«لا حقيقة نتعامل معها وكأنها الوهم مثل الموت» - مصطفى محمود
لم تُتِح لي الزيارة الأخيرة للبلدة فرصة الحديث إليه، فكانت آخر مرة رأيته فيها قبل يومين فقط من رحيله المفاجئ، تمامًا بعد فراغنا من صلاة العشاء. ما شاهدته بعدها إلا وهم يَحثُون عليه التراب في فجر يوم كئيب من أيام هذا الصيف.
كُنا قد اعتدنا أن نتحاور «واقفيّن» لمدة تتجاوز كثيرًا ربع الساعة حول أمور مختلفة، نتداول فيها المهم من أحوال الأصدقاء، وأخبار البلدة، وآخر ما كُتب من أشعار، لم يكن ينسى أن يُطلعني على جديد جهوده الرياضية، التي ظلت جزءًا مهمًا من حياته بعد التقاعد، كنا نُطلق العنان لأحاديث خاصة أيضًا دون تحفظ.
ما خطر ببالي أبدًا أن تكون تلك اللمحة السريعة لوجه «نجيب» وهو يَهِمّ بمغادرة المسجد هي الأخيرة، وأن الموت يترصده على الأبواب خلال اليومين القادمين، لم أكن مُهيّأً لاستقبال خبر غيابه النهائي، لكنه الموت الذي يطرق الأبواب دون موعد مُسبق، لا يعترف بالتوقعات، ففي تلك الليلة سرقه الموت غفلة من بين أصدقائه الذين كان يجتمع معهم. انطفأ وهج شخص أحببناه تلك الليلة، سقط اسمه الذي عُرف به منذ ولادته، وكأن الجميع كانوا متفقين سلفًا على تجريده مما يدل على وجوده، هكذا يسقط اسم الإنسان بصورة تلقائية منذ اللحظة التي تفارق فيها روحه جسده، فيتحول في الحال من «فلان الفلاني» إلى «الغائب» أو «الهالك» أو «الجنازة».على رأس قبره أعلنوا عن موقع عزاء «نجيب»، عاد الجميع إلى حيواتهم. وأنا في طريق العودة من المقبرة، سلكت طريقًا ضيقًا يُفضي إلى المخرج الرئيسي، شاهدت القبور العتيقة وقد اندرست معالمها، شجرٌ استوطن أركان المقبرة، بيوت مُقامة حديثًا تنتظر زُوّارها الجُدد، اخترقت آذاني أحاديث متداخلة لا تَمتُّ للموت وعوالمه بصلة، قفز في ذهني سؤال وحيد: هل عاش «نجيب» خمسين عامًا أم أيامًا معدودات؟
جاوزت حدود المقبرة، كانت ملامح وجهه تتشبث بمخيلتي، كنت أحاول استيعاب رحيله المُفجع، فانفتح باب واسع من التذكر لأحبة وأصدقاء ومعارف رحلوا باكرًا، شعرت بكآبة عميقة واشتياق مُزلزِل للحديث إليه حول أحلامه التي لم تتحقق، قصائده التي لم تكتمل، مواعيد منحها بسخاء وشاء ربه ألا يوفي بها، وفي لحظة يقين بقدر الله الذي لا رادّ له، لمحته يبتسم ويبتعد قليلًا قليلًا.
النقطة الأخيرة..
«من لم يكن الموت له واعظًا فلا واعظ له» - مثل عربي
عُمر العبري كاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المنخفض الجوي يضاعف محنة النازحين بمخيمات غزة
ويقتل البرد القارس أطفالا رضعا داخل خيام لا توفر حماية من الطقس، بينما تنهار مبان سكنية متضررة من القصف الإسرائيلي فوق رؤوس ساكنيها بفعل الأمطار والرياح العاتية.
وتعيش عائلات النازحين في خان يونس ومناطق أخرى بالقطاع رعبا مستمرا على أطفالهم من الموت بردا في ظل حظر إسرائيلي لدخول البيوت المتنقلة والخيام المناسبة.
وتضيف قسوة الطبيعة فصلا مأساويا جديدا لمعاناة الفلسطينيين الذين لم ينجوا من القصف ليجدوا أنفسهم يواجهون الموت جوعا أو بردا.
تقرير: رامي أبو طعيمة
Published On 13/12/202513/12/2025|آخر تحديث: 01:03 (توقيت مكة)آخر تحديث: 01:03 (توقيت مكة)انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعيshare2شارِكْ
facebooktwitterwhatsappcopylinkحفظ