مأساة غزّة ليست مجازًا.. والإنسان أولًا
تاريخ النشر: 12th, July 2025 GMT
«الإنسانُ أَشكَلَ عليهِ الإنسان» ضمنها التوحيدي في المقابسات سنة 380هـ، لكن دون أن يدرك أن هذا الاستشكال سيتحوّل بعد قرونٍ إلى عمًى منهجي يسيطر على ضمير أمة كاملة. فأحد أكثر تجلّيات هذا العمى فداحة هو ما يتكشّف لنا اليوم في تمثّلاتنا لغزّة؛ إذ نعيشها في تماهٍ من الظلمة حين نشاركهم خذلان إنسانها، وإن كان ذلك في مجازٍ مُهدم الأركان، نتعلّق به تعويضًا عن الفعل، وتعيش أوزانه خللًا دفينًا يختزل المأساة في الشعار، و«القضية» في الوعد.
ومع اتساع هذا التراكم لا تعود الهشاشة مجرّد عرضٍ طارئ، بل تتكشّف كبنية تُدار، وتُنتَج، وتُعاد صياغتها يوميًا داخل المنظومة الدولية التي تنتزع من الضحية حتى حقّها في الألم. فغزّة لا تُقاس بعدد الشهداء، بل بما يُغلَق من أبواب حولها، وباتساع الفجوة بين الصراخ والقدرة على الفعل. وتلك الفجوة لا تُفسَّر بغياب الوسائل، بل بغياب الإرادة؛ إذ تتباين المواقف بقدر تباين المصالح، ويُقاس الألم بموازين السياسة لا بمعايير العدل. فالاتحاد الأوروبي لا يملك سوى التصريحات المترددة، فيما تواصل الأمم المتحدة عدّ القتلى بلغة بيروقراطية لا تفضي أبدًا إلى حماية القطاع. ووسط هذا تستمرّ الولايات المتحدة في تقديم دعمها بصمتٍ ثقيل يمنح شرعية مموّهة يتوارى خلف خطاب الردع، ويتجمّل بمنطق المصالح. وهكذا؛ لا تواجه غزّة آلة قتل فحسب، بل تُطوَّق بسردية تنتزع من الضحية صوتها، وتحوّل الجريمة إلى ضرورة أمنية، لتُختزل المأساة في جداول حسابية، ويتحوّل الألم إلى فقرة في تقرير جافّ. وفي هذه المساحة الرمادية حيث يتقاطع الضجيج الإعلامي مع انعدام الفعل؛ تتشكّل هشاشة لا تنبع من ضعفٍ داخلي، بل من غياب العدالة في عالمٍ لا يرى في قتل الإنسان ما يستدعي الحزم. ولذلك؛ فإن ما يحدث ليس قصفًا لجغرافيا، ولكنه نزعٌ تدريجي لحقّ الوجود، وانهيارٌ لما تبقّى من القدرة الإنسانية على مواجهة نفسها دون أن تعترف بفشلها.
إنه لمن الواضح أننا أمام انسداد سياسي عربيّ وعالميّ؛ حيث تُستنزف المبادرات الدبلوماسية داخل دائرة تفاوضية مفرغة لا تقوم بشيء سوى إعادة إنتاج العجز، والتواري عن مواجهة الأزمة. ومع هذا الانسداد تنبثق مبادرات شعبية دولية تعيد تعريف الفعل المقاوم، ومن أبرزها أسطول الحرية الذي أبحر من ميناء سيراكيوز (مدينة ساحلية في إيطاليا) باتجاه غزّة على متن السفينة حنظلة، في فعل ندرك سلفا أنه سيُواجَه بتعنّت الكيان، لكنه يظل علامة رمزية تُحرج ضمير العالم الذي يُوصَف بـ«الحر». ويأتي هذا بعد اعتراض سفينة مدلين (Madleen) في وقتٍ سابق. وما تكرار هذه المحاولات إلا رهانٌ صريح على فضح الحصار، وتثبيت صورته الإجرامية. غير أن هذا الجهد الإنساني المقاوِم يصطدم بجدار أشدّ من الحصار ذاته: جدار المصالح الغربية؛ حيث يعيش الضمير الأوروبي والأمريكي أزمة مزدوجة بين ما يُعلنه من قيم، وما يُطبّقه من سياسات. ومع أن الحكومات تتواطأ بالصمت أو التصريحات الغامضة؛ فإن الجامعات والمؤسسات الشعبية في الولايات المتحدة تشهد انتفاضات متتالية عبّر عنها طلبة وأكاديميون ومثقفون في رفض صريح للانحياز الرسمي. وهو ما عبّر عنه المفكر الأمريكي البارز نعوم تشومسكي حين أشار إلى أن الولايات المتحدة لا تدعم إسرائيل على الرغم من سياساتها الوحشية، بل بدافعٍ من هذه السياسات ذاتها. فعندما تقصف الطائرات الإسرائيلية أهدافًا مدنية فإن ما ينفجر عمليًا هو طائرة أمريكية يقودها إسرائيلي؛ دعمٌ حاسم ومباشر لا يختبئ وراء المجاز، بل يُجسّد مشاركة فعلية في الجريمة.
إن هذا الحصار -الذي لا يتوقف عن التحوّل من إجراء سياسي إلى واقع يومي- يواصل تفكيك شروط الحياة قطعةً قطعة، حتى ليغدو الجسد نفسه عرضةً للاختناق الرمزي قبل أن ينهار فعليًا. ومع تراجع إمدادات الوقود واستمرار القيود بات شلل المستشفيات في غزّة خطرًا وشيكًا لا تشير إليه التقارير الإعلامية فقط، بل تؤكده تقارير صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)؛ حيث وصفه باحثون فرنسيون في قضايا المياه والصحة العامة بأنه ليس أزمة تقليدية، بل «أزمة مصنوعة سياسيًا»، مشيرين إلى أن «الإنكار بات سياسة قائمة بذاتها، وأن المشكلة يمكن حلّها خلال يومٍ واحد فقط إذا توفّر الوقود». هكذا لم يعد الماء يُستهلك كما يُستهلك الهواء، بل تحوّل إلى أداة هيمنة تُقاس بها درجات البقاء والإذلال، وتُدار بها الحياة من تحت، وتُعاد عبرها صياغة السيادة اليومية في أدق تفاصيلها. وهذا التحوّل من المادي إلى الرمزي لا ينفصل عن المشهد التفاوضي الذي يُعاد إنتاجه كصورة أخرى من الحصار؛ إذ تُعقَد منذ مايو محادثات غير مباشرة برعاية أمريكية وقطرية في محاولة لإحياء هدنة شاملة، لكن اشتراط حركة حماس انسحاب الجيش الإسرائيلي، وضمان إدخال المساعدات يُواجَه برفض قاطع، ما يجعل العملية التفاوضية محكومة منذ بدايتها بميزان القوة لا بمقتضى العدالة. وإذا كان ثمة خيطٌ يجمع كل هذه الفصول المتناثرة من المأساة؛ فهو أن ما يجري في غزّة ليس حالة إنسانية طارئة، وإنما نموذج مكتمل لهشاشةٍ مُنتَجة عمدًا؛ حيث تتحوّل العدالة إلى توازن مشروط، وتُفرَغ الكلمات من فاعليتها أمام وقائع لا تُدار بالضمير. ففي غزّة الآن يتحوّل الخبز إلى هدف عسكري، والماء إلى مشهدٍ للعقاب، والطفل إلى ضحيةٍ قابلة للإحصاء.
إن ما يزيد هذه الهشاشة فتكًا أننا نغفل عن العطب الكامن في الوعي الإنساني الراهن؛ ففي أصواتنا التي تتألم لهذه المأساة لا نملك سوى الاستثمار في المجاز لا الفعل. إنه مجازٌ يتحدّث عن حماية المدنيين، لكنه ينتهي إلى بلاغة مقنعة تعفي الفاعل من التورط في المسؤولية. والحقيقة التي لا مفرّ من التصريح بها أن الإنسانية قد تخلّت عن غزّة، ولم يبقَ أمام ضمير العالم إلا أن يعترف بأن غزّة تُحاكمه، وتعرّي هشاشة وعيه. أما نحن العرب فإن لم تتغير بنية الوعي، وإن لم ترتفع قيمة الإنسان في سُلّم القيم السياسية؛ فإن المذبحة ستظل طقسًا سنويًا نحوم حوله بالرقص على جثث الموتى حاملين كلماتنا الجاهزة في موسم عزاء غير مقدّس. ولعل من المفارقة أن مسكويه في القرن الخامس الهجري قد فهم ما لا يزال عصيًّا على وعينا الحديث حين كتب: «الفضائل تتعلّق بالنفس الإنسانية من حيث هي إنسان، لا من حيث هو ابن قبيلة أو طائفة». وما بيننا وبينه أكثر من تسعة قرون، لكن الهوّة الأخلاقية تبدو أوسع من الزمن.
غسان علي عثمان كاتب سوداني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المبشر: طرابلس ليست غنيمة لأحد ولا ساحة يُجرب فيها توازن القوى
وجه محمد المبشر، رئيس مجلس حكماء وأعيان ليبيا السابق، نداء إلى كافة الأطراف في العاصمة طرابلس، دعاهم فيه إلى التهدئة وضبط النفس، قائلا “إن ما يجري ليس خلافًا يستحق اللجوء إلى السلاح، بل هو سوء تقدير يمكن تجاوزه بالحوار والعقل”.
وقال المبشر في منشور بفيسبوك: “كل من يحمل السلاح اليوم داخل طرابلس، أيًّا كان موقعه أو مرجعيته هو ابن ليبيا، وجزء من مسؤولية الحفاظ على أمن العاصمة لا تهديدها”. وأضاف أن “طرابلس ليست غنيمة لأحد، ولا ساحة يُجرب فيها توازن القوى”.
وأضاف المبشر: “هل يُعقل أن تُخاض حرب بين أبناء الحي الواحد، بينما الجميع يدّعي تمثيل الشرعية والدفاع عن الوطن؟ فلا أحد في ليبيا يربح من نزيف طرابلس”.
وأشار إلى أن اندلاع أي معركة في العاصمة “لن يُبقي على شيء مما يُبنى يوميًا من مكانة وثقة وأمن”، لافتًا إلى أن البلاد لا تحتاج إلى “صراع جديد يُضاف إلى ذاكرة الفوضى، بل إلى رجولة تُوقف النار قبل أن تشتعل، وتُعيد العقل إلى الطاولة قبل أن يُسمع صوت الطلق”.
وختم قائلا “من يُبادر اليوم بالتهدئة وضبط النفس، فهو الأقوى وطنيًا، والأصدق نيةً، والأبقى في قلوب الناس”، داعيًا الجميع إلى “العودة خطوة إلى الوراء ليعود الوطن كله خطوة إلى الأمام”.