في الحديقة العامة، حيث تُقصّر العائلاتُ مساءاتها الطويلة، جاءني ولدي الأكبر، الذي لا يلعب إلّا حافيا، وهو يعرجُ بقدمٍ دامية؛ لقد تعوّد أن يؤذي نفسه فاعتدنا على رؤية دمه؛ ولكن حين جاء أخوه المنتعل، المُحاذرُ بطبعه، داميا هو الآخر، أيقنتُ أن في الأمر خطب. ذهبتُ إلى اللعبة التي أشارا إليها، وهي زحليقة خرطومية كبيرة، مدعومة بسلالمٍ وجسورٍ وحبال، فوجدتُ مخلبا معدنيا حادا قد نتأ من أحد السلالم.
عَدّل نظارته الطبيّة الضخمة، وباهتمامٍ بالغٍ، راح يتفحّص المخلب. صوّرهُ بتلفونه الذي أطلق شعاعا أضاء الموضع، بعدها، وبحرصٍ شديد، لفّ المخلب بكيسِ «بطاطس عُمان» أخرجه من زبالته. كان يمارس «واجبه» بجديّة لا تخلو من متعة، وقد ذكرتني هيئته بالممرضين الذين طالما طببوا أطفالي، كلّ ذلك مشفوعٌ بابتسامةٍ هادئةٍ لم تفارق مُحيّاه.
ضحكتُ بحزنٍ على تصرف الزبّال الطيّب، وسألتُه عن مسؤول الحديقة. كوّر يده حول أذنه وأصاخ سمعه ثم أشار إلى جهةٍ كان الصراخُ يأتي منها: «هناك أرباب». نظرتُ فرأيتُ رجلا يهدّد أطفالا كانوا يوسّخون الحديقة فعرفتُ أنه المسؤول وقفزتُ إليه.
أخبرته عن أمر المخلب فقال إنه يعرف.
- تعرف؟!
- نعم أعرف، وهل تظنني نائما أو غافلا عن عملي؟
- ليس القصد، ولكنه أمرٌ خطير يا أخي، وها نصف أطفال الحديقة يعرجون أمامك.
- إن شاء الله سيتم اقتلاع الفيل، أقصد المخلب.
جمعتُ أسرتي للخروج، وقدتُّ ولديّ الأعرجين، مفكرا بالمخلب اللعين وبوسيلةٍ سريعةٍ، حاسمةٍ، تريح العائلات شرَّهُ. اتصلتُ بخطِ البلدية الساخن، فجاءني الصوتُ من الطرف الآخر، هاشا باشا، من فرط طلاوته ظننتُ أن صاحبه يحكي من الجنّة. رويتُ له قصة المخلب، سيد الزمان، عدوّ الإنسان، فشكرني، ووعدني، ثم تمنى لي ولأسرتي أوقاتا سعيدة، وأغلق الخط. الحقّ أن صوتَه الرغيد أصابني بعدواه، فانتقلت السكينة إلى نفسي، ولبرهةٍ، شعرتُ أني بجواره في الجنّة.
في الأسبوع التالي أخذتنا العادةُ إلى الحديقة: المتنفّسُ المجانيُّ الوحيد في منطقتنا. اتجهتُ فورا إلى ركن الألعاب فوجدتُ المخلب بانتظاري. إلّا أنه لم يكن وحيدا هذه المرّة، فقد نبت بجواره سِلكٌ صغير، ربما يكون أخوه، جاءَ ليسليه ويعينه في أمره. ناديتُ الزبالَ الطبيب، أقصد الطيّب، فهرع نحوي، ومن دون تأخير، باشر في عمله. اختار من زبالته كيس «بطاطس عُمان» (تكرارُ مُخَلّفات بطاطس عمان يعني أن الأطفال يحبونه أكثر من غيره) ربطه برأس المخلب ورأس أخيه الصغير، بعدها، وبعناية ظاهرة، رقعهما بمُغلّف «بسكوت نبيل» وثبّت عليهما قرطاسة «بوفاك عُمان» الشهير بالمينو. وقفتُ أراقبه، مُقارنا بين ما يفعله وما تقوم به الأطقم الطبية.
