«وَرَحْمَتى وَسِعَتْ كُلَّ شَىءٍ» إن المتأمل فى الآية الكريمة يجد أنها شاملة جامعة لكل جوانب الحياة، الرحمة التى جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليست مقصورة على رقة القلب فى المواقف الإنسانية، ولكنها تشمل العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب والأوامر والنواهى والقصص والمواعظ والأمثال. وما ذلك إلا لهداية البشر لما فيه خير لهم، وتصحيح المفاهيم، وبيان علاقة المخلوق بالخالق جل وعلا.

فتظهر الرحمة فى العبادات من خلال تيسرها أداء ووقتاً، وجعلها فى قدرة كل عبد«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»، فالعبادات قائمة على التيسر على قدر الاستطاعة دون تفريط، قال النبى صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، كما جعل الله سبحانه وتعالى عقب كل عبادة كبرى سنناً تجبر ما كان من تقصير أثناء القيام بها، فجعل للفريضة سنناً تعقبها، وجعل لرمضان ستة من شوال، وجعل للزكاة صدقات، فإذا نظرنا إلى جانب المعاملات وجدنا أنها قائمة على الحقوق والواجبات يصاحبها الرحمة، ولذلك لم يأمر الله عز وجل فى القرآن بالعدل فقط وإنما أمر بالعدل والإحسان، الذى يظهر فيه الرحمة فى أبهى صورها لأن كثيراً من المعاملات قائمة على الرحمة، كما فى معاملة الأبناء والآباء، والأزواج والزوجات، والجيران، والأصحاب، والأصهار، وصاحب العمل ومن تحت يديه. حتى فى معاملة الآخر نرى قمة الرحمة من النبى محمد صلى الله عليه وسلم إجباره اليهودى، وإذا نظرنا إلى الأخلاق فما وصل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى القلوب والعقول إلا بهذه الرحمة، وصدق ربنا سبحانه وتعالى «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ»، وتظهر الرحمة فى الأوامر والنواهى فمن أحبك دلك على كل خير ونهاك عن كل شر، ومن مظاهر الرحمة تصحيح المفاهيم المغلوطة التى زينها البعض فى نفوس الشباب كإطلاق البدعة على كل أمر لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم، فيبين لنا النبى صلى الله عليه وسلم روابطها فى قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وعلى العموم فإن بعثة النبى صلى الله عليه وسلم أصلها رحمة للبشرية كلها «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»، فالرحيم سبحانه أرسل لنا نبى الرحمة صلى الله عليه وسلم.

وإذا تأملنا القصص الوارد فى القرآن الكريم وجدنا أنه قمة الرحمة، حيث علمنا ربنا جلّ وعلا من خلال القرآن الكريم فى قصصه، والوارد فيه قصص الأنبياء جميعاً، قصة سيدنا موسى وعيسى ولوط ويونس، قصص الأنبياء جميعاً، الأمثال التى تعلمنا كيف نهتدى فى حياتنا، كيف نسير فى هذه الحياة، كيف نتعامل مع بعضنا البعض، كيف نعايش المِحن ونمر عليها ونتمسك عندها، وكيف نأخذ المنح الإلهية، كل ذلك ورد فى قصص القرآن الكريم، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى: «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»، فكأن ما ورد فى القصص هذا لا نقرأه على أنه سرد، وإنما هو رحمةٌ من الله جلّ وعلا، رأينا ذلك فى ضرب الأمثال، المثل يقرب الصورة إلى الأذهان، الله يقرب إلينا الصور الجميلة كصورة الجنة «مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى»، يضرب الله لنا الأمثلة فيما هو محبب إلى النفوس حتى نشتاق إليها وحتى نعمل لها وذلك رحمة من الله عز وجلّ.

ويضرب الله لنا الأمثال فى القرآن الكريم أيضاً لجزاء مَن عمل سيئة حتى نبتعد عنها ولا نقترفها، وذلك رحمة من الله عز وجلّ، فكأن الرحمة شاملة لكل مناحى الحياة، شاملة لكل أمر من أمور حياتنا، والذى طبق لنا ذلك عملياً على أرض الواقع هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، طبق لنا ذلك كله فى كل المجالات حتى تحقق فيه على أرض الواقع «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، فمن أراد جانباً من جوانب الرحمة ما عليه إلا أن يفتش فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، فى الجانب الذى يريده، سيجد موقفاً عملياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى جانب الرحمة، فى كل الجوانب تجد الرحمة لأن الله عز وجلّ أرسله رحمة، ليس إرسال الأنبياء إلا رحمات من الله عز وجلّ، وختم الرحمة بخير الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الرحمة النعمة التى أرسلها الله إلينا.. اسأل الله أن يرزقنا الرحمة فى الدنيا والآخرة.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: الرحمة اللين اليسر جوانب الحياة النبى صلى الله علیه وسلم محمد صلى الله علیه وسلم القرآن الکریم الله عز وجل الرحمة فى من الله أ ن ه ار

إقرأ أيضاً:

حكم الدعاء بقول: «اللهم بحق نبيك» .. يسري جبر يوضح

أكد الدكتور يسري جبر، من علماء الأزهر الشريف، أن الدعاء بقول الإنسان: «اللهم بحق نبيك محمد صلى الله عليه وسلم» دعاءٌ جائزٌ شرعًا ولا حرج فيه، موضحًا أن الاعتراض على هذه الصيغة نابع من فهمٍ قاصر لمقامات الأنبياء، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمعنى “الحق” عند الله سبحانه وتعالى. 

وأوضح الدكتور يسري جبر، خلال لقاء تلفزيوني اليوم، أن النبي صلى الله عليه وسلم له حقٌّ عند مولاه، وهو حق الشفاعة، وحق القبول، وحق الجاه العظيم الذي أكرمه الله به، مشددًا على أن هذا الحق ليس من باب الوجوب العقلي على الله تعالى، فالله سبحانه لا يجب عليه شيء عقلًا، وإنما هو حق تفضلٍ وإحسانٍ أوجبه الله على نفسه كرامةً لنبيه، كما أوجب على نفسه إجابة دعاء المؤمنين بقوله: «ادعوني أستجب لكم»، فإذا كان هذا الوعد عامًا للمؤمنين، فما بالك بالصالحين، ثم الأولياء، ثم العلماء، ثم الأنبياء، ثم الرسل، ثم برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خصه الله بالشفاعة العظمى يوم القيامة حين يقول جميع الأنبياء: «نفسي نفسي»، ويقول هو وحده: «أنا لها».

أكاديمية الأزهر تختتم برنامج “إعداد الداعية المعاصر" بمشاركة ست دولٍ عربية وآسيوية وأفريقيةمدير عام الجامع الأزهر يتفقد الدراسة بأروقة الصعيدأحكام الطهارة والوضوء في أوقات البرد الشديد .. مركز الأزهر العالمي يكشف عنهاقافلة جامعة الأزهر بالواحات البحرية تقدم خدمات طبية وتنموية شاملة وإشادة بالجهود

وأشار عالم الأزهر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه علّم الأمة هذا المعنى، مستشهدًا بما رواه ابن ماجه في دعاء الذهاب إلى المسجد، حيث قال النبي: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق محمد عليك»، موضحًا أن النبي سأل الله بحقه على الله، وهو دليل صريح على جواز هذا الأسلوب في الدعاء، وأن له حق الشفاعة والقبول والنصرة والرعاية والعناية.

وبيّن الدكتور يسري جبر أن من الأدعية النبوية الثابتة قوله صلى الله عليه وسلم: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»، موضحًا أن الاستغاثة هنا بالرحمة، والرحمة التي أرسلها الله إلى العالمين هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين»، فالنبي هو الرحمة المتعينة في الأكوان، وهو المظهر الأعظم لرحمة الله في الخلق، ولذلك كان من المشروع استحضار هذا المعنى عند الدعاء.

وأضاف أن رحمة الله التي وسعت كل شيء قد جعل الله لها تجليات في الخلق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم هذه التجليات، وهو الرحمة المهداة، مشيرًا إلى أن أهل العلم والذوق تكلموا عن هذا المعنى عبر القرون، ومنهم الإمام الجزولي في «دلائل الخيرات» حين عبّر عن النبي بأنه رحمة الله المتعينة في العالمين.

وأكد الدكتور يسري جبر أن القول بأن النبي ليس له حق عند الله قولٌ باطل، بدليل ما ثبت في الصحيح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال: «هل تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟»، فبيّن أن للعباد حقًا على الله إذا وفوا بما أمرهم به، فإذا كان هذا حقًّا لعامة المؤمنين، فكيف يُنكر أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو إمام المرسلين وسيد ولد آدم – حقٌّ أعظم وأجل عند ربه.

وأكد على أن على المسلم ألا يلتفت إلى اعتراضات الجهلة، وأن يرجع في دينه إلى النصوص الشرعية وفهم أهل العلم، وأن يعرف مقام النبي صلى الله عليه وسلم حق المعرفة، فتعظيمه وتعظيم جاهه ومكانته من تعظيم الله، والنصوص الصحيحة دالة على جواز التوسل والدعاء بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والله تعالى أعلم.

طباعة شارك يسري جبر الأزهر الشريف حكم الدعاء ب«اللهم بحق نبيك»

مقالات مشابهة

  • د.حماد عبدالله يكتب: مصر والمصريون !!
  • حوار الوفد مع الدكتور مبروك عطية عن ما لايذكرمن السيرة المطهرة وسبب ذلك
  • حكم الدعاء بقول: «اللهم بحق نبيك» .. يسري جبر يوضح
  • هل حرم الإسلام التعصب بكل أشكاله وصوره
  • حكم الدين في عدم الإنجاب.. أزهري: الشخص الذي يرفض النعمة عليه الذهاب لطبيب نفسي
  • هل يستجاب الدعاء وقت نزول الأمطار؟.. الإفتاء تجيب
  • في ليلة الجمعة.. صيغ الصلاة على النبي ﷺ
  • حـفظ المـال
  • خطأ شائع في الصلاة على النبي .. اكتبها صح: «اللهم صلِّ» وليس «صلي»
  • الرسول وحب من طرف واحد بين صحابي وصحابية!!