د. عباس عبيد إذن. فقد رحل سامي العامري! هناك. في برلين، حيث عاش ثلثي عمره مغترباً. رحل الشاعر العراقي الكبير، والإنسان المرهف، بالطيبة، والمحبة التي كان يحملها للناس جميعاً، بأحلامه البسيطة، وجلها يتمثل بنشر أعماله الشعرية والأدبية التي انتهى من كتابتها. هو نفسه أخبرني بذلك، في زيارته الأخيرة للعراق.
ومن الرائع أنه عاد إلى مدينته الأثيرة بغداد مرتين: الأولى في العام الماضي، بعد فراق طويل دام ثمانية وثلاثين عاماً، أما الثانية فكانت في الشهر الخامس من العام الحالي، قبل أقل من شهر على رحيله المفاجئ. وفي المرتين كان الشاعر يحتضن جميع تفاصيل الأمكنة البغدادية بشغف عجيب. ربما لكي تخفف عن روحه مرارة أربعة عقود من الغربة. وهكذا، طاف الشاعر في أرجاء المتحف العراقي متأملاً عظمة الآثار الرافدينية، وزار المتحف البغدادي، ومعرضاً للفن الحديث في قاعة كولبنكيان. سار بين الناس العاديين وسط زحام شارع المتنبي، والرشيد، والباب الشرقي، واستقل “التكتك” في شارع الكفاح، تناول وجبة إفطار بغدادية في مطعم كبة السراي، واستعاد طعم “الكاهي والقيمر” في محل “رسول” الشهير، في الصدرية، والكباب في مطعم شعبي في سوق الصفافير، وشعر بسعادة تفوق الوصف لحظة ركب الزورق “البلم”، ليعبر به نهر دجلة على مهل، من ضفة الكرخ إلى الرصافة، هو الذي قال مرة: (أنتِ حلمي/ أوليس الحلمُ من طبع السلافة/ أنا كرخيُّ الهوى/ ثَمِلً حدَّ الرصافة!). وحدهم الذين عرفوا سامي العامري عن قرب يمكنهم أن يقدروا حجم الخسارة برحيله. مبدع حقيقي كبير، تواضعه وطيبته لا ينفيان عزة نفسه، واعتداده بمنجزه الإبداعي. لقد كان أشبه براهب يتعبد في محراب الجمال، جمال الطبيعة، والفن، والشعر، والفلسفة. ما أن بدأ ينظم الشعر وهو فتى في مرحلة الدراسة الثانوية حتى نذر نفسه لعالم الكلمة الصادقة، عالم لا يقدر على تحمل تكلفته إلا نبلاء حقيقيون من طراز سامي العامري، ونخبة من أخلص أصدقائه: نصيف فلك، وحميد العقابي، وجمال جمعة، ووو، ممن سبقوه إلى المنافي، ولحق بهم هو بعد فترة قصيرة. أدباء شباب في مقتبل العمر، كادت نيران الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت مع بدء خطواتهم الأدبية الأولى أن تحرق أرواحهم الرومانسية الجميلة. صحيح أنهم أفلتوا منها، لكن إلى متاهة غربة امتدت لعقود، متاهة السؤال عن المعنى، عن مسؤولية المثقف تجاه ما يحدث من عبث. متاهة أتعبت أبانا آدم من قبل، وأرهقت سلفنا كلكامش. لقد راهن أولئك الفتية الحالمون على قيم نبيلة، دفعوا في سبيلها الكثير من شبابهم، وصحتهم، ولم ينعموا بالمال، والجاه، والمناصب كحال أدباء السلطة، من قبل ومن بعد. لكن يكفيهم أنهم عاشوا أنقياء، ورحلوا أنقياء. أطال الله في عمر الباقين منهم. إن رفض عبثية الحرب موقف يتطلب الكثير من الشجاعة. ولم يكن من السهل على شاب في الرابعة والعشرين من العمر أن يغامر بتجاوز الحدود، ويخطط للإفلات من قبضة النظام الاستبدادي، لكي يقول كلمته. وكان الشاعر الراحل شجاعاً حقاً. غادر العراق تاركاً خلفه ذكريات جميلة، وتوقيعاً تحت اسمه على أغلفة بضعة كتب، صارت من نصيبي لاحقاً. كان من بينها