الكتاب "ابن تيمية التاريخي والمُستعاد: مقاربة تاريخية تحليلية في موقف ابن تيمية من المختلِف الديني"
الكاتب: رائد السمهوري
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ الدوحة ـ 2024


يحتل ابن تيمية مكانة بارزة في تاريخ تطور الفكر الإسلامي عامة، والحركي منه على وجه الخصوص، بالنظر إلى ما أضافه من بعد عملي للفكر الإسلامي يرتبط بالتغيير الاجتماعي والسياسي، ويؤكد معطى مهما في تاريخ التحولات السياسية والاجتماعية، والتي تقوم بالأساس على وجود نخبة فكرية تستطيع أن تنظر للتغيير وتعد له.

.

ومع أن مسار الفكر الإسلامي عامة والحركي منه على وجه الخصوص، قد شهد في القرون التي تلت اجتهادات ابن تيمية تطورات مهمة إن على صعيد الإنتاج الفكري والديني والفقهي، أو على صعيد التجارب السياسية، فقد ظل فكر ابن تيمية علامة بارزة في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، ولا زال المعنيون بالفكر الإسلامي يمتاحون اجتهاداتهم الفكرية والفقهية مما قدمه ابن تيمية، إضافة حينا ومراجعة ونقدا حينا آخر.

في هذا الإطار تنشر "عربي21" ملخصا لكتاب "ابن تيمية التاريخي والمُستعاد: مقاربة تاريخية تحليلية في موقف ابن تيمية من المختلِف الديني"، لكتابه الباحث رائد السمهوري، بالتزامن مع نشره في موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

ابن تيمية التاريخي والمُستعاد

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "ابن تيمية التاريخي والمُستعاد: مقاربة تاريخية تحليلية في موقف ابن تيمية من المختلِف الديني"، من تأليف الباحث رائد السمهوري، وهو كتاب تركّز فصوله الخمسة على مناقشة فكرة ذات جدّة عن ابن تيمية وهي مواقفه من "المختلف الديني" كما يجب أن تُفهم في عصره الذي عاش فيه لا في عصرنا الحالي. يقع الكتاب في 568 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

لرائد السمهوري تجربة مماثلة مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في كتاب يخص الإمام أحمد بن حنبل بعنوان السلف المتخيل: مقاربة تاريخية تحليلية في سلف المحنة ـ أحمد بن حنبل وأحمد بن حنبل المتخيل سماه فيه هو وأتباعه "سلف المحنة"، وهي محنة "خلق القرآن" التي ثبت لها الإمام أحمد ثبات الجبال برغم العذاب، حتى أورد الذهبي في تذكرة الحفاظ نقلًا عن علي بن المديني قوله: "إن الله أيَّدَ هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة"، واليوم يطل السمهوري من خلال المركز أيضًا على قرائه بـ "أحمدَ حنبليٍّ" آخر ولكنْ من المتأخرين، هو الشيخ الفيلسوف، المتكلم، الفقيه، "شيخ الإسلام"، والمصلح الديني والاجتماعي أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت. 728ه)، في كتاب ابن تيمية التاريخي والمُستعاد: مقاربة تاريخية تحليلية في موقف ابن تيمية من المختلِف الديني، بعد سبْقِ خوْضٍ وتأليف له في شخصية ابن تيمية في كتاب سابق سمّاه نقد الخطاب السلفي: ابن تيمية نموذجًا (لندن: دار طوى، 2010).

افتراق "الأحمدين"

