لجريدة عمان:
2025-12-12@23:35:23 GMT

السودان.. هل يقترب من هدنة في رمضان ؟!

تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT

في الخامس عشر من أبريل القادم تحل الذكرى الأولى لاندلاع الحرب الأهلية في السودان الشقيق بين قوات الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وبين قوات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وذلك بعد أن تأثرت العلاقة بينهما بسبب الصراع على السلطة والعلاقة بين الجيش وبين قوات الدعم السريع التي يصر قائدها على استمرار انفصالها عن الجيش واستقلالها التنظيمي عنه في إطار أي عملية لإعادة تنظيم الأوضاع في القوات المسلحة السودانية وإعادة ترتيب الأوضاع في السودان بوجه عام على أسس ديمقراطية وبمشاركة مختلف القوى السودانية بما فيها القوى المدنية، وبصرف النظر عن بعض الشعارات التي ظهرت في بداية المواجهات المسلحة بين الجانبين، إلا أن تلك الشعارات ما لبثت أن تلاشت في نيران المعارك والتنافس الشخصي على السلطة والتدهور المتزايد للعلاقة بين صديقي الأمس، البرهان ودقلو.

وعلى امتداد أكثر من أحد عشر شهرا من القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع واستخدام مختلف أنواع الأسلحة بما فيها الطيران من جانب الجيش وعدم الالتزام بقواعد الاشتباك وقوانين الحرب من جانب قوات الدعم السريع ازدادت معاناة وخسائر الدولة والمواطنين السودانيين بشكل فاقمته المعارك التي كانت تجري ـولا تزال- داخل المدن وفي المواقع الحيوية في الولايات مما تسبب بخسائر مادية وبشرية وفي البنية الأساسية والمرافق الخدمية السودانية خاصة مع نزوح نحو 18 مليون سوداني فرارا من المعارك وطلبا للأمان وبحثا عن مأوى وطلبا للغذاء بعد أن تأثرت مساحات واسعة من المحاصيل وانخفضت الإيرادات الحكومية بنحو 80% حسبما قال جبريل إبراهيم وزير المالية خلال الأشهر الماضية، وهو ما أثر في الواقع على الاقتصاد وعلى نمط الحياة في المدن السودانية، وزاد كذلك من عمليات النزوح والهجرة سواء داخل السودان، أو إلى الدول المجاورة خاصة مصر وتشاد وجيبوتي وإثيوبيا واليمن وليبيا، كما تدهورت الأوضاع الصحية خاصة بالنسبة للأطفال والكبار، وقال مارتن جريفيث منسق المساعدات الإنسانية في الأمم المتحدة أمام مجلس الأمن قبل عدة أيام أن نحو خمسة ملايين سوداني «قد يعانون من جوع كارثي في بعض المناطق ومن انعدام أمن غذائي حاد خلال الأشهر القادمة» وأن نحو 18 مليون سوداني يواجهون خطر الأوبئة وأن نحو 250 ألف طفل يهددهم الجوع والنقص الحاد للغذاء بكل ما يترتب على ذلك من نتائج تتطلب التدخل الإقليمي والدولي لوقف القتال وإعادة الاستقرار إلى السودان .

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا استمرت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان برغم أن الكثير من التوقعات في بداية القتال لم تتوقع ذلك وإذا كانت البيئة الداخلية والإقليمية والجيوبوليتيكية السودانية قد وفرت للسودان الشقيق مزايا عديدة اقتصادية وموقعا مهما فإن تعدد القوى السياسية والتوجهات الأيديولوجية وما يرتبط بها من مصالح سياسية واقتصادية للقوى ذات المصالح من داخل السودان والدول المجاورة له يؤثر في الواقع على مواقف الأطراف المختلفة من المشكلات التي تواجهها السودان وعلى موقف المنظمات التي يمكنها القيام بدور إيجابي للبحث عن حلول أو محاولة القيام بذلك لأسباب متعددة، ويزداد الأمر تعقيدا في مثل حالة السودان وما يمكن وصفه بحالة التنافس العربي الإفريقي بين جامعة الدول العربية من ناحية وبين الاتحاد الإفريقي ومنظمة التعاون الاقتصادي لدول شرق إفريقيا (الإيجاد) من ناحية ثانية وهو أمر معروف منذ سنوات عديدة، فضلا عن رؤية القوى الدولية المؤثرة لمصالحها ولكيفية رؤيتها للتعامل مع المشكلة والظروف المحيطة بها ومواقف الإطراف الداخلية كذلك.