كتاب عن الفيلسوف “نيتشه” لعبد الرحمن بدوي، وآخر عن الموسيقى العالمية. ومن منفى إلى آخر، استمر الشاعر متشبثاً بحلم الخلاص، الخلاص الجماعي لوطن أحبه، وأخلص له، وكتب عن مأساته بشجاعة نادرة، أيام كان الخوف يلف ألسنة الكثيرين ممن غادروا العراق، تشهد له على ذلك نصوصه الشعرية، ومقالاته التي نشرها في الصحف، والمجلات التي كانت تصدر خارج العراق كالوفاق، والاغتراب الأدبي، والثقافة الجديدة. يوم هاجر سامي العامري الذي يكبرني بعقد من السنين في العام 1984، لم أكن قد رأيته سوى مرة أو مرتين، حين كان والدي -رحمه الله- يصحبني معه لزيارة بيت العم. معرفتي الحقيقية به بدأت في العام 1992، وقتها كانت قد وصلت إلى بغداد نسخة من مجموعة شعرية له، مطبوعة بالآلة الكاتبة، حملت عنواناً مميزاً: “مسقط رأس دمي”. سأسأله عنها حين أقابله بعد ثلاثة عقود على تاريخ وصولها لبغداد، وسيقول إنه أصدرها بذلك الشكل البسيط، وبعدد محدود، بسبب صعوبة النشر في أوربا، وفي البلدان العربية، حيث يتوقف الأمر على ما يملكه الأديب من مال، أو علاقات. ولأن تلك المجموعة تمثل مرحلة البدايات، لم يعمل على اخراجها مرة ثانية. لكن الحق إن نصوص المجموعة أكثر من رائعة، كانت مزيجاً من تأملات فلسفية فذَّة، ووجد صوفي شفيف. حتى مكابدات الغربة، وكوابيس الحرب التي بقيت تطارد الشاعر وهو في ألمانيا صيغت بذائقة جمالية مميزة، وصور فنية تتسم بالفرادة، والابتكار. يقول في إحدى نصوصها، وأنا هنا أكتب من الذاكرة: (لم أطلب الغابة كلها/ طلبت برعماً صغير/ يزحف كالطفل على ركبتيه/ الدرب فيه اللص/ والضحكة المحاربة/ يا سائس الفراشات/ عجائب الزمان في أفعالنا/ فلا تقل زماننا ما أعجبه). ويقول في نص آخر: (…وفانوس راعية في الظلام/ تسرح أظفارها الراجفات قشوراً على مائدة/ فوانيس ترعى/ وقافلة من جنود/ تسير بعيراً بألف سنام/ تماحك خطوتها الماردة). مع سامي العامري، فقط، نسمع أن للفراشات سائساً. من هو؟ ومعه، أيضاً، نرقب براءة الذات العراقية المتطلعة للسلام، وللحياة البسيطة الآمنة. بينما اللص الذي يقطع عليها الطريق، ويعلن الحرب حتى على الضحكة، يسوق آلاف الجنود، كما القطعان إلى المحرقة. سامي العامري شاعر مرهف، وكاتب مثقف غزير الانتاج. لم تتهيأ له فرصة طباعة نتاجه الأدبي في وقت مبكر. وبالكاد تمكن لاحقاً من طباعة بعض منه، على حسابه الشخصي. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان “السكسفون المُجَنَّح”، عن دار سنابل – القاهرة، في العام 2004، وظهرت بطبعة ثانية عن الدار نفسها بعد سبع سنوات. وفي العام 2005 أصدر ثلاث مجموعات شعرية: الأولى عن دار شمس ـ القاهرة، بعنوان “العالَم يحتفل بافتتاح جروحي”، والثانية بعنوان: “أعراض حفاوتي بالزنبق” عن دار سندباد ـ القاهرة، والثالثة بعنوان “أستميحك ورداً”، عن الدار الأخيرة نفسها. كما صدر له كتابان وظف فيهما الشعر والسرد هما: “حديث مع ربة الشفاء” الصادر عن مركز الحضارة العربية ـ القاهرة – 2004، و”النهر الأول قبل الميلاد” دار سنابل ـ القاهرة – 2011. كنت قد طلبت من الشاعر الراحل أن يعمل على جمع نصوصه الشعرية غير المطبوعة، والتي