متهم في قضايا تجسس واختطاف وتعذيب .. لماذا ترفض إسرائيل تسليم قاض مكسيكي ليحاكم في بلاده؟
تاريخ النشر: 6th, April 2024 GMT
سرايا - أكد الباحث جان بيير فيلو أستاذ علم السياسة بجامعات فرنسا، في مقال له بصحيفة لوموند (Le Monde)، أن إسرائيل ما تزال مصرّة على رفض تسليم قاض مكسيكي سابق متورط في استخدام برنامج التجسس بيغاسوس ضد معارضين، وفي فضيحة اختطاف واختفاء 43 طالبا مكسيكيا عام 2014.
وأكد فيلو أن المكسيك طالبت عبر الإنتربول إسرائيل بتسليمها القاضي السابق توماس زيرون الذي سبق له أن فرّ إلى كندا ومن ثم إلى إسرائيل، لكن تل أبيب ترفض تسليمه.
وبحسب الكاتب، فإن المدّعي العام المكسيكي السابق خيسوس موريلو كرم -المعتقل حاليا- هو من عيّن القاضي زيرون على رأس وكالة التحقيقات الجنائية في 2014، وبعدها مباشرة استخدم زيرون برنامج بيغاسوس الإسرائيلي للتجسس على نحو 15 ألف مواطن مكسيكي.
مأساة جماعية
ووفق الكاتب، فقد تزامن تعيين زيرون مع وقوع مأساة جماعية هزت المكسيك، تمثلت في اختفاء 43 طالبا تتراوح أعمارهم بين 17 و21 عاما، كانوا قد تجمهروا للتظاهر وجمع الأموال لفائدة مؤسستهم المعروفة بانتقاد الحكومة.
وهاجمت الشرطة المحلية الطلبة أثناء احتجاجهم، مدعومة بعناصر من عصابة المقاتلين المتحدين (غيهيروس أونيدوس)، وأسفر الهجوم عن مقتل 6 طلاب، ثم اقتاد عناصر الشرطة الطلبة الباقين إلى جهة مجهولة بمساعدة رجال العصابة -كما أكد شهود عيان- وانقطعت أخبارهم منذ ذلك الوقت.
وحرص زيرون وقتها على ترويج رواية تقول إن نتائج تحقيقات الوكالة التي يرأسها توصلت إلى أن عناصر شرطة فاسدين سلموا الطلبة المختطفين إلى عصابة مخدرات قتلتهم، بعدما اعتقدت أنهم من عناصر عصابة منافسة.
ويقول الباحث السياسي الفرنسي جان بيير فيلو إن كل من كان ينتقد أو يشكك في الرواية الرسمية التي روّج لها زيرون، كان يُستهدف ببرنامج التجسس الإسرائيلي، سواء تعلق الأمر بأهالي الضحايا أو بالصحفيين والناشطين الحقوقيين.
وكشف فيلو أن التجسس طال أيضا الخبراء الأجانب، وهو ما جلب انتقادات واسعة للسلطات المكسيكية وقتها، وخاصة لرئيس وكالة التحقيقات الجنائية زيرون، الذي غادر منصبه بعد الفضيحة الدولية وألحق بديوان الرئيس بينيا نييتو الذي ضمن له ألا يتعرض للمحاسبة.
ومع مجيء أندريه مانويل لوبيز أوبرادور رئيسا للمكسيك في 2018، هرب القاضي زيرون إلى كندا، وبعدها إلى إسرائيل التي طلب فيها اللجوء السياسي، إثر تقديم مذكرة توقيف دولية في حقه بتهم من بينها إخفاء الأدلة وتعديل مسرح الجريمة والتعذيب والإخفاء القسري.
وثبت للمحققين أن تعاونا وثيقا حصل بين عسكريين وبين عصابات تهريب مخدرات تسبب في حدوث مأساة الطلبة المختفين، حيث عُثر على بقايا أحد الضحايا، وهو ما نسف رواية زيرون.
وفي أغسطس/آب، اعتقلت السلطات المكسيكية عشرات المسؤولين في الجيش والشرطة، وذلك بعد ساعات من اعتقال النائب العام السابق للبلاد خيسوس موريلو كرم، الرئيس المباشر لتوماس زيرون.
فلسطين
ونقل الباحث فيلو عن نيويورك تايمز الأميركية قولها إن رفض إسرائيل تسليم زيرون سببه غضبها من تأييد المكسيك للجنة التحقيق الأممية حول العنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتصويتها لفائدة إحالة قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية إلى محكمة العدل الدولية.
وأكد أن أُسَر الضحايا نددت بالرفض الإسرائيلي، واتهمت إسرائيل بحماية توماس زيرون المتورط في انتهاكات لحقوق الإنسان وتعذيب معتقلين.
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
إقرأ أيضاً:
مأساة غزّة ليست مجازًا.. والإنسان أولًا
«الإنسانُ أَشكَلَ عليهِ الإنسان» ضمنها التوحيدي في المقابسات سنة 380هـ، لكن دون أن يدرك أن هذا الاستشكال سيتحوّل بعد قرونٍ إلى عمًى منهجي يسيطر على ضمير أمة كاملة. فأحد أكثر تجلّيات هذا العمى فداحة هو ما يتكشّف لنا اليوم في تمثّلاتنا لغزّة؛ إذ نعيشها في تماهٍ من الظلمة حين نشاركهم خذلان إنسانها، وإن كان ذلك في مجازٍ مُهدم الأركان، نتعلّق به تعويضًا عن الفعل، وتعيش أوزانه خللًا دفينًا يختزل المأساة في الشعار، و«القضية» في الوعد. فعندما يواجه الوعي العربي آلامه فإنه يتمسّك بالفكرة بوصفها رمزًا مستقِرًّا أكثر من تمسّكه بإنسانها الحي. إنه يتعلّق بالعنوان لا بالاسم، وبالخريطة لا بالصباح الحر. وهنا يغيب عنه جوهر العدالة التي حتماً تُقاس بقدرتها على لمس اليومي، وعلى منح فرصة في الحصول على الخبز الحلال. والحقيقة أن الغائب فينا ليس التعاطف، بل حقيقة الإنسان في غزة. إنه يتلقى الضربات منفردًا، ويعيش الكارثة مثل جملة يتيمة قرر كاتبها أن يختتم بها سطره. كما أننا لا نعرف في إنسان غزّة إلا رقمًا يُدرج في جدول الشهداء. وفي ظل هذا الغياب نكفّ عن رؤية المأساة كما هي، ونُحيلها إلى توصيف أبكم يتجنّب ألم التورط في الحقيقة. فغزّة لا تفهم فينا إلا باعتبارها حالة (بروميثية) لا تهدأ حتى ننسى، بل تشتعل في فضاء يُعاد فيه تشكيل العلاقة بين القوة والحياة، وتتقاطع فيه البُنى الشرسة للحرب مقيمة حضورها المحكم للحصار، لتحول الجغرافيا هناك، بل وفينا إلى سجن مفتوح تغدو فيه الحياة اليومية اختبارًا دائمًا للنجاة. وكل هذا ليس مهماً، بل الأهم هو كيف نرى مآسينا وهي تُحرج ذواتنا وتقهر وعينا. ومع هذا نوفر لهشاشتنا الاستفادة المثلى من الموت في غزة مع ضمائر مشبعة بالتأييد لا التفكير؛ فالذي يجري على أرض كنعان هو نتاج دقيق لسياسة تدمير بطيء لا تستهدف الجدران وحدها، وإنما تفرغ مفردات البقاء من معناها؛ فيتحوّل الخبز إلى أمنية، وقطرة الماء إلى أداة إذلال، والطفولة إلى نص معطوب في بيان عسكري لا يكتبه الشعراء. ومن هنا فإن ما وثّقته الأمم المتحدة منذ نهاية مايو 2025م حول المفزعة بقتل ما لا يقل عن 798 مدنيًا أثناء محاولتهم الوصول إلى مساعدات غذائية لا يُقرأ كحدث مأساوي فحسب، بل هو علامة على تحوّل الجوع من مظهرٍ للفقر إلى ميدانٍ حاشد بالعزاء. وما جرى في 11 يوليو من مذبحة طالت 66 فلسطينيًا في شمال القطاع يتجاور مع قصف مماثل في الجنوب أودى بحياة 22 مدنيًا بينهم ستة أطفال؛ إذ أُزيل الفارق تمامًا بين المأوى والمعسكر، وبين الجندي واللاجئ، بل وبين القانون والذخيرة. كل هذا في مشهد يُعاد فيه صناعة صورة من الخوف المؤجل نهرع إليها كلما مسّنا وخز الضمير، ثم نعود نصرخ أننا ظلمنا.
ومع اتساع هذا التراكم لا تعود الهشاشة مجرّد عرضٍ طارئ، بل تتكشّف كبنية تُدار، وتُنتَج، وتُعاد صياغتها يوميًا داخل المنظومة الدولية التي تنتزع من الضحية حتى حقّها في الألم. فغزّة لا تُقاس بعدد الشهداء، بل بما يُغلَق من أبواب حولها، وباتساع الفجوة بين الصراخ والقدرة على الفعل. وتلك الفجوة لا تُفسَّر بغياب الوسائل، بل بغياب الإرادة؛ إذ تتباين المواقف بقدر تباين المصالح، ويُقاس الألم بموازين السياسة لا بمعايير العدل. فالاتحاد الأوروبي لا يملك سوى التصريحات المترددة، فيما تواصل الأمم المتحدة عدّ القتلى بلغة بيروقراطية لا تفضي أبدًا إلى حماية القطاع. ووسط هذا تستمرّ الولايات المتحدة في تقديم دعمها بصمتٍ ثقيل يمنح شرعية مموّهة يتوارى خلف خطاب الردع، ويتجمّل بمنطق المصالح. وهكذا؛ لا تواجه غزّة آلة قتل فحسب، بل تُطوَّق بسردية تنتزع من الضحية صوتها، وتحوّل الجريمة إلى ضرورة أمنية، لتُختزل المأساة في جداول حسابية، ويتحوّل الألم إلى فقرة في تقرير جافّ. وفي هذه المساحة الرمادية حيث يتقاطع الضجيج الإعلامي مع انعدام الفعل؛ تتشكّل هشاشة لا تنبع من ضعفٍ داخلي، بل من غياب العدالة في عالمٍ لا يرى في قتل الإنسان ما يستدعي الحزم. ولذلك؛ فإن ما يحدث ليس قصفًا لجغرافيا، ولكنه نزعٌ تدريجي لحقّ الوجود، وانهيارٌ لما تبقّى من القدرة الإنسانية على مواجهة نفسها دون أن تعترف بفشلها.
إنه لمن الواضح أننا أمام انسداد سياسي عربيّ وعالميّ؛ حيث تُستنزف المبادرات الدبلوماسية داخل دائرة تفاوضية مفرغة لا تقوم بشيء سوى إعادة إنتاج العجز، والتواري عن مواجهة الأزمة. ومع هذا الانسداد تنبثق مبادرات شعبية دولية تعيد تعريف الفعل المقاوم، ومن أبرزها أسطول الحرية الذي أبحر من ميناء سيراكيوز (مدينة ساحلية في إيطاليا) باتجاه غزّة على متن السفينة حنظلة، في فعل ندرك سلفا أنه سيُواجَه بتعنّت الكيان، لكنه يظل علامة رمزية تُحرج ضمير العالم الذي يُوصَف بـ«الحر». ويأتي هذا بعد اعتراض سفينة مدلين (Madleen) في وقتٍ سابق. وما تكرار هذه المحاولات إلا رهانٌ صريح على فضح الحصار، وتثبيت صورته الإجرامية. غير أن هذا الجهد الإنساني المقاوِم يصطدم بجدار أشدّ من الحصار ذاته: جدار المصالح الغربية؛ حيث يعيش الضمير الأوروبي والأمريكي أزمة مزدوجة بين ما يُعلنه من قيم، وما يُطبّقه من سياسات. ومع أن الحكومات تتواطأ بالصمت أو التصريحات الغامضة؛ فإن الجامعات والمؤسسات الشعبية في الولايات المتحدة تشهد انتفاضات متتالية عبّر عنها طلبة وأكاديميون ومثقفون في رفض صريح للانحياز الرسمي. وهو ما عبّر عنه المفكر الأمريكي البارز نعوم تشومسكي حين أشار إلى أن الولايات المتحدة لا تدعم إسرائيل على الرغم من سياساتها الوحشية، بل بدافعٍ من هذه السياسات ذاتها. فعندما تقصف الطائرات الإسرائيلية أهدافًا مدنية فإن ما ينفجر عمليًا هو طائرة أمريكية يقودها إسرائيلي؛ دعمٌ حاسم ومباشر لا يختبئ وراء المجاز، بل يُجسّد مشاركة فعلية في الجريمة.
إن هذا الحصار -الذي لا يتوقف عن التحوّل من إجراء سياسي إلى واقع يومي- يواصل تفكيك شروط الحياة قطعةً قطعة، حتى ليغدو الجسد نفسه عرضةً للاختناق الرمزي قبل أن ينهار فعليًا. ومع تراجع إمدادات الوقود واستمرار القيود بات شلل المستشفيات في غزّة خطرًا وشيكًا لا تشير إليه التقارير الإعلامية فقط، بل تؤكده تقارير صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)؛ حيث وصفه باحثون فرنسيون في قضايا المياه والصحة العامة بأنه ليس أزمة تقليدية، بل «أزمة مصنوعة سياسيًا»، مشيرين إلى أن «الإنكار بات سياسة قائمة بذاتها، وأن المشكلة يمكن حلّها خلال يومٍ واحد فقط إذا توفّر الوقود». هكذا لم يعد الماء يُستهلك كما يُستهلك الهواء، بل تحوّل إلى أداة هيمنة تُقاس بها درجات البقاء والإذلال، وتُدار بها الحياة من تحت، وتُعاد عبرها صياغة السيادة اليومية في أدق تفاصيلها. وهذا التحوّل من المادي إلى الرمزي لا ينفصل عن المشهد التفاوضي الذي يُعاد إنتاجه كصورة أخرى من الحصار؛ إذ تُعقَد منذ مايو محادثات غير مباشرة برعاية أمريكية وقطرية في محاولة لإحياء هدنة شاملة، لكن اشتراط حركة حماس انسحاب الجيش الإسرائيلي، وضمان إدخال المساعدات يُواجَه برفض قاطع، ما يجعل العملية التفاوضية محكومة منذ بدايتها بميزان القوة لا بمقتضى العدالة. وإذا كان ثمة خيطٌ يجمع كل هذه الفصول المتناثرة من المأساة؛ فهو أن ما يجري في غزّة ليس حالة إنسانية طارئة، وإنما نموذج مكتمل لهشاشةٍ مُنتَجة عمدًا؛ حيث تتحوّل العدالة إلى توازن مشروط، وتُفرَغ الكلمات من فاعليتها أمام وقائع لا تُدار بالضمير. ففي غزّة الآن يتحوّل الخبز إلى هدف عسكري، والماء إلى مشهدٍ للعقاب، والطفل إلى ضحيةٍ قابلة للإحصاء.
إن ما يزيد هذه الهشاشة فتكًا أننا نغفل عن العطب الكامن في الوعي الإنساني الراهن؛ ففي أصواتنا التي تتألم لهذه المأساة لا نملك سوى الاستثمار في المجاز لا الفعل. إنه مجازٌ يتحدّث عن حماية المدنيين، لكنه ينتهي إلى بلاغة مقنعة تعفي الفاعل من التورط في المسؤولية. والحقيقة التي لا مفرّ من التصريح بها أن الإنسانية قد تخلّت عن غزّة، ولم يبقَ أمام ضمير العالم إلا أن يعترف بأن غزّة تُحاكمه، وتعرّي هشاشة وعيه. أما نحن العرب فإن لم تتغير بنية الوعي، وإن لم ترتفع قيمة الإنسان في سُلّم القيم السياسية؛ فإن المذبحة ستظل طقسًا سنويًا نحوم حوله بالرقص على جثث الموتى حاملين كلماتنا الجاهزة في موسم عزاء غير مقدّس. ولعل من المفارقة أن مسكويه في القرن الخامس الهجري قد فهم ما لا يزال عصيًّا على وعينا الحديث حين كتب: «الفضائل تتعلّق بالنفس الإنسانية من حيث هي إنسان، لا من حيث هو ابن قبيلة أو طائفة». وما بيننا وبينه أكثر من تسعة قرون، لكن الهوّة الأخلاقية تبدو أوسع من الزمن.
غسان علي عثمان كاتب سوداني