ويمكن القول أن البيئة المحيطة بالسودان في السنوات الأخيرة قد أسهمت، ولا تزال تسهم في تعقيد عدد غير قليل من قضايا السودان الداخلية والإقليمية والدولية، بما في ذلك استغلال موارده الاقتصادية والمعدنية الوفيرة والتي يسيطر حميدتي على جزء كبير منها من خلال شركة يسيطر عليها لاستغلال الذهب على سبيل المثال، ونتيجة لذلك كله تتواصل الحرب والمواجهات المسلحة في السودان وتم التعامل ببطء ملحوظ مع الحرب التي يمكن وصفها بالحرب «المنسية»، صحيح أنه حدثت محاولات محدودة للتوسط على استحياء من أجل التوصل إلى صيغة تسمح بالسير نحو حل ووقف الحرب وفي إطارها عقدت لقاءات في القاهرة والرياض وقطر وسعت الإيجاد لترتيب لقاء بين البرهان وحميدتي في جيبوتي قبل عدة أسابيع ولكن اللقاء لم يتم لأن حميدتي اعتذر لأسباب تنظيمية حسبما نقلت عنه الإيجاد وحملت الخرطوم الإيجاد المسؤولية لأنها كانت هي المنظمة للدعوة.

جدير بالذكر أن التدخلات الخارجية في السودان أدت إلى تفاقم واستمرار الحرب الأهلية، وسط سيل من الاتهامات والادعاءات المتبادلة حيث يحاول كل طرف إلقاء مسؤولية بدء الحرب واستمرارها على الطرف الآخر. وقد شهدت الآونة الأخيرة عدة تحركات في محاولة لتحريك جهود ومساعي الوساطة في الأزمة، وذلك بالتزامن مع المساعي المبذولة بشأن الحرب في غزة بين حماس وإسرائيل ومحاولة استغلال شهر رمضان المبارك للتوصل إلى هدنة ووقف مؤقت لإطلاق النار وإطلاق سراح المحتجزين .

وبالنسبة للوضع في السودان فإنه بالرغم من التدهور الشديد والمعاناة التي يعانيها السودانيون بسبب عدم الالتزام بقواعد القتال من جانب قوات الدعم السريع التي ارتكبت مخالفات عديدة منها الاعتداء على عدد من السفارات الأجنبية في الخرطوم واقتحامها والاعتداء على مؤسسات الدولة الاقتصادية ونهب عشرات البنوك، فإن من التحركات التي تبعث على التفاؤل ولو النسبي بالنسبة لجهود إحراز تقدم لتحقيق هدنة خلال شهر رمضان المبارك ما يلي: أصدر مجلس الأمن الدولي قرارا يوم 11 مارس الجاري دعا فيه إلى وقف إطلاق نار شامل في السودان وإلى أن تكون الهدنة خلال شهر رمضان. وقد رحبت قوات الدعم السريع وكذلك مجلس السيادة السوداني بالقرار. ومع ذلك تحدثت الخارجية السودانية عن شروط لحل سياسي ينهي الحرب خلال شهر رمضان ومن أهمها ضرورة خروج قوات الدعم السريع من المؤسسات والمرافق الحيوية قبل أي هدنة رمضانية. حققت قوات الجيش السوداني تقدما مهما على الأرض وذلك باستعادتها السيطرة على مقر الإذاعة والتليفزيون في أم درمان يوم 12 مارس الجاري وبعدها تعهد البرهان «بمواصلة التقدم» وأكد أنه «إذا لم تنته الحرب لن تكون هناك عملية سياسية» وجاءت استعادة السيطرة على الإذاعة والتليفزيون بعد ميل ميزان القوة لصالح الجيش السوداني في الفترة الأخيرة، حيث تردد أن قوة خاصة أوكرانية تحارب إلى جانب الجيش السوداني منذ بضعة أسابيع وأن إحدى دول المنطقة المعنية بدعم نفوذها طلبت إنشاء قاعدة بحرية في السودان على البحر الأحمر مقابل إمداد السودان بطائرات مسيرة وبسفينة حربية تحمل طائرة هليوكوبتر ولكن الخرطوم لم توافق.