نشر كثيراً منها في المواقع الإلكترونية، لكي يبدأ بإصدار أعماله الشعرية الكاملة، فمن شأن ذلك أن يحفظ منجزه الإبداعي، ويوفر للباحثين، ولطلبة الماجستير، والدكتوراه فرصة لدراسة نتاج شعري حقيقي. لكنه لم يتفاعل مع الفكرة لسببين: الأول أن إصدار الأعمال الكاملة ربما يعطي انطباعاً بأن صاحبها قال كل ما عنده، بينما هو لا يزال لديه القدرة على المزيد من العطاء. والسبب الثاني له صلة بمتلقي الشعر اليوم، الذين يفضلون قراءة مجموعة شعرية صغيرة الحجم على تجشم عناء قراءة مجلدين كبيرين. بصراحة، لم أقتنع بجوابه. مع ذلك، فقد اقترحت عليه أن ينشر إحدى مجاميعه هنا في بغداد، لا في دور نشر عربية لا تبذل جهداً لتسويق نتاجه، وإيصاله للقارئ العراقي في الأقل. وقبيل سفره الأخير بأسبوع ذهبنا معاً إلى دار الشؤون الثقافية العامة، ليقدم للنشر مجموعة شعرية جديدة بعنوان: “أوقات من يواقيت”. آمل حقاً أن تنشر في الشهر العاشر، كما أخبرونا، تقديراً لذكرى شاعر كبير، استمر يحمل هموم وطنه في منافي الغربة، ويردد بمنتهى الصدق: (المنفى وهم. نحن الذين رسَّخنا أسسه. وإلِّا فما معنى أن يشاركني الوطن حتى ارتداء القميص. هذا نفي للنفي). وللشاعر الراحل مجموعتان شعريتان جاهزتان للطباعة، في شقته في برلين، الأولى مكتوبة باللغة العربية عنوانها “آناء الليلك وأطراف الجُلَّنار”، أما الثانية فهي مكتوبة باللغة الألمانية بعنوان: Halskette ausInseln (قلادة من جُزُر)، آمل حقاً أن لا تضيعا، لا سيما تلك المكتوبة بالألمانية، فقد تطلبت كتابتها منه الكثير من الجهد والوقت، وأعاد تحريرها أكثر من مرة. للأسف. ضاعت منه في أثناء تنقلاته مئة رسالة أرسلها إليه الراحل حميد العقابي. ولديه مقالات كثيرة لم تجمع، في الشأن العراقي السياسي، وفي قضايا الأدب واللغة. كما أنه أخبرني قبيل سفره بأنه سيجمع قصصه القصيرة المكتوبة على لسان الحيوان، لكي يصدرها بكتاب. إن العالم الشعري لسامي العامري عالم ساحر، وجميل، وزاخر بالتقاطات عجيبة، من الطبيعة التي هام في جمالها، حيث النهر، والنجم، والغابة، والفراشات، والبراعم، والورود، والنباتات العطرية بأنواعها: “الليلك، والجلنار، والزنابق، والخزامى، والريحان..”، والآلات الموسيقية: “الكمان، والمزمار، والسكسفون..”. وثمة تجاور حميمي في سائر مجموعاته الشعرية بين نصوص الغزل الرومانسي الجميل ونصوص الحكمة التأملية المزدانة بتناصات تتوزع على مشارب الأدبين العربي والعالمي، وميادين التاريخ القديم والحديث، وأروقة الفلسفة. وإن كانت صوره الفنية المبتكرة تفضل أن تنهل من الجمال الفطري للطبيعة، مقدمة إياها على أي مصدر آخر. وسنعرف من نص شعري له بعنوان “من ذاكرتي الثانية” نشر في العام 2017، أن “سائس الفراشات” الذي أشار إليه في إحدى نصوصه المبكرة هو سامي العامري نفسه. وسأكتفي هنا بنقل جزء من النص، بلا تعليق، فهو بجماله النادر، وبما اشتمل عليه من سكينة وسلام نحن بأمس الحاجة إليهما يقول الكثير: (حينما كنت رضيعاً/ وأصابعي بحجم عيدان الثقاب/ كان العالم أسراراً لا تعنيني/ ولم يكن عندي وقت/ لأهتم بمطلقٍ أو وجودٍ أو عدم/ كنت فقط أهتمُّ بإطعام فراشاتٍ/ تمد خراطيمها مُدَغدِغَةً إبطَ وردةٍ ذابلة!). من الواجب أن أذكر هنا بتقدير واحترام ذلك الموقف الجميل لبعض الأساتذة الأدباء (حمودي الكناني، وسلام البناي، وصباح محسن كاظم، وآخرون) من أصدقاء أوفياء كان قد تعرَّف عليهم الراحل قبل سنوات، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحين عرفوا بمجيئه في العام الماضي أقاموا له جلسة احتفالية في أتحاد الأدباء والكتاب في كربلاء، قرأ فيها بعضاً من نصوصه الشعرية، وأشعرته بكثير من الفرح. وكانت تلك الجلسة البسيطة الجميلة هي الشيء الوحيد الذي حصل عليه الشاعر من أية مؤسسة عراقية طوال حياته الزاخرة بالعطاء! لقد كان الراحل الكبير سعيداً بالأيام التي قضاها هنا في بغداد، قبل ثلاثة أسابيع من رحيله المؤلم. أسرته، وأخواته، وأبناؤهم الذين لم يسبق لهم التعرف عليه لأنهم ولدوا بعد سفره من العراق بسنوات فرحوا برؤيته، واحتفوا به باهتمام، وعاطفة صادقة. وكان يلتقي بشكل شبه يومي مع صديق طفولته الأثير الأستاذ التربوي جمال العامري الذي بقي يحتفظ له بالمودة والاحترام طوال خمسين عاماً. كما حرص على الالتقاء بصديقه الوفي الروائي والشاعر الأستاذ نصيف فلك، جلسا في مقهى هادئ يتبادلان حديث ذكريات عمرها أربعة عقود. امتدت الجلسة لساعات كأنها دقائق تمت سرقتها من عمر الزمن. أهدى كل منهما مؤلفاته للآخر. كانا متشابهين في الروح والطباع، مثل أخوين من أم واحدة. لقد كان سامي العامري وفياً لأصدقائه. وخلافاً لسلوك أكثر الأدباء والمثقفين العرب والعراقيين لم يجد الراحل حرجاً في الإشارة إلى تأثره -في مطلع شبابه- بكتابات نصيف فلك، والشاعر والفنان التشكيلي باسم الرسام، وأن يقول إنه كان يحفظ عن ظهر قلب نصوص المجموعة الشعرية الأولى لحميد العقابي: “أقول احترس أيها الليلك”، والمجموعة الشعرية لصديقه جمال مصطفى: (أمطار بلا سبب). صحيح أنهم أكبر منه سناً لكنه ينتمي لجيلهم. وهذه الشجاعة الأدبية واحدة من صفاته النبيلة، وهي تهدينا درساً بليغاً عن المعنى الحقيقي للمبدع المثقف. في الليلة التي سبقت موعد سفره ودع سامي العامري أفراد أسرته وأصدقائه على أمل اللقاء بهم من جديد في وقت قريب. عاد إلى ألمانيا مفعماً بآمال كبيرة، ومشاريع أدبية وحياتية جديدة. لكن الأجل لم يمهله طويلاً. رحل وهو في أوج مراحل عطائه الأدبي. لم يكن يخشى الموت، فقد كان له إيمانه الخاص بالمطلق الرحيم، بالقوة الخيرة التي خلقت الكون، إيمان يتقدم فيه الجوهر الذي ينفع، على المظاهر التي تخدع. وقد ذكر لي ذلك مرتين. شخصياً، أجد نفسي ملزماً بإهداء كلمات شكر كثيرة لسامي العامري، وأن أقدم له اعتذاراً أيضاً. أما الشكر فلأنه مثل لي مصدر إلهام، تعلمت منه الكثير في مطلع شبابي، لا سيما من مجموعته الشعرية التي ذكرتها آنفاً “مسقط رأس دمي”. من حسن الحظ أنني أخبرته بذلك، وقرأت له بعضاً من نصوصها التي أحفظها منذ ثلاثة عقود. كان هذا الأمر – على بساطته – مفاجأة سارة بالنسبة إليه. أما الاعتذار فعن تأخري في الكتابة عنه، والتعريف بنتاجه الأدبي المميز، الذي يستحق اكثر من دراسة جادة، وعن أي تقصير، أو خطأ غير مقصود بدر مني تجاهه.
بصراحة، لا أعرف طبيعة ما أكتبه هنا. لكنه بالتأكيد ليس كلمة رثاء، فسيبقى سامي العامري حياً في ذاكرة أصدقائه ومحبيه، وأولئك الذين يقدِّرون باحترام الشعر الحقيقي في أجمل تجلياته. وإذ أفكر في خاتمة مناسبة، فيما يمكنني قوله لسامي العامري، لا أجد أفضل مما كتبه هو حين رحل صديقه حميد العقابي، يومها قال: (يا حميد لن أرثيك، فمثلك من قاطفي ثمار الأبد). انطلق بسلام أيها الشاعر، أدخل إلى الجنة لكي تستريح قليلاً. الجنة التي تعرفها أنت، وحدثتنا عنها ذات مرة تحتضن الجميع بحنان وسلام. حتى “الجنة ستدخل الجنة”! جملة شعرية لا يبدع مثلها سواك أيها الجميل: (حقاً تعِبْنا أيها الوطنْ/ تعالَ نستريحْ/ نأخذُ في الصبحِ لنا/ قسطاً من الريحْ/ في رَكْبنا الراحةُ والراحُ وهكذا/ نرحلُ في عكسِ تلافيف الزمنْ/ وتنبضُ الحياةْ/
نعمْ كما تنبضُ أعشابُ المَدى بالرُّعاةْ/ ويشكرُ الحبيبُ/ لحظةَ إلهامٍ/ أتى بها إليه نجمُهُ الخصيبُ/ أنزَلَها لنا كما الأجراسِ في صبيحةٍ/ فاهتزَّ من وردٍ ومن أطيابِهِ/ البعيدُ عن برلينَ والقريبُ!/…. وحينَها أرواحُنا ستدخلُ الجنانْ/ مُهرْوِلاتٍ كلَّها/ جانٌ بإثْر جانْ!/ كأنها تفعلُ ما تفعلُ ممتنَّة/ ونحنُ والجنة/ سندخلُ الجنة!)
أكاديمي وباحث من العراق.
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية:
ـ القاهرة
فی العام
إقرأ أيضاً:
عصام كاظم جري… اللغة الناعمة بعطرها الممسوس بتقانات الاثراء وتجويف الاساطير التراثية الميسانية عمقا ودلالة ومعنى
قراءة أدبية / سمير السعد ..
في زمنٍ باتت فيه الأصوات العالية تُغطّي على خرير الشعر، ينهضُ عصام كاظم جري بصوته الهادئ كقنديلٍ في عتمة الجنوب، لا يطلب الضوء لنفسه، بل يهبه للآخرين. شاعرٌ ومربٍّ وإنسان، ترك ومازال ، بصمة لا تُمحى في ذاكرة ميسان الثقافية، وفي وجدان من عرفوه، سواء في الحقل التعليمي أو في المنتديات الأدبية أو في طيب المجالس. أنيق في حضوره، رصين في كلمته، خفيف الظل على من حوله، محبوب في الأوساط الثقافية، ابتسامته لا تفارقه، وحديثه شيّق لا يُملّ، وكأن القصيدة تسكن حديثه كما تسكن قصيدته.
ولد في مدينة العمارة، وتشرّب من بيئتها الجنوبية الحسّ المرهف واللغة الصافية، فدرس اللغة العربية في كلية الآداب، وحصل على البكالوريوس، ليختار بعدها طريق التعليم، فيجمع بين الأدب والتربية، وبين الجمال والمسؤولية. لم يكن مجرد معلم للغة، بل مربٍّ للذوق والروح، فأثر في أجيال كثيرة، ترك فيهم بذور الحرف والوعي، وكان مثالًا للمدرّس الذي يجمع بين الخلق والعلم، وبين التواضع والهيبة.
انتماؤه للكلمة كان صادقًا وحقيقيًا، ولهذا انضمّ إلى اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق، وكذلك إلى
اتحاد الأدباء العرب، وشارك في تأسيس ملتقى ميسان الثقافي، وشغل منصب رئيس نادي الشعر في اتحاد أدباء ميسان بين عامي 2016 و2019، في فترةٍ شهدت نشاطًا ملحوظًا في المشهد الأدبي المحلي، وكان من بين أبرز الأصوات التي حافظت على اتزان الشعر في مواجهة الاضطراب الثقافي العام.
تُعدّ تجربته الشعرية من التجارب المهمة في جنوب العراق، وقد انعكست في دواوينه “خارجًا ومكتفيًا بالسواد” الذي صدر عام 2001 عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، و”خارطة الريح” الذي صدر عن اتحاد الأدباء والكتاب في ميسان عام 2011. هذان العملان رسّخا حضوره كشاعرٍ يمتلك نبرة خاصة، ويتعامل مع القصيدة بوصفها شغفًا ذاتيًّا ورسالة وجودية. كما شارك في مجاميع شعرية جماعية مهمة مثل “أعالي السنديان”، و”أحزان عراقية”، و”وردة الضحايا”، مما جعله حاضرًا في المشهد الأدبي على المستوى المحلي والعربي.
في قصيدته “لقاء أوّل”، تتجلى رؤيته الشعرية التي تمزج بين الذات والواقع، وتنهل من الحزن العراقي، ولكن دون أن تستسلم له. يفتتح النص بلحظة العودة، العودة إلى الذات، وإلى الوطن، وإلى المواجهة:
عند أوّلِ عودةٍ لي
عند أوّل التفاتةٍ إلى حارسِ الحدود
عند أوّل نقطةٍ لتفشي السّر
تذكرتُ الحياةُ
شظايا
وأريكةُ ليل
هذا المقطع ينهض على مفارقة الشعور بين اللحظة الآنية وذاكرة الألم. كلّ “أول” في النص يشير إلى كشف داخلي. العودة ليست مجرد عبور مكاني، بل عبور وجودي نحو الذات المنهكة. حين يلتفت الشاعر لحارس الحدود، لا يراه بعين الجغرافيا، بل كرمز لحدودٍ أوسع ، حدود الوجع، الغربة، والانفصال. تتذكر الحياة لا كأمل، بل كشظايا، وكسطح هشّ ، ” أريكة ليل”، حيث الراحة مؤقتة، والوحدة أبدية.
ثم يمضي في توصيفٍ يزداد كثافة وتصعيدًا:
الحياة
سلّمٌ من رصاص
ساحةٌ ووقوفٌ من بارودٍ
وتلف
هذا السطر يعبّر عن سوداوية لا يخلو منها وعي الشاعر. الحياة هنا ليست ارتقاءً ناعمًا، بل “سلّم من رصاص”، كلّ درجة فيه موت مؤجل. “وقوف من بارود” إشارة إلى الثبات القسري وسط أخطار الحرب، وتتحوّل الحياة إلى تلف، إلى حالة من التآكل والصمت.
ويكمل الشاعر لوحته:
عند أوّلِ شهقةٍ من الآس
عند أوّلِ عبّارةٍ للغرق
الأرصفةُ مشاهدُ من جماجمَ
وأنفاق
الآس، رمز العطر والموت، يأتي ممزوجًا بـ”شهقة”، ما يوحي بجنازة، أو بوداع. “العبّارة للغرق” ليست فقط عبورًا مائيًّا بل رمزٌ للمرور من الحياة إلى الفقد. أما الأرصفة، فليست للانتظار أو اللقاء، بل “مشاهد من جماجم”، كأن الموت يمشي معنا على أرصفة المدن.
وفي المقطع الثاني من القصيدة، يرتقي الشاعر نحو صورة أكثر كثافة، وأكثر حزنًا:
من بياناتِ اختباء
عند أوّلِ لوحةٍ درامية من الرمل
عند أوّلِ ثريا تبثّ النجوم
عند أوّلِ ستارِ عَتمة
الخنادقُ أسلاكٌ
معطوبة
يبدأ من “بيانات اختباء” ليشير إلى هروب الإنسان من ذاته، من ذاكرته، من وطنه حتى، لكنه لا يهرب من القصيدة. “اللوحة الدرامية من الرمل” تشير إلى مشهد مؤقت، هشّ، قابل للانهيار. “الثريا” تبث النجوم، لكنها في مشهدٍ معتم، لا تنير ما حولها، فالضوء لا يبلغ الأرض. “الخنادق أسلاك معطوبة”، صورة تستدعي الحرب، العطب، فشل الحماية، وانهيار الدفاعات النفسية والواقعية.