وأحمد الثاني هو كالأول شهرةً، إن لم يكن فاقه فيها، فقد تجاوزت مؤلفاتُه المئةَ، بسط فيها القولَ، وأصَّلَ فأجاد، ومدّ حبال الردّ والجدل في أحد أكثر العصور تعقيدًا، سياسيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا، فيه شهد العالم الإسلامي غزوات الفرنجة والصليبيين والتتار والمغول، وانتشر المنطق الصوري اليوناني والفلسفة المشائية والإشراقية وعلمَا الكلام المعتزلي والأشعري، اللذان تغلغلا في بنية الثقافة العربية والإسلامية والعلوم اللغوية والشرعية، كما اخترقت الفلسفة السينويةُ الخطاب العقائدي الأشعري المتأخر، واستقرّت المذاهب الفقهية الأربعة وتجذّرت بعمق حتى لم يعد متصوَّرًا تجاوزُها ولو في مسألة واحدة... ما حتَّمَ تجاوزَ ابن تيمية صراع إمام مذهبه ابن حنبل مع جهة واحدة هي "الجهمية" التي تسللت إلى الحكم العباسي وأقنعته بفرض عقيدة خلق القرآن على المسلمين، إلى النزاع مع كل من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والصوفية والنصارى... وغيرهم، وحتى من الحنابلة أنفسهم لم يَسْلَموا من نقده مع كونه منهم، وتركّز جهدُه بأكمله على تحديد "أهل السنّة الحقيقية، الكاملة غير المشوبة ببدعة، وبيان منهج السلف الصالح قبل طروء علم الكلام وما نتج عنه من أهواء وعقائد فاسدة، إظهارًا للدين القويم، ودفاعًا عنه تجاه شبهات الخصوم"، في وقتٍ كانت الدويلات حول الدولة الإسلامية مذهبيةً، كالدولة الفاطمية شيعية سبعية، والبويهية شيعية زيدية، والسلجوقية سنية أشعرية، والتتارية الإيلخانية اثني عشرية..

من هو ابن تيمية؟ ما سياق عصره التاريخي والاجتماعي والسياسي؟ كيف استطاع موضعة نفسه في شبكة الصراعات السلطوية الداخلية والخارجية؟ كيف استوعب مفهومَ "السلف" وعرّفه ووظّفه؟ كيف أصَّلَ قواعد التعامل مع أبرز الطوائف الدينية في زمنه تنظيرًا، وكيف زاول ذلك تطبيقًا؟ وأي أسلوب انتهج؟ كيف تعامل مع المختلفين من المسلمين ومع غير المسلمين؟ هل في الإمكان إعادة إنتاج ابن تيمية وتمثّلُه وتخيُّلُه في زمننا؟وهكذا، فلا بد من تنقية عقيدة أهل السنّة و"كيانهم السياسي" لئلا تفرِّخ الباطنية فيه، وعلى هذا الأساس صنّف ابن تيمية مؤلفاته، ولأجل هذا سمى السمهوري ابن تيمية وأتباعه "سلف المفاصلة". إن ابن تيمية أوسع علماء المذاهب جدالًا وردًّا ونقدًا ونقضًا على الإطلاق، تشهد على هذا جميع كتبه، بل ربما يصح الادعاء أنه أفرغ حياته كلها لهذا الهدف، إلى درجة أننا نستطيع القول بوثوقية إنه كان حالة لا سلف ولا خلف لها في هذا.

مقاربةُ شخصيةِ ابن تيمية

يجيب الكتاب ذو الفصول الخمسة ابن تيمية التاريخي والمُستعاد عن أسئلة ملحّة وأساسية، مثل: من هو ابن تيمية؟ ما سياق عصره التاريخي والاجتماعي والسياسي؟ كيف استطاع موضعة نفسه في شبكة الصراعات السلطوية الداخلية والخارجية؟ كيف استوعب مفهومَ "السلف" وعرّفه ووظّفه؟ كيف أصَّلَ قواعد التعامل مع أبرز الطوائف الدينية في زمنه تنظيرًا، وكيف زاول ذلك تطبيقًا؟ وأي أسلوب انتهج؟ كيف تعامل مع المختلفين من المسلمين ومع غير المسلمين؟ هل في الإمكان إعادة إنتاج ابن تيمية وتمثّلُه وتخيُّلُه في زمننا؟