مازحته قائلا:
- هذا كثيرٌ يا رفيق!
فردّ دون أن يسهو عن عمله:
- ما فيه خوف أرباب، هذا نمونة كشرة واجد منيه.
سمعتُ صيحات المدير تملأ فضاء الحديقة ففضلتُ ألّا أقاطعه، وفكّرت في موظف الجنة، أقصد البلدية، ولكني لم أرغب بإزعاجه.
حملتُ أولادي وذهبنا إلى الوادي، هناك حيث سيلعبون بأحجاره ويتزحلقون على صخوره، تماما كما كان أسلافُهم يلعبون. ولكي أبدّد ملل الطريق، رحتُ أستعيد الزبّالَ المنهمك في حلوله السوريالية؛ شيئا فشيئا حتى اختلطت الصور في رأسي، فرأيتُه في غرفة العمليات وقد ارتدى ثوب الجراحين الأخضر، قِناعُهُ - كيس بوفك عُمان، وقفازُهُ - كَفّان من بطاطس عُمان؛ ومستعينا بنظارته الكبيرة على التركيز، راح يُمرر مشرطه على قلبِ المريض. في الأخير خلصتُ إلى أن الزبّال الطيّب كان يحلم أن يكون طبيبا! ثم ها أنا أراهُ كما يجب أن يكون في الواقع: حائمٌ في الحديقة، يتبع بمكنسته وكيسه ما تبَعثرَ من قمامتنا، يتبعها ويطارد أحلامه الشاردة...
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بطاطس ع
إقرأ أيضاً:
ميقاتي: على لبنان أن يكون في صلب الخارطة الجديدة في المنطقة لا على هامشها
قال الرئيس نجيب ميقاتي إن "التطورات الدولية والاقليمية المتسارعة في المنطقة ترسم خارطة جديدة من التعاون يجب على لبنان العمل ليكون في صلبها، لا على هامشها، وهذه مسؤولية تقع على المسؤولين اللبنانيين بشكل مباشر". وقال ميقاتي أمام زواره في طرابلس اليوم: "ان اللقاء بين الرئيس الاميركي دونالد ترامب وولي عهد المملكة العربية السعودية الامير محمد بن سلمان والرئيس السوري احمد الشرع، بمشاركة افتراضية للرئيس التركي رجب طيب اردوغان، اضافة الى رفع العقوبات الاميركية المفروضة على سوريا، كل هذه التطورات رسمت معالم صفحة جديدة من التعاون والتوازنات في المنطقة، ووضعت سوريا على سكة التعافي والحل. والمطلوب منا لبنانيا، استكمال بسط سلطة الدولة على كافة اراضيها والضغط في كل المحافل العربية والدولية لالزام اسرائيل بالانسحاب من الاراضي اللبنانية التي لا تزال تحتلها ووقف العدوان المستمر على لبنان، والعودة الى "اتفاق الهدنة"الموقع عام 1949، وتشكيل لجنة أمنية قانونية لتثبيت هذا الاتفاق على نحو يجعل الانسحاب الإسرائيلي تلقائياً إلى ما وراء الحدود". أضاف: "ان تحقيق هذا الأمر لا يمكن أن يتم من دون ضمانات دولية أو أممية من أجل ضمان حصول استقرار طويل الأمد على الحدود الجنوبية. من هنا فاننا نثمن التحرك المتواصل الذي يقوم به رئيس الجمهورية جوزاف عون والاتصالات التي يقوم بها خارجيا لبلورة موقف داعم للحل الذي يعمل عليه، بالتزامن مع حوار داخلي لا بد من اجرائه على قاعدة ان يكون السلاح في يد الدولة وحدها وبسط الدولة على الاراضي اللبنانية كافة". زيارة عباس وردا على سؤال قال: "إن زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للبنان