إن واشنطن التي تستشعر اهتمام طهران بالسودان وتوسيع العلاقات معها بعد زيارات متبادلة بينهما مؤخرا قامت بتعيين مبعوث أمريكي خاص للسودان هو «توم بيرييلو» في مارس الجاري وقد بدأ بجولة شملت عدة دول إفريقية كما بحث مع القوى المدنية السودانية إنهاء الحرب في السودان.

بينما قام عبد الله حمدوك رئيس وزراء السودان السابق بزيارة القاهرة يوم 8 مارس الجاري وقام البرهان بزيارة طرابلس بدعوة من الدبيبة رئيس حكومة الوحدة المعترف بها في ليبيا الذي أعلن مبادرة للسلام في السودان وذلك للمرة الأولى قامت وزيرة الدولة القطرية لولوة الخاطر بزيارة السودان يوم 10 مارس ومعها مساعدات قطرية وأكدت دعم قطر للسودان وأمنه واستقراره.

كما قام مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة السوداني بجولة في بعض الدول الإفريقية قبل أيام وأعلن خلالها مبادرة سلام ويعني ذلك استعدادا ورغبة من جانب البرهان في تحقيق السلام ولكن بعد استجابة قوات الدعم السريع لما طرحه الجيش من شرط تحقيق هدنة في رمضان.

إن مما يبعث على الأمل أن قوات الدعم السريع التي خسرت كثيرا من سمعتها بسبب ممارساتها العسكرية الميليشياوية وانتقاد الكثيرين لها أعلنت قبل أيام «استعدادها للقبول بأي تفاهم لوقف القتال» وذلك لحقن الدماء حسبما أعلنت، وذلك بعد استعادة الجيش لمقر الإذاعة والتليفزيون ومن شأن ذلك أن يسهم في تقريب المواقف وهو ما قد يفتح الطريق عمليا -إذا خلصت النوايا- أمام بحث تنفيذ قرار مجلس الأمن حول هدنة رمضان في السودان وهو ما سيستغرق وقتا غير قليل بالضرورة، ولكنه بات ضروريا لصالح الأشقاء والحد من معاناتهم التي استمرت عاما دون طائل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الجیش السودانی مارس الجاری فی السودان شهر رمضان من جانب

إقرأ أيضاً:

الجيش والمليشيات: لكن الدعم السريع وحش آخر

ملخص
(لا تستقيم المقارنة التي تنعقد في ذهن الناس بين ميليشيات مثل “أولاد قمري” و”الدعم السريع”. فآخرة كل ميليشيا عند مثلهم هي “الدعم السريع”. وهذا إبعاد في النجعة. فالدعم وحش مختلف. فلم يعد الدعم ميليشيا بعد صدور قانون تأسيسه من المجلس الوطني لدولة الإنقاذ خلال عام 2017. فجعله القانون جيشاً ثانياً أو “حرساً جمهورياً” في عبارة لمحمد حمدان دقلو، حميدتي، نفسه. فليس للجيش سلطان عليه إلا في حالات الطوارئ، في حين جعلوا قيادته لرئيس الجمهورية وهو الوحيد الذي يقرر دمجه في الجيش متى اتفق له. وانتهز حميدتي سانحة حلفه مع الجيش على الثورة وحكومتها (2019-2021) ليمسح من القانون حتى “شعرة المعاوية” التي ربطته بالجيش. فألغى المجلس العسكري المادة التي تخضعه للجيش في زمان الطوارئ، بل وسلطة رئيس الجمهورية في دمجه فيه. وعليه صار الدعم سيد نفسه. وصدقت كلمة للأكاديمي سلمان محمد سلمان قال فيها أن حميدي لم يسهر على أمر مثل سهره أن يعتزل الجيش وأن يعتزله الجيش).
تمكنت القوات المسلحة السودانية في الولاية الشمالية وخلال الأسبوع الأخير من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي من القضاء على حليفتها كتيبة “أولاد قمري” التي روعت سكان منطقة دنقلا، عاصمة الولاية، ومدينة الدبة التي تواتر ذكرها في أخبار السودان أخيراً. وفي إثر ذلك، أصدر الجيش قراراً لكتيبة حليفة أخرى هي “أولاد الشاذلي” (أو الأسود الحرة) في نفس المنطقة لتسليم السلاح والعربات التي بعهدتها لتفاقم شكوى المواطنين منها، وأن تختار بين الدخول في الجيش أو التسريح. فاختارت الدخول في الجيش.
وتثير هذه الشدة من القوات المسلحة مع جماعات مسلحة حليفة لها شبهات حامت حول سلامة خطتها في الاستعانة بقوات صديقة ذات مناشئ جهوية أو قبلية أو سياسية. فتساءل كثر، ومن خصوم الجيش بالذات، إن كان بوسعه السيطرة عليها خلال وقت قد تقلب له ظهر المجن. ولم يكن من هذا التساؤل بد بالطبع، ورأى الناس لا خروج “الدعم السريع” التي رعرعها من يده فحسب، بل حربها الضروس له في يومنا أيضاً.
سنعود لهذه القضايا السياسية العالقة التي أثارها قضاء الجيش على كتيبتي “أولاد قمري” و”أولاد الشاذلي” بعد التعريف بهذه الجماعات.
“أولاد قمري”
كان أول ما أثار الانتباه في غير الولاية الشمالية لكتيبة “أولاد قمري” هو الهجوم الذي نفذته مجموعة مسلحة منها قبل أشهر قليلة على سجن دنقلا، وإخراج أحد المساجين المدانين بتجارة المخدرات.
يتزعم جماعة “أولاد قمري” شقيقان توأمان هما حسن وحسين يحيى محمد جمعة قمري. وهم من عرب البادية الذين أقاموا عند النيل مع الجماعات النوبية التاريخية في المنطقة. وتقوت الجماعة في تنظيمها وملكاتها العسكرية بانضمام مفصولين من الجيش والشرطة لها خلال “عهد الإنقاذ”، ولها سجل حافل في الجريمة منذ نشأتها خلال منتصف العقد الثاني من القرن الحالي، وكانت بدأت بتجارة الممنوعات والمخدرات ونشطت في التعدين الأهلي. وأشار تحقيق في مجلة “التغيير” (الـ26 من أكتوبر/تشرين الأول 2024) أن علي رزق الله (سافنا)، القائد الحالي بقوات “الدعم السريع”، انضم إليها قبل حرب أبريل (نيسان) 2023.
اتصلت الجماعة بالجهات الرسمية في الولاية الشمالية فتبنتها ورعتها وعرفت عندهم باسم “كتيبة الإصلاح الاستراتيجية”. وزودتهم بالعدة العتاد لتمشيط الصحراء ونقاط الارتكاز الخلوية شمال منطقة دنقلا. وكان ذلك استثماراً في معرفتهم بشعاب الصحراء لسد الثغور للقرى. وتعاونوا في هذه المهمة مع “الدعم السريع” قبل الحرب حين كانت لتلك القوات وظيفة تعقب الهجرة غير الشرعية بتكليف من الاتحاد الأوروبي وتمويله.
وشكا الناس من أن الكتيبة تعطل حركة التجارة عند ارتكازاتها، وأنها ارتكبت بحق الناس ما عرضها لبلاغات جنائية. فاصطدمت عام 2016 بجماعة من المعدنين في خلاء المنطقة من غير أبنائها صداماً خلف ضحايا، واحتج الناس عليها لخروقها حتى إنهم سيروا تظاهرة لوالي الولاية الشمالية يطلبون كف يدها عنهم.
بعد انضمام الكتيبة للقوات المسلحة في حربها ضد قوات “الدعم السريع” خلال الـ15 من أبريل 2023 واصلت حراسة المناطق الصحراوية الحدودية وصار اسمها “كتيبة الاستطلاع”، بل وشاركت فرقة منها في المعارك ضد “الدعم السريع” في ولاية كردفان. ومنحهم الجيش أرقاماً عسكرية رسمية ورواتب جعلتهم مؤسسياً خاضعين لقانون القوات المسلحة. ولم تمنعهم هذه المؤسسية من مواصلة انتهاكاتهم بحق المدنيين في مناطق نفوذهم مما حدا بالمواطنين للمطالبة للمرة الثانية أن تضع الحكومة حداً لنشاطهم.
تحت إمرة القيادة
وبلغ صيت الكتيبة السيئ الزبى مما وتر العلاقة بينها وبين الجيش. فطلبت لجنة أمن الولاية منها خلال أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي الاندماج في هيكل اللواء 75 مشاة في مدينة دنقلا، حاضرة الولاية. واستخدمت في ذلك أمراً صادراً من الفريق أول عبدالفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة، في منتصف هذا العام بوضع جميع القوات المساندة للجيش تحت إمرة القيادة العسكرية المباشرة، بهدف تعزيز الضبط والسيطرة على تلك التشكيلات شبه النظامية.
فتمردت الكتيبة ورفضت الانصياع للأمر، بل وضع حسين قمري رتبة عسكرية رفيعة ليست له على كتفه لاستفزاز الجيش، وتوعد بالتصدي بالقوة لمن أراد فرض أوامره عليهم. فالتحمت القوتان وتمكنت القوات المسلحة من السيطرة على القوة المتمردة، وأمهلت بقية أفرادها للتسليم خلال يومين انتهيا الإثنين الـ24 من نوفمبر الماضي. ولما لم يسلموا أنفسهم مشط الجيش المدينة وفتشها منزلاً منزلاً وضبط العناصر المتمردة ليعلن سيطرته الكاملة على الوضع.
وكان الأكاديمي أحمد أبو شوك فضل عرض واقعة “أولاد قمري” في مقالة مميزة على الوسائط من زاوية الدروس المستفادة منها، في ما اتصل باحتكار الدولة للسلاح. فحذر أبو شوك، على ضوء التجربة مع “أولاد قمري”، من سياسية الحكومة في توظيف الميليشيات لتحقيق هدف آني فتكبر الميليشيات مع الوقت وتتحول إلى خطر يهدد بقاء الدولة نفسها. ولم يكن من بد أن ينصرف ذهن أبو شوك إلى تجربة الدولة المميتة مع ميليشيات الجنجويد التي صارت قوات “الدعم السريع”. فالسلاح خارج الدولة، في قوله، متحول لا يمكن الركون إليه، وطالب بدمج هذه الميليشيات “في منظومة عسكرية وأمنية واحدة خاضعة لقيادة مركزية، أو بنزع سلاحها وتسريح أفرادها ضمن برامج رسمية. أما إبقاء تلك التشكيلات في حالة ’نصف شرعية‘ وكأنها قوات رديفة للجيش دون ضبط محكم فهو وصفة مؤكدة لإعادة إنتاج سيناريو ’الدعم السريع‘ بصيغ جديدة في المستقبل”.
وبدا لنا أن لواقعة “أولاد قمري” دلالات غير ما رشح لأبو شوك الذي يريد للجيش أن يرفع يده عن استخدام مثلهم، إلا أن يكونوا جنوداً مسميين فيه. وربما صحت دلالة الواقعة في ما وصفه أبو شوك بـ”ضبط التحكم” في علاقة الجيش مع الميليشيات، لا اشتراط أن تدخله فرادى مما يجعل ذلك الدخول تجنيداً معتاداً مما درجت عليه الجيوش المهنية. فمتى حرمنا على الجيش استخدام الميليشيات ضيقنا واسع الممكنات العسكرية واللوجيستية التي بوسعه استثمارها في حربه. فسنهدر هذه الإمكانات المبذولة إذا ما اشترطنا على الجيش ألا يتعامل مع أي كيان لا يقبل الحل فيه. فوجود هذه الكيانات خارج الجيش حقيقة كما نرى مما يستحق درس علم اجتماعها وسياساتها لا صرفها كمباءة خطر منتظر لا محالة. فالجيش مهما استكمل نصابه عدة وعتاداً وجنداً احتاج لإسعاف من قوى خارجه. فالجيش الأميركي في يومنا يتعاقد مع الشركات العسكرية لأداء 30 في المئة من المهام العسكرية التي يريد تنفيذها وبخاصة في المجال اللوجيستي والصيانة والخدمات. فرأينا الجيش يوظف “أولاد قمري” في حيز معرفتهم الفطرية كعرب بادية بأرضهم التي ينتظر منها عدواناً. وكانت نفس هذه الخبرة ما التمسه الجيش الأميركي من ميليشيات الولايات في حرب الاستقلال عن بريطانيا. ونقول في السودان “البلد بشقوها (أي تمشي في جنباتها) بولدها”.
الوضعية القانونية لـ”الدعم السريع”
ومن جهة أخرى، لا تستقيم المقارنة التي تنعقد في ذهن الناس بين ميليشيات مثل “أولاد قمري” و”الدعم السريع”. فآخرة كل ميليشيات عند مثلهم هي “الدعم السريع”. وهذا إبعاد في النجعة. فلم تعد “الدعم السريع” ميليشيات بعد صدور قانون تأسيسها من المجلس الوطني لدولة الإنقاذ خلال عام 2017.
بدأ مبدأ الدعم بالفعل على صورة ميليشيات استعانت بها الدولة السودانية لملاحقة وقمع خصومها تاريخياً ومع قيام جيشها الحديث. فاستعان الجيش في نظام الفريق عبود (1958 – 1964) بميليشيات من شعب المورلي الجنوبي لقتال حركة “أنيانيا” القومية الجنوبية التي خرجت عليه. ووظف نظام جعفر نميري (1969 – 1985) “أنيانيا 2” التي أعقبت الأولى لحرب “الحركة الشعبية لتحرير السودان” وأول ظهورها عام 1983. واستعان نظام الإمام الصادق المهدي (1986 – 1989) بقوات عرفت بـ”المراحيل” من شعب المسيرية جنوب كردفان لمواصلة الحرب ضد “الحركة الشعبية”.
أما “الدعم السريع” فوحش مختلف، فقانون تأسيسه جعله جيشاً ثانياً أو “حرساً جمهورياً” في عبارة لمحمد حمدان دقلو نفسه. فليس للجيش سلطان عليه إلا في حالات الطوارئ، فجعلوا قيادته لرئيس الجمهورية وهو الوحيد الذي يقرر دمجه في الجيش متى اتفق له. وكل الدلائل تشير إلى أن تمتع “الدعم السريع” بالاستقلال عن الجيش، كما رأينا، هو ما أراده “حميدتي” له في مناقشات مع الرئيس السابق البشير قيل إنها امتدت عاماً كانت “الدعم السريع” فيها سيدة الميدان العسكري. وليس أدل على ذلك من إجابته عن أسئلة طرحها عليه الطاهر حسن التوم من القناة س 24 بعد صدور القانون.
الطاهر: ما مصير “الدعم السريع” بعد انتهاء مهمتها هل تكون جزءاً من الجيش؟
حميدتي: يكون وضعها قوات دعم سريع، تتدرب وتتأهل، هي قوات الآن.
الطاهر: يعني تظل موجودة؟
حميدتي: يعني انتهت المهمة يشيلوها يجدعوها واللا كيف؟
الطاهر: تنضم إلى الجيش.
حميدتي: هي جيش.
الطاهر: تدمج.
حميدتي: هي ليست ميليشيات كي تدمج، هي أصلها قوات.
ولم تقتصر عملية تحول “الدعم السريع” إلى جيش ثانٍ على فترة “الإنقاذ”. فحرص حميدتي خلال الفترة الانتقالية الثورية أن يستكمل استقلال جيشه بتعديلين للقانون. أولهما رفع عنه ما تبقى للجيش عليه من سلطان وهو خضوعه له في أزمنة الطوارئ. أما التعديل الثاني فنزع من رئيس الجمهورية، قائده، سلطة أن يدمجه في الجيش. فاكتملت “الدعم السريع” جيشاً في حد ذاته. وصدق سلمان محمد سلمان في كتاب نادر عن “الدعم السريع” في قوله إن “حميدتي لم يسهر على شيء مثل سهره على استقلال جيشه عن القوات المسلحة”.
وبعبارة، فإن “الدعم السريع” التي انقلبت على الجيش ليست بميليشيات. إنها وحش آخر. فإذا خشينا من أن تتحول مثل ميليشيات “أولاد قمري” إلى “دعم سريع”، فالأهدى ألا نجعلها جيشاً ثانياً، لا أن نحرم قيامها البتة في حين أن مثلها من حقائق مجتمع في وعثاء بناء الأمة الدولة. وواقعة الجيش مع “أولاد قمري” من “ضبط التحكم” الذي زكاه أبو شوك للجيش للجم الميليشيات التي وظفها لغرضه. ربما تلكَّأ الجيش في هذا الضبط والناس تجأر من الميليشيات. جاء متأخراً نوعاً ما، ونعم أن جاء.
عبد الله علي ابراهيم
عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