ثم يختتم القصيدة بهذا التساؤل الموجع:
لكِ وحدَك أكثرُ من ليل
والطفولةُ علامةٌ تشبهُ أقواسَ الفرح
من يُنقذُ وجهَ الليل من هذا السواد؟
والشمسُ تخلعُ عباءةَ الإتقاذ
وتلوّحُ بخيوطِها للراحلين
الذين لا يملكونَ بقايا
الحروف؟
هذا المقطع يصل بالقصيدة إلى ذروة الدراما الشعرية. “لكِ وحدك أكثر من ليل” هو خطاب إلى ذات أنثوية مجهولة، ربما الوطن، أو الحب، أو الذاكرة. الطفولة، رغم رمزيتها، لا تأتي إلا كـ”علامة تشبه أقواس الفرح” – الفرح مجرّد تشبيه لا تحقق. في سؤاله: “من يُنقذ وجه الليل من هذا السواد؟” يتجلّى اليأس النبيل، واليأس الواعي. الليل مظلم حتى في وجهه، فكيف ننجو؟ حتى الشمس، التي يفترض أن تُنقذ، “تخلع عباءة الإنقاذ”، وتنأى، تلوّح للراحلين الذين “لا يملكون بقايا الحروف” – هم أولئك الذين صمتوا، ماتوا، ولم تُكتب لهم قصة أو قصيدة.
ولا يقتصر أثره على النص الشعري فقط، بل تعدّاه إلى النقد، حيث كتب مقالات رصينة عن تجارب شعرية عربية وعراقية، مثل “خيول مشاكسة” لماجد الحسن، و”الغياب العالي” لعلي سعدون، و”دفء الثلج” لجابر محمد، و”صيدلية البقاء” لمحمد قاسم الياسري، وغيرها. كانت كتاباته النقدية نابعة من حسّ معرفي وثقافي، ومن إحساس صادق بالشعر بوصفه ضرورة روحية وجمالية.
أما حضوره الأكاديمي، فقد تجاوز حدود النشر إلى فضاء الجامعات، حيث دُرست تجربته الشعرية في أطروحات دكتوراه ورسائل ماجستير في جامعات عربية وعراقية عدة، منها جامعة القاهرة، جامعة بابل، جامعة كربلاء، الجامعة المستنصرية، وجامعة ميسان. وهو ما يؤكّد أن أثره لم يكن لحظيًّا، بل عميقًا ومستمرًا، ويستحق مزيدًا من التوثيق.
من المدهش أن لا نجد حتى اليوم كتابًا نقديًا منفردًا يُعنى بتجربته الشخصية والأدبية، رغم غناها وتنوعها وتأثيرها. نحتاج إلى كتاب يحمل عنوانًا مثل “عصام كاظم جري: شاعر العمارة وضمير الجنوب”، أو “في ظلال قصيدة ميسانية ، دراسة في شعر عصام كاظم جري”، يضمّ قراءات نقدية وشهادات وأوراقًا أكاديمية، لتكون وثيقة وفاء لهذا الاسم الذي أعطى الكثير، وظل وفيًّا للقصيدة والإنسان والمكان.
عصام كاظم جري لم يكن شاعرًا فحسب، بل إنسانًا نبيلًا ومربيًا مخلصًا وصوتًا شعريًا مغايرًا، عرف كيف يجعل من الألم منبعًا للجمال، ومن الغربة نداءً للانتماء، ومن الكلمة سلاحًا للمحبّة والحقيقة. وفي كل مرة نقرأ نصًا من نصوصه، كأننا نسمع صوته وهو يهمس لنا بما لم نقله، ويضع أمامنا مرآةً من حروفٍ نقيّة، تقول لنا: “من يُنقذ وجه الليل من هذا السواد؟” وكأنه يعلّمنا من جديد أن الشعر، وحده، يستطيع أن يوقظ فينا ما نسيناه من إنسانيتنا.
سمير السعد