عبد الله علي إبراهيم
مضي الـ15 من أبريل (نسيان) الجاري يكون مر عام على اندلاع الحرب في السودان بين القوات المسلحة وقوات "الدعم السريع"، وهو عام ليس طويلاً كما لا تكون الأعوام في غير مثله فحسب، بل مضرجاً مضنياً أيضاً. واحتاج منا إلى وقفة نحيط بها بهذه الحرب لمعرفة بواعثها واللواحق منها على بناء الدولة في السودان.


ومن الصعب التفاؤل مع ذلك إن كان فكرنا السياسي يتمتع بالمروءة التي سينهض بها بمثل هذه الوقفة المستحقة. وكان ألكس دي وال، الأكاديمي البريطاني من دارسي السودان الحاذقين، نعاه في كلمة له في 2009 فوصفه بأنه مرهق. وخلت به السياسة من فكرة كبيرة سوى من تكتيكات تخدم أصحابها لمجرد البقاء في الميدان السياسي.
وزاد من خمول الفكر عندنا غلب الاشمئزاز من الحرب في أوساط الحداثيين، الذين يجتمعون في تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) على طلب المعرفة عنها. فلا يذكرها الواحد منهم إلا واكتفى بوصفها بـ"الملعونة" أو "الخبيثة" ونادى بوقفها معجلاً. وهذه شهامة روحية مقدرة. ولكنهم أطفأوا بها تلمسهم النور للمعرفة بفقه الحرب التي تهلك الحرث والنسل. فمن خطايا الحرب الذميمة في نظرهم التضحية بالسودانيين جمعاء لـ"طموح جنرالين"، كما جرت العبارة، للحكم. فهما يجران البلاد للخراب في حرب تأذى منها المواطنون، الذين لا ناقة لهم ولا بعير، بزعازع احتلال البيوت ونهبها، والتهجير القسري الذي يقارب التطهير العرقي، والقصف المدفعي والجوي.
يخطئ الحداثيون في عزلتهم عن فقه الحرب خطأ بيناً في تعريف الدولة وما يتوقعونه منها. فجرت محاكمتهم الماثلة للقوات المسلحة واعتزالها، بل الدعوة أخيراً إلى حلها في كيان جيش وطني على قدم واحد مع "الدعم السريع" وحركات الكفاح المسلح، على بينة أنها كانت من وراء الديكتاتوريات التي أثقلت على السودان 53 عاماً من أعوام استقلاله الـ68.
ولعل هذه القوات، في قول رشا عوض القيادية البارزة في "تقدم"، "كانت أداة لوأد الديمقراطية لأكثر من نصف قرن". ولا تكون الحداثة، في رأيها، إلا بالديمقراطية. وفي واقع الأمر أن العنف الذي شكت منه رشا هو المحك في تعريف الدولة. وهو في مركز دائرة دراسة الدولة منذ ساد تعريف ماكس فيبر لها بأنها هي التي تحتكر استخدام العنف شرعاً. وهو تعريف هجر العلماء به نظريات سلفت ركزت على الهدف من الدولة مثل أنها مما ينهض لسعادة الدنيا أو الآخرة أو سعادة الدارين. وهكذا فربط رشا للحداثة بالديمقراطية خطأ بين. فالديمقراطية ليست سوى واحدة من ضروب التعاقد السياسي في الدولة الحديثة. فتكون الدولة الحديثة على حداثتها كيفما تعاقد الناس فيها على التقليد مثل أن تكون فيهم الملكية مثلاً، أو بالشعبوية والكريزما، أو بالديمقراطية الليبرالية، أو حتى بالاستبداد الصرف مثل النازية.
وبدا أن لعقيدة الحداثيين في عبثية الحرب جذر في قناعتهم أن السودان لم يتكون كأمة بعد. فهو عندهم لا يزال قبائل وجهات وأعراق تنتظر أن تتعارف في وقت لا معروف ولا مقطوع. وهذا سوء ظن عظيم بعملية بناء الدولة في السودان التي بدأت بنهوض الحركة الوطنية بصورها التقليدية والحديثة منذ وطأ الاستعمار أرض السودان. ولا يطعن في هذا المسعى إلى بناء الدولة الوطنية أن من نهضت به صفوة من الشمال النيلي استردت به الإرادة الوطنية. ولم يمنع التظلم من سياساتها من نهوض الهامش نفسه بالسلاح وغيره لبناء وطن يسع الجميع لا وطناً موزع الدم بين القبائل والأعراق.
ودعوة السودان الجديد التي سعت إلى إعادة توزيع السلطة والثروة خرجت من جنوب السودان الذي كان الانفصال عن السودان هو أول بداية لمطلب القوميين الجنوبيين منذ 1955. فالتعذر بأننا لم نبلغ مبلغ الأمة بعد جهل مطبق ببناء الأمة الحديثة. فمعلوم أن أول خروج هذه الأمة للوجود كان من رحم مثل هذه الجماعات الشتى التي يتعلل بها الحداثيون ويسوفون في استيلاد