Promotion Content

أعشاب ونباتات           رجيم وأنظمة غذائية            لحوم وأسماك

2025/12/10 فيسبوك ‫X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة آلهة “تقدم” تعاقبنا بحمل صخرة الكيزان صعوداً وهبوطاً إلى قيام الساعة2025/12/10 كانت الحلويات المتاحة في الدكاكين كلها تعود الى العصر الحجري2025/12/10 (المعلومة والجيوسياسية)2025/12/10 هجليج بين حدثين2025/12/10 جيران السودان ما عدا دولتين هما أسوا جيران جٌبلوا على الغدر ونقض المواثيق2025/12/10 كوزنة المقاومة تكنيك ناجح في خدمة الغزاة2025/12/09شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات السودان واستراتيجية ترمب للأمن القومي 2025/12/09

الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن

مقالات مشابهة

  • بريطانيا تفرض عقوبات على قيادات قوات «الدعم السريع» في السودان
  • بسبب القتل في الفاشر.. بريطانيا تفرض عقوبات على قادة في الدعم السريع
  • بريطانيا تفرض عقوبات على 4 قادة في الدعم السريع بينهم شقيق حميدتي
  • بريطانيا تفرض عقوبات على قادة الدعم السريع بسبب عمليات قتل جماعي في السودان
  • المملكة المتحدة تفرض عقوبات على قيادات من "الدعم السريع" بالسودان
  • هل قتلت قوات الدعم السريع الصحفي السوداني معمر إبراهيم؟
  • تلغراف: هل يتحرك الغرب ضد الإمارات بعد مجزرة الفاشر؟
  • واشنطن تعاقب شبكة تجند مقاتلين كولومبيين للقتال مع الدعم السريع في السودان
  • اتهامات أمريكية للدعم السريع.. جرائم واعتداءات صادمة
  • الجيش والمليشيات: لكن الدعم السريع وحش آخر