أما دراسة الكتاب، فإنها تمخر عباب الدين وأصوله، والشريعة وأحكامها، والقراءة التاريخية لزمان ابن تيمية بوصفها عدسةً منهجية لفهم الأحداث ومواقف الرجل وأقواله الناتجة منها فهمًا أقرب إلى الصواب، فمن يتخذ زماننا عدسةً لـ "تخيّل" ابن تيمية وأتباعه وخصومه فإنه يختزل "الشيخ الكبير"، وبخاصة حين ينزع فتاواه وتصريحاته من سياقاتها التاريخية وينزّلها على زمانه كما هي، فتخرج مشوّهة غير ناضجة ولا مكتملة، كأن يأخذ فتاوى ابن تيمية في النصيرية ويُسقطها على نصيرية اليوم وهم غير نصيرية الأمس، وسبب فتواه فيهم مختلف عن سياق حالهم اليوم، وكأن يأخذ بعضُهم فتواه ضد التتار فيُسقطها على بعض الأنظمة السياسية اليوم من منطلق مذهبي، كعبد السلام فرج في الفريضة الغائبة، من دون حتى اطلاع كافٍ على السبب الرئيس لفتوى ابن تيمية تلك في التتار، وهو غزوهم دمشق مرات، وليس مذهبهم، الذي ذُكر لديه بالعرَض لا بالذات؟ فهل هناك فرقٌ في الجنس أو النوع بين المماليك والتتار؟ هل انفرد التتار وحدهم بتطبيق الياسق أم كان المماليك أيضًا يطبّقونها؟ ولماذا لم يعامل ابن تيمية النصارى معاملة واحدة، بل تفاوتت مواقفه تجاههم بين الشدة تارةً واللين أخرى؟ كل هذه الأسئلة التاريخية شكلت صُلبَ هذه الدراسة.

العنف والتكفير

أكثر ما يُستحضر فيه ابن تيمية راهنًا مسألةُ العنف والتكفير وغيرهما، ولهذا جُعلَتْ مناقشتُها هي الأساس في قسم مهم من هذا الكتاب، وكذا لأن طرح مسألة "المختلِف دينيًّا" وكيفية التعامل معه في عالمنا العربي المتنوع طائفيًّا اليوم بات أمرًا على درجة عالية من الإلحاح، بعد علوّ صوت الطائفية والمذهبية والعقدية في البلدان العربية، بين سنّي وشيعي وإسماعيلي ودرزي وزيدي وإباضي، ومسلم ومسيحي، وأشعري وسلفي، فضلًا عن تعامل المسلم مع غير المسلمين، من اليهود واليزيديين وطوائف أخرى موجودة في المنطقة منذ مئات السنين، وكان لبعضها أحيانًا تأثير في التاريخ الإسلامي، وساهمت في التراثين الكلامي والفقهي.

اسم "شيخ الإسلام" ابن تيمية الحرّاني بات اليوم ملاذًا للحركات الإسلامية السنّية عمومًا، والجهادية منها على وجه الخصوص، إضافة إلى استدلال كثير من الفقهاء والعلماء التقليديين بأقواله في فتاواهم بعد ما عُرف بـ "الصحوة الإسلامية"، وحرب أفغانستان وإفرازاتها المدوية، ثم أحداث العراق، والصومال، وسوريا، وليبيا، ومصر، والسعودية.. وغيرها، ومعظم تلك التيارات ترجع إلى تفسير فكر ابن تيمية بطريقتها الخاصة، وتختلف في هذا التفسير إلى درجة التكفير المتبادل والاقتتال، كما جرى بين جبهة "النصرة" وتنظيم "داعش" في سورية، والأمثلة غير ذلك كثيرة، وما ذلك إلا لأن من فتاوى ابن تيمية ما يوحي بالتناقض، فنجده تارة يصف بعض الشيعة بأنهم "أكفر من اليهود والنصارى"، كما في منهاج السنة (ج 3، ص 374): "وأما عصمة الأئمة فلم يقل بها - إلا كما قال - الإمامية والإسماعيلية. ناهيك بقولٍ لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون، الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصارى [والمشركين]، وهذا دأب الرافضة دائمًا"، وهو نص بتكفير "شيوخهم الكبار" دون عامّتهم، كما أن لابن تيمية كلامًا مناقضًا في موضع آخر (الفتاوى الكبرى، ص 516) يقول فيه: "من كان مؤمنًا بما جاء به محمد eفهو خير مِن كل مَن كفر به وإن كان في المؤمن [...] نوعٌ من البدعة، سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية [...] والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسولe [...] لم يكن كافرًا به، ولو قُدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذّب الرسول"، فمن أراد تكفير عموم الشيعة "انتقى" مِن قولَيه الأولَ وتغاضى عن الثاني، ومن أراد تبرئة ابن تيمية من تكفير أحد من أهل القبلة "انتقى" هذا القول له وتغاضى عن تكفيره الفارابي وعبد الحق بن سبعين والتلمساني، ومن أراد وصمه بالتكفير العام تجاهل قوله في المنهاج (ج 2، ص 452): "الإمامية الاثنا عشرية [...] مع [فرط] جهلهم وضلالهم فيهم خَلْقٌ مسلمون ظاهرًا وباطنًا". وحتى أتباع ابن تيمية من السلفيين أنفسهم "انتقَى" بعضهم من كلامه ما يبدّعون به ويفسّقون كل من ينتقد وليّ الأمر، بينما "انتقى" الجهاديون منهم من كلامه ما يفيد وجوب الخروج بالسلاح على الحكّام الذين لا يطبّقون الشريعة.