في هذا التوقيت مهمة جدا نظرا للملفات الكثيرة المرتبطة بالعلاقات اللبنانية- الفلسطينية، واهمها وضع المخيمات وسلطة الدولة عليها ومنع اي سلاح خارج الشرعية اللبنانية. ومن خلال اللقاءات الكثيرة التي جمعتني بالرئيس عباس والمواقف التي يعلنها، لمست ان هناك اصرارا لديه على ان تكون المخيمات تحت سلطة الدولة، ونأمل ان تكون الزيارة مناسبة لتفاهم فلسطيني داخلي ومع الدولة اللبنانية لمعالجة هذا الملف سريعاً". الانتخابات البلدية وعن نتائج الانتخابات البلدية في طرابلس قال: "بداية نثمن اجراء الاستحقاق البلدي والاختياري في موعده، وكلنا أمل ان تكون الجولة الاخيرة السبت المقبل في الجنوب هادئة كسابقاتها ويكتمل عقد المجالس البلدية والاختيارية لتنصرف الى خدمة المدن والقرى بشكل افضل وتحقيق التنمية الموعودة. اما في ما يتعلق بانتخابات طرابلس، فاننا نجدد التهنئة لجميع الفائزين، ونتطلع الى ان يكون المجلس البلدي الجديد على مسافة واحدة من الجميع وأن تكون مصلحة طرابلس فوق أي اعتبار سياسي أو فئوي. ومن جهتنا سنكون داعمين لاي عمل يخدم المدينة ومصلحة ابنائها.استقبالات وكان الرئيس ميقاتي أجرى في دارته في طرابلس سلسلة لقاءات مع وفود شعبية وممثلين عن المجتمع المدني، كما التقى النائب كريم كبارة وامين الفتوى في طرابلس الشيخ بلال بارودي ورئيس اتحاد نقابات العمال في الشمال شادي السيد ووفداً من المخاتير الجدد. واستقبل أيضا وفدا من مدراء المدارس الرسمية في طرابلس نقلوا اليه عددا من المطالب أبرزها ترميم المدارس وموضوع تاخر الأموال المرصودة من وزارة التربية لصندوق الاهل والمدارس. لائحة "رؤية طرابلس" واستقبل الرئيس ميقاتي وفدا من لائحة "رؤية طرابلس" الذي عبّر في بيان "عن تقديره الكبير لموقف الرئيس ميقاتي المسؤول والداعم لمدينة طرابلس في هذه المرحلة المهمة". وأشاد الوفد "بحرص دولة الرئيس على إبقاء الاستحقاق البلدي في إطاره التنموي والإداري، وعلى تجنيب المدينة أي توتر أو تشنج من شأنه أن يعرقل المسار البلدي، وهو ما يعكس حرصه الدائم على استقرار طرابلس وخدمة أهلها".
وأكد أعضاء الوفد" أن هذه المقاربة التي يعتمدها دولة الرئيس تُشكّل عامل دعم أساسي لنجاح العملية البلدية، وتمهّد لمرحلة من التعاون بين مختلف الجهات لما فيه مصلحة المدينة". كذلك، شدد وفد "رؤية طرابلس" على أن اللائحة تضع في أولوياتها العمل الجماعي والمشاركة مع الجميع، بهدف تشكيل مجلس بلدي متجانس وفعّال، يواكب تطلعات الطرابلسيين، ويرتقي بالخدمات والإنماء في المدينة. وأكد الوفد على تقديره لنهج دولة الرئيس المتزن، أهمية استمرار هذه الروحية الجامعة في مواكبة العمل البلدي في المرحلة المقبلة. ---------------------------------------------------- صور من لقاءات الرئيس ميقاتي اليوم: اللقاء مع النائب كبارة: