من المهم أن يكون كل مواطن رقميًا على وعي بكيفية استخدام هذه الوسائل بشكل آمن.

وفي الختام، أكد المستشار القانوني الدكتور قيس السابعي أن المواطنة الرقمية تمثل أداة أساسية لبناء مجتمع رقمي قوي وآمن في سلطنة عمان. وأضاف أن تعزيز مفهوم المواطنة الرقمية، سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي، يعكس توجه سلطنة عمان نحو تحقيق رؤية عمان 2040، التي تركز على التحول الرقمي كجزء من التنمية المستدامة وتحقيق الريادة في المجالات الرقمية على المستوى الدولي.

بدوره، أوضح المحامي فهد بن مالك الكندي أن المواطنة الرقمية لا تقتصر على كونها ثقافة أخلاقية في التعامل مع الفضاء الرقمي فحسب، بل تشمل أيضًا الحق في الوصول إلى المعلومات وكيفية استخدامها بطريقة مسؤولة وأخلاقية. وأكد على أهمية التحلي بالحذر في تداول الأخبار، لما لنشر المعلومات الزائفة من أثر كارثي على الأفراد والمجتمع، مؤكدًا أن الخصوصية الرقمية تكتسب أهمية مضاعفة في ظل التطورات المتسارعة في تقنيات المراقبة وتحليل البيانات.

وبيّن أن المواطنة الرقمية ترتكز على السلوكيات الأخلاقية واحترام خصوصية الآخرين والتصرف بطريقة مسؤولة عبر الإنترنت. ولفت إلى أن الاعتراف الدولي بالحقوق الرقمية بدأ في عام 2012 عندما أقر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن الوصول إلى الإنترنت يُعد حقًا إنسانيًا، ما شكّل نقطة انطلاق نحو اعتبار الحقوق الرقمية جزءًا لا يتجزأ من حقوق الإنسان.

وأشار الكندي إلى أن هذه الحقوق تقوم على قيم الحرية والمساواة والخصوصية، وتكتسب بُعدًا كونيًا يتجاوز الحدود الجغرافية. ومن أبرز هذه الحقوق: الحق في الخصوصية، وحرية التعبير، وحق الوصول إلى الإنترنت، إلى جانب الحيادية الرقمية التي تضمن عدم التمييز في الوصول إلى المحتوى أو الخدمات.

وأكد المحامي فهد أن الوصول إلى الإنترنت بات ضرورة حياتية كالخدمات الأساسية الأخرى، وأن غياب هذا الحق يحد من فرص التعليم والعمل والتواصل الاجتماعي. كما اعتبر أن حماية الخصوصية الرقمية أصبحت تحديًا حقيقيًا، في ظل الاستخدام التجاري غير المشروع للبيانات، مشيرًا إلى أهمية وجود قوانين صارمة تُعزز حماية البيانات الشخصية.

ونوّه إلى أن منصات التواصل الاجتماعي قد تتسبب أحيانًا في تقييد حرية التعبير عبر خوارزميات رقابية غير شفافة، ما يتطلب وجود ضمانات تكفل التعبير دون انتهاك لحقوق الآخرين. كما تطرّق إلى أهمية الهوية الرقمية الموثوقة، والتي تكفل حماية البيانات الشخصية والتحكم في الحضور الرقمي.

التحديات القانونية

واستعرض الكندي عددًا من التحديات التي تواجه الحقوق الرقمية، من بينها الرقابة الحكومية التي تُقيّد الوصول إلى الإنترنت أو تحجب مواقع معينة، واستغلال البيانات من قبل الشركات الكبرى دون موافقة واضحة من المستخدمين، بالإضافة إلى الفجوة الرقمية وحرمان ملايين الأشخاص من الوصول إلى الإنترنت. وأشار إلى أن مبادرات مثل مشروع "ستارلينك" تسعى لسد هذه الفجوة من خلال بث الإنترنت عبر الأقمار الصناعية.

وأكد أن الحقوق الرقمية باتت ضرورة قانونية لحماية القيم الإنسانية في عصر التكنولوجيا، مؤكدًا على ضرورة إصدار تشريعات ملزمة تحمي هذه الحقوق وتحفظها من الانتهاك.

واجبات المستخدمين ومسؤولياتهم القانونية

أشار المحامي الكندي إلى أن من أبرز واجبات المستخدم في الفضاء الرقمي الالتزام بالصدق في نقل المعلومات، واحترام الخصوصية، وتجنّب خطاب الكراهية، والابتعاد عن أي سلوك مسيء أو احتيالي، مؤكدًا أن هذه السلوكيات تمثل أساس المواطنة الرقمية المسؤولة.

وبيّن أن المسؤوليات القانونية تشمل حماية البيانات الشخصية، الامتناع عن ارتكاب الجرائم الإلكترونية، احترام حقوق الملكية الفكرية، والامتثال لقوانين حماية البيانات، إلى جانب الالتزام باستخدام أدوات الحماية الإلكترونية ككلمات المرور والمصادقة الثنائية. ووضح أهمية التوعية بهذه المسؤوليات لضمان بيئة رقمية آمنة، يتمكن فيها الجميع من استخدام الإنترنت دون التعرض لانتهاكات أو محتوى ضار.

التنمر الإلكتروني

أكد المحامي فهد الكندي أن التنمر الإلكتروني بات ظاهرة متزايدة تهدد سلامة الأفراد، ورغم عدم وجود تعريف صريح له في القانون العُماني، إلا أن العديد من نصوص قانون الجزاء وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات تغطي سلوكيات مشابهة، مثل القذف والسب والتهديد والابتزاز.

وأوضح أن التنمر قد يأخذ أشكالًا متعددة، منها التنمر الاجتماعي، المهني، السياسي، أو الاقتصادي، ويُمارس من خلال وسائل متعددة مثل الرسائل النصية أو الوسائط المرئية أو غرف الدردشة. ولفت إلى أن العقوبات تختلف حسب طبيعة الجريمة، إذ قد تتراوح بين شهر إلى ثلاث سنوات سجن، وغرامات تصل إلى ثلاثة آلاف ريال عُماني، وقد تمتد العقوبة إلى أكثر من عشر سنوات في حالات التحريض على الكراهية أو المساس بالنظام العام.

وبيّن المحامي فهد الكندي أن المادة (19) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات تجرّم نشر المحتوى الذي يمس القيم الدينية أو النظام العام، وتشمل بذلك الشائعات والأخبار الكاذبة التي تهدد الأمن الاجتماعي أو الاقتصادي. وأكد أن القانون العُماني لا يفرّق بين المنصات المستخدمة في التنمر، سواء كانت واتساب أو فيسبوك أو غيرها، ويمنح الضحايا الحق في تقديم بلاغ رسمي والمطالبة بالتعويض، مع توفير الدعم النفسي في حال تطلب الأمر. وأشار إلى أن القاصرين يخضعون لقانون مساءلة الأحداث، بحيث يُطبّق عليهم نظام الإصلاح والرعاية إذا كانوا دون السادسة عشرة، بينما تُطبّق عليهم العقوبات بالسجن إن تجاوزوا هذا السن بحسب جسامة الجريمة.

تعزيز الوعي القانوني

اقترح الكندي عددًا من الخطوات لتعزيز الوعي القانوني لدى المستخدمين في الفضاء الرقمي، منها وضع سياسات قانونية واضحة للاستخدام الرقمي، وتوفير برامج توعوية موجهة خاصة للشباب، وتشجيع ثقافة الحوار المسؤول. كما دعا إلى تطوير تقنيات لرصد المحتوى الضار دون المساس بحرية التعبير، وتفعيل دور المنصات الرقمية لتلقي الشكاوى والاقتراحات، وبناء ثقافة رقمية قائمة على المسؤولية والاحترام المتبادل. وأكد أهمية التعاون بين المؤسسات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني لتعزيز الأمن السيبراني، وتفعيل الدبلوماسية السيبرانية، وبناء القدرات الوطنية، وتعزيز مبادئ الشفافية والحوكمة الرقمية لضمان ثقة المواطنين بالممارسات الرقمية للدولة.

من جهته، أشار المحامي ناصر بن سليمان الزيدي إلى أن التوسع المتسارع في استخدام التقنيات الحديثة، وما تبعه من انخراط واسع للأطفال في الفضاء الرقمي، أبرز الحاجة إلى إطار قانوني فعّال يضمن حمايتهم من المخاطر المرتبطة بهذا العالم المتنامي. وبيّن أن المشرّع العُماني استوعب هذه الحاجة، فأدرج في قانون الطفل عددًا من الضمانات التي لا تقتصر على الواقع المادي فحسب، بل تمتد إلى الفضاء الإلكتروني، لضمان حماية متكاملة للطفل.

قانون الطفل

وأوضح الزيدي أن قانون الطفل العُماني، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (22/2014)، عرّف الطفل بأنه كل من لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، مع الاعتداد بشهادة الميلاد الرسمية لإثبات ذلك. وقد نص القانون على حقوق متعددة تشمل الحماية من العنف والاستغلال، ومعاملة تحفظ للطفل كرامته وسمعته، كما ورد في المادة (7)، مشيرًا إلى أن هذه الحماية تشمل التهديدات الرقمية مثل المحتوى غير الملائم، أو التنمّر الإلكتروني، أو الاستغلال الجنسي عبر الإنترنت.

وأكد المحامي ناصر أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات جاء مكملًا لقانون الطفل، حيث تضمّن عقوبات مشددة في حال كان المجني عليه حدثًا. واستعرض المادة (14) التي تنص على عقوبات تتراوح بين سنة وثلاث سنوات سجن، وغرامات تصل إلى خمسة آلاف ريال عُماني، عند استخدام الوسائل التقنية لنشر أو حيازة مواد إباحية تتعلق بالأطفال. كما تناول المادة (15) التي تعاقب بالسجن من خمس إلى عشر سنوات إذا استُخدمت هذه الوسائل في الإغواء أو التحريض على الفجور مع قاصر.

وأضاف الزيدي أن حماية الطفل لا تقع على الدولة وحدها، بل تشمل أولياء الأمور، الذين تقع عليهم مسؤولية الرقابة والتوجيه، مثل استخدام أدوات الرقابة الأبوية، وتوفير بيئة معرفية تُمكّن الطفل من الاستخدام الآمن للوسائل الرقمية. وأشار إلى أنه في حال أدى الإهمال إلى ضرر فعلي بالطفل، فقد تنشأ مسؤولية قانونية على ولي الأمر، خاصة إذا ثبت علمه بالمخاطر وعدم اتخاذه التدابير المناسبة.

كما أشار إلى أن مسؤولية الحماية تمتد إلى الشركات الرقمية ومزودي خدمات الإنترنت، الذين يُطلب منهم تفعيل أدوات التحقق من العمر، وتوفير آليات فاعلة لتصفية المحتوى غير الملائم، بالإضافة إلى تمكين أولياء الأمور من ممارسة الرقابة الفعّالة. وأوضح أن الإخلال بهذه الالتزامات قد يترتب عليه مسؤولية جنائية، وفقًا للقانون الوطني والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الطفل.

واختتم المحامي ناصر الزيدي بالتأكيد على أن حماية الأطفال في البيئة الرقمية لم تعد خيارًا، بل أصبحت واجبًا قانونيًا وأخلاقيًا ومجتمعيًا يتطلب تكاملًا في الجهود بين الأسرة، والجهات الرسمية، والقطاع الرقمي، لضمان بيئة رقمية آمنة تحترم خصوصية هذه الفئة وتؤمن لها الحماية الكاملة من التهديدات الرقمية المتزايدة.

مقالات مشابهة

  • أكاديميون وطلاب: قرار عدن بعدم اعتماد وثائق الجامعات الخاضعة لصنعاء “قرار سياسي يهدد مستقبل الآلاف”
  • الاستقلال مسؤولية مستمرة نحو بناء المواطنة الصالحة وليس مجرد ذكرى
  • أبناء مديريات محافظة صنعاء يؤكدون جهوزيتهم القتالية والاستعداد الكامل لأي مواجهة ضد العدو
  • أسعار الفضة تدخل دائرة الاهتمام الشعبي.. استثمار مناسب وعوائد واعدة
  • التضامن تطلق المرحلة الثانية من برنامج المواطنة في المنيا
  • بعد الأعطال في منصة "إكس".. ماسك يعلن عزمة إيلاء المزيد من الاهتمام لشركاته
  • التضامن تضع 60 قرية بالمنيا في برنامج التربية الأسرية
  • المواطنة الرقمية بسلطنة عمان .. ممارسات مسؤولة في الفضاء الالكتروني
  • ناقشا عددًا من القضايا ذات الاهتمام المشترك بين البلدين.. الرئيس التركي يستقبل نظيره السوري في إسطنبول
  • «الاستوديو المتنقل».. تجربة رائدة لترسيخ الفن للجميع