الحاجة إلى دراسة الرجل على قدر مكانته

تفتقر المكتبة العربية إلى دراسات غير تقليدية وغير متحيِّزة وانتقائية لفكر العالم الكبير ابن تيمية، بعيدًا عن الأطر المذهبية والطائفية وردود الطوائف عقديًّا وثقافيًّا، كما تتسم بنظرة جديدة "تستلهم" المنهج التاريخي المناسب لصراعات عصره السياسية والاجتماعية؛ فمؤلفات ابن تيمية كانت مناسباتية وسياقية وذات دوافع مرتبطة بأحداث، بعبارة أخرى: تحتاج المكتبة العربية إلى نظرة تحرر ابن تيمية من عصرنا وتضعه في عصره وسياقه، للوصول إلى مقاربةٍ أدقّ لفكرة يجري فيها تجاوز ما ينبغي تجاوزه مما لا يصلح لزماننا من آرائه، فلكل زمانٍ مشكلاته. وقد تأرجح كتاب ابن تيمية التاريخي والمُستعاد منهجيًّا بين طريقتين: الأولى تحقيب حياة ابن تيمية وحشد الآراء بما يوافق حوادث تلك الحقب، وفيها عقبات؛ إذ الأقل فقط من مؤلفاته معروف التاريخ، ولا انقطاعات واضحة في مسيرته العلمية وآرائه الفلسفية والكلامية، لذا قام الكتاب بتخصيص فصل لتأريخ حياة ابن تيمية يرصد تشابك علاقاته السياسية والاجتماعية، ويضيء على ظروف سجنه مرات متعددة، في أوقات كان لابن تيمية فيها أنصار من الأمراء وذوي السلطة هم في صراع مع أمراء آخرين يناصرهم علماء أيضًا، والثانية تأريخ طوائف خاض معها سجالات غزيرة، لأجل إفهام القارئ الخطوط العريضة لأسباب اتخاذ ابن تيمية مواقفه منها. وقد جُمعت معلومات الكتاب "التاريخية" من عصر المماليك وما قبله بقليل، وصراعهم مع "الصليبيين" والإسماعيلية الباطنية، ثم مع التتار الاثني عشرية في دولتهم الإيلخانية، كما تضمّنت كلامًا عن مرحلة "نهوض" أهل السنّة منذ أبي حامد الغزالي، عبر المدارس السنّية التي كانت أشبه بمحاضن أيديولوجية ذات هدف أساس هو مواجهة الباطنية والصليبيين، كما عادت الدراسة إلى ما كتبه ابن تيمية ومعاصروه لجمع أقواله في المخالفين، من مسلمين وغير مسلمين، وربطها بأحداث زمانها، إذ لا يمكن فهم آرائه في التتار مثلًا - وكانوا شيعةً حديثي عهد بإسلام - من دون فهم الصراع والحروب في ذلك الوقت بين الدولة الإيلخانية التترية الشيعية ودولة المماليك الأشعرية السنّية، أو فهم موقفه من "النصيرية" من دون الاطلاع على تعاونهم مع التتار والصليبيين ضد المماليك.

"فجوة" في دراسات منهج ابن تيمية

ولِفِقْه منهج ابن تيمية، جمع الكتاب القولَ إلى شبيهه، والرأيَ إلى نظيره، وقارن ذلك بمواقف "شيخ الإسلام" العملية، وسجَّلَ أيَّ تناقض واضح ونبّه إليه على الطريقة التقليدية الاستقرائية، وبرغم ذلك اعترضته "فجوة" علمية تمثّلت في عدم إيجاد دراسة في المكتبة العربية تولّت هذه المهمة تحديدًا، في خضمّ دراسات يصعب إحصاؤها عنه تناولت مواقفه من "المختلف الديني عن أهل السنّة"، القريب منه كالأشعرية والمعتزلة والصوفية والشيعة وغيرهم، والبعيد كاليهود والنصارى والفلاسفة وغيرهم؛ إذ لم تتناول أي دراسة بالتفصيل رأيه في مقوّمات "المختلف"، ودرجات اختلافه، وترتيب ابن تيمية إياه من حيث قربه من "أهل السنّة" وبعده عنهم، وأسباب ذلك تاريخيًّا وسياقيًّا واجتماعيًّا، بل ركّز جُلُّ تلك الدراسات على بيان مواقفه العقائدية التي تهدف إلى بيان حقيّة مذهب أهل السنّة وبطلان المذاهب الأخرى. ومع عدم إغماض ما تحويه هذه الدراسات من فائدة، إلا أنها لا تربط ذلك بسياق عصر ابن تيمية أو تتطرق إلى الأوضاع التاريخية والسياسية فيه أو إلى العوامل السياسية والتاريخية التي جعلته يطلق فتاواه كما تتوخى دراسة الكتاب الذي بين أيدينا.

دراسات قليلة ذات صلة بموضوع الكتاب

يشير السمهوري في مقدمة كتابه ابن تيمية التاريخي والمُستعاد إلى أن من أهم الكتب وثيقة الصلة بموضوع بحثه كتاب جمال باروت حملات كسروان: في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية، الذي يقول إن له الفضل في تنبيهه إلى القراءة التاريخية، وإن له صلة شديدة بموضوع البحث وإن كان منصبًّا على هوية جبل كسروان فحسب ولم يتطرق إلى غيره، على عكس دراسة كتاب ابن تيمية التاريخي، التي تسعى لتوسيع أفق البحث لتشمل "المختلف" القريب والبعيد كليهما بجميع أطيافهما الفاعلة في عصره. وكذا كتاب في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟ لعزمي بشارة، ولا سيّما من حيث القراءة التاريخية وعدم إغفال الفروق بين السلفيات من وجهة نظر سوسيولوجية وسياسية، وإن كان كاتبه قد اهتم فيه بالسلفية في الزمن المعاصر تحديدًا.

لا بد من تنقية عقيدة أهل السنّة و"كيانهم السياسي" لئلا تفرِّخ الباطنية فيه، وعلى هذا الأساس صنّف ابن تيمية مؤلفاته، ولأجل هذا سمى السمهوري ابن تيمية وأتباعه "سلف المفاصلة". إن ابن تيمية أوسع علماء المذاهب جدالًا وردًّا ونقدًا ونقضًا على الإطلاق، تشهد على هذا جميع كتبه، بل ربما يصح الادعاء أنه أفرغ حياته كلها لهذا الهدف، إلى درجة أننا نستطيع القول بوثوقية إنه كان حالة لا سلف ولا خلف لها في هذا.كما يشير السمهوري إلى دراسات اقتربت من موضوع دراسته ولم تُصبها، كدراسة عائض الدوسري موقف ابن تيمية من الآخر، التي غلبت عليها نزعة المديح والدفاع غير الموضوعية والانتقائية، فانتمت بوجهٍ ما إلى المتخيَّل، وكتاب محمد أبو زهرة ابن تيمية: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، الذي ذكر فيه أحوال عصر ابن تيمية الاجتماعية والسياسية والعلمية لكنه لم يربط فتاواه ومواقفه بتواريخها إلا في وقعة جبل كسروان، وأكثر مصادره كانت من كتاب ابن كثير. وذكر السمهوري من المصادر رسالة عبد الحكيم أجهر "التأسيس الفلسفي للتسامح في الإسلام، ابن تيمية نموذجًا"، التي وإن كانت ذات صلة بموضوع الكتاب في نواحٍ معينة، إلا أن لمؤلفها فيها شطحات فكرية ترى لابن تيمية أفكارًا مأخوذة من محيي الدين ابن عربي، وأن ابن تيمية كان يقول بمشيئة الله الكونية التي اقتضت أن يكون في العباد كفار ومؤمنون أقرّ الله دروبهم بالقدر الأول وغيرهما، وبذلك جعلت هذه الرسالة من ابن تيمية مجبرًا. ثم يزداد إغراب مؤلف الرسالة حين يقرّ بحقيقة أن ابن تيمية كان متشددًا في التكفير.

ومن الدارسات الأجنبية المهمّة كتاب المستشرق الفرنسي هنري لاوست بعنوان نظريات ابن تيمية في السياسة والاجتماع ولا سيما الجزء الأوّل منه، إذ تناول بعمق البيئة التي نشأ فيها ابن تيمية، ووضع يده على كثير من الجوانب التاريخية والاجتماعية والسياقية في عصره، ودراسة دونالد ليتل Donald Little "اعتقالُ ابنِ تيميةَ ودلالتُه في التاريخ والتأريخ" (ترجمات، مركز نهوض للدراسات والبحوث، (https://bit.ly/3ZwGrlGK، وفيها آراء مفيدة حول ظروف اعتقاله، وقيمة تاريخية تكمن في التفريق بين فئات المؤرخين الذين عاصروا نزاع ابن تيمية وخصومه، ودراسة أخرى لليتل نفسه بعنوان "هل كان في عقل ابن تيمية لوثة؟"Did Ibn Taymiyya Have a Screw Loose? ، التي وإن رآها السمهوري مفيدة فإنه يأخذ عليها أنها اكتفت بجانب التحليل النفسي لابن تيمية دون الجانب التاريخي والظروف والسياقات الاجتماعية؛ ما يشكل في نظره "فجوة علمية". وهناك كتاب لمجموعة باحثين من جامعة أكسفورد بعنوان Ibn Taymiyya and his Times قال السمهوري إنه استفاد من بحوث كل من كاتبِيه في وجه من الوجوه. وأخيرًا يذكر السمهوري مؤلفات الباحث الإنكليزي المختصّ بابن تيمية في الأكاديمية الغربية جون هوفر Jon Hoover وكتابه Ibn Taymiyyah ضمن سلسلة Makers of the Muslim World، الذي عرّج فيه على أهم المحطات التاريخية في حياة ابن تيمية، وما أَلَّف فيها، وفسّر محنة ابن تيمية في فتواه في الطلاق كما شرح بعض آرائه وفتاواه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب ابن تيمية كتاب عرض ابن تيمية كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة کتاب ابن فی کتاب وإن کان فی عصره على هذا فی هذا

إقرأ أيضاً:

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»

بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير

ختمت البروفيسور آمال قرامي تقديمها للطبعة الثانية التي ستصدر قريباً من كتاب: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، قائلة:

“يصدر المُؤلَف في فترة حرجة من تاريخ السودان استشرى فيها العنف وتفتت فيه النسيج الاجتماعي، وكثرت فيها الخيبات والمآسي وبرزت فيها علامات التراجع عن أهداف الثورة السودانية. فهل يكون هذا المُؤلَف ملاذ الحائرين/ات والباحثين عن فهم أسباب ما يجري؟”

البروفيسور آمال قرامي

أستاذة الفكر الإسلامي والدراسات الجندرية بالجامعة التونسية، تونس

قلنا في مستهل الحلقة الأولى من سلسلة هذه المقالات: “بتخطيط وتنسيق مسبق وبمؤامرة شارك فيها قطاع واسع ممن يسمون برجال الدين في الفضاء الإسلامي، والقضاة الشرعيين، و هيئة علماء السودان، و جماعة الإخوان المسلمين، وبعض رجال الطائفية والقادة السياسيين في السودان، ومشايخ جامعة أم درمان الإسلامية السودان)، ومشايخ الأزهر (مصر)، كان انعقاد المحكمة المهزلة، محكمة الردة في مثل هذا اليوم، 18 نوفمبر من العام 1968. مثَّل انعقاد المحكمة وصدور حكمها الباطل، بداية المواجهة بين الفهم القديم للإسلام، و الفهم الجديد للإسلام، كما طرحه المفكر محمود محمد طه. أتبع الأزهر شراكة مشايخه في مؤامرة المحكمة، بإصدار فتوى بكفر المفكر محمود محمد طه “الكفر الصراح”. كما لحق بالأزهر رابطة العالم الإسلامي حيث أفتى مجلسها التأسيسي وبالإجماع بردة محمود محمد طه عن الإسلام. يتكون المجلس التأسيسي للرابطة من ستين عضواً يمثلون مختلف دول العالم الإسلامي، وتتخذ الرابطة من المملكة العربية السعودية مقراً لها”.

شكَّل حكم محكمة الردة الذي صدر في 18 نوفمبر 1968، سابقة خطيرة، حيث تم استدعاؤه والأخذ به مع فتوتي الأزهر و رابطة العالم الإسلامي في محاكمة يناير 1985، التي حكمت على المفكر الإنساني محمود محمد طه بالإعدام، كما سيرد التفصيل لاحقاً. نواصل الحديث عن المؤامرات المحلية، فبعد أن وقفنا عند تآمر رئيس وأعضاء مجلس السيادة السوداني، نقف اليوم عند مؤامرات القضاة. (ملاحظة: كل ما يرد في هذه السلسلة يجد سنده التوثيقي في الكتاب المشار إليه، أعلاه، وقد أخذنا فيه بمنهج توثيقي صارم).

مؤامرات القضاة

كشف المدعي الأول في محكمة الردة الأمين داود في كتاباته، عن شراكة قاضي القضاة والقضاة الشرعيين في المؤامرة. فقبل أن يتم تقديم الدعوى للمحكمة، قام الأمين داود بالاتصال بقاضي القضاة وبالقاضي الذي ترأس محكمة الردة فيما بعد، وقد أوضح موقف كل منهما.

موقف قاضي القضاة، عبد الماجد أبو قصيصة

حكى الأمين داود في كتابه: نقض مفتريات محمود محمد طه وبيان موقف القضاء منه، وتحت عنوان: “موقف القضاء من محمود محمد طه”، مبيناً بأنه تقدم بالدعوى بعدما رأى “استعداداً طيباً وروحاً عالياً من حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الماجد أبوقصيصة قاضي قضاة السودان لقبول دعوى الحسبة”. كما أضاف بأن قاضي القاضي قد قال له بأن الدعوى من صميم عمل المحاكم الشرعية.

قاضي محكمة الردة

روى الأمين داود في كتابه آنف الذكر، بأنه قد أتصل بالقاضي توفيق أحمد صديق، وطرح عليه خطته قبل انعقاد المحكمة، بل لم يتقدم بالدعوى، كما قال، إلا بعد ما لمسه من الهمة العالية والوقوف مع الحق من الشيخ توفيق أحمد صديق عضو محكمة الاستئناف العليا الشرعية، وبعد ذلك: “تقدمنا بدعوى الحسبة”.

تبين من الاعترافات الموثقة أن قرار محكمة الردة قد تم الاتفاق عليه قبل تقديم الدعوى نفسها. فالمدعي الأول، كما أورد في كتابه، رتب الأمر مع قاضي القضاة ومع رئيس المحكمة، ووجد موافقتهم وقبولهم فماذا بقى؟ لا شيء سوى تنفيذ المؤامرة.

يتضح مما تقدم أن التحالف الذي تشكل من رجال الدين والطائفية والزعماء السياسيين والقضاة الشرعيين، قد اجتمع على التآمر على المفكر محمود محمد طه، فدبروا تلك المكيدة السياسية. ومما لا شك فيه أن معظم هؤلاء السياسيين من الطائفيين والقضاة الشرعيين والفقهاء، لهم امتداداتهم الخارجية في مصر والسعودية، كما أن كثير منهم يتحرك بتوجيهات مصر الرسمية وبتوجيهات مشايخ الأزهر وبالتنسيق بينهما. وقد فصلنا كل ذلك في كتبنا.

إكتمال حلقات التنسيق والتآمر

“ولكن لا بأس، فإن من جَهِلَ العزيز لا يَعِزَّه!! ومتى عرف القضاة الشرعيون رجولة الرجال، وعزة الأحرار، وصمود أصحاب الأفكار؟”.

محمود محمد طه، 19 نوفمبر 1968

بعد اكتمال حلقات التنسيق والتآمر بين القضاة الشرعيين، ورجال الدين، والقادة والسياسيين، تقدم الأمين داود، الأستاذ بجامعة أم درمان الإسلامية (مدعي أول)، وحسين محمد زكي، الأستاذ بجامعة أم درمان الإسلامية (مدعي ثاني)، بدعوى ضد محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، بالردة عن دين الإسلام، حسبة لله تعالى. تم تقييد الدعوى لتكون القضية رقم 1035/1968 أمام محكمة الخرطوم العليا الشرعية، التي تشكلت برئاسة القاضي توفيق أحمد صديق، عضو محكمة الاستئناف العليا الشرعية المنتدب للنظر والفصل في الدعوى.

عدم اختصاص المحكمة

إن المحكمة التي عُهد إليها بالنظر في القضية رقم 1035/1968، وهي محكمة الخرطوم العليا الشرعية، لم يكن من اختصاصها إصدار حكم بإعلان ردة أي إنسان من الإسلام. فالمحاكم الشرعية في السودان أنشأها الاستعمار بموجب قانون أصدره الحاكم العام، وهو قانون المحاكم الشرعية السودانية لعام 1902. ولم يتضمن هذا القانون أي نص يدل على صلاحية المحكمة الشرعية في الحكم بردة أو تكفير مسلم. فاختصاص هذه المحاكم قد حددته المادة السادسة التي تنص على أن للمحاكم الشرعية الصلاحية للفصل في:

أ‌.    أية مسألة تتعلق بالزواج والطلاق والولاية والعلاقات العائلية بشرط أن يكون الزواج قد عقد على الشريعة الإسلامية أو أن يكون الخصوم من المسلمين.

ب‌.  أية مسألة تتعلق بالوقف أو الهبة أو الميراث أو الوصية … إلخ.

ج‌.  أية مسألة سوى ما ذكر في الفقرتين السابقتين على شرط أن تتقدم الأطراف المتنازعة بطلب كتابي ممهور بتوقيعاتهم يلتمسون فيه من المحكمة أن تقضي بينهم مؤكدين أنهم عازمون على الالتزام بحكم الشريعة في الأمر المتنازع عليه.

مما يدل على عدم اختصاص المحكمة التي نظرت في القضية، أن حكمها جاء غيابياً، بسبب عجزها عن احضار المتهم أمامها أو إجباره على الحضور، كما أنها لم تستطع تنفيذ الحكم الذي أصدرته، لا في ذلك الوقت، ولا في أي وقت لاحق، وهو ما لم يكن يحول دونه غياب المحكوم عليه، خاصة وأن للحكم عقوبة مقررة شرعاً هي أعلى مراتب العقوبات المدنية. وهذا ما أكدته المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية في العام 1986 حينما قررت عدم اختصاص المحكمة الشرعية العليا، وقضت ببطلان حكمها، كما سيرد التفصيل لاحقاً.

ما يجب التأكيد عليه هو أن المحاكم الشرعية غير مختصة في إصدار حكم بإعلان ردة أو تكفير أي إنسان من الإسلام. إن تسمية هذه المحاكم محاكم شرعية فيه تضليل وإيهام للناس بأن شريعتهم قائمة. والاسم الصحيح لهذه المحاكم إنما هو “المحاكم الملية” أي أن الحكم الاستعماري كان عندما يحتل بلداً يخصص محاكم لكل ملة من أهل ذلك البلد مسلمين، نصارى، يهود، لتحكم لهم في قضايا الأحوال الشخصية حسب أديانهم، وأسوأ من ذلك فإن ما يسمى عندنا بالمحاكم الشرعية لم يكن ينفذ حكماً من أحكامها إلا بواسطة المفتش الإنجليزي لأن السلطة التنفيذية قد كانت بيده هو لا بيد (القضاة الشرعيين). نقف هنا ونلتقي في الحلقة السادسة.

[email protected]

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام (4-11)

الوسومالأمين داود الدكتور عبد الله الفكي البشير الزواج الطلاق توفيق أحمد صديق عبد الماجد أبو قصيصة محكمة الردة محمود محمد طه

مقالات مشابهة

  • التدريب الديني أولاً.. نيويورك تايمز: الولاء يطغى على الكفاءة في بناء الجيش السوري الجديد
  • عادل نعمان: فكر ابن رشد انتصر في أوروبا .. والتخلف الفكري عندنا بسبب ابن تيمية
  • عادل نعمان: فكر ابن رشد انتصر في أوروبا.. والتخلف الفكري عندنا بسبب ابن تيمية
  • قراءة في كتاب «وكأنني لازلت هناك» للدكتور صبري ربيحات
  • كأس العرب.. الأردن تتأهب لكسر التفوق التاريخي للعراق
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»
  • «الوطنية لمواجهة غسل الأموال» تصدر ورقة تحليلية حول الجرائم المالية الإلكترونية
  • بعد غد.. «الإنشاد الديني» تقدم باقة من الأناشيد والابتهالات في حفل على مسرح الجمهورية
  • نجم يوروفيجن التاريخي: مشاركة إسرائيل فضيحة.. وانسحاب أيرلندا موقف شجاع
  • سيمياء الخطاب الشعري.. كتاب جديد لأحمد الصغير عن هيئة قصور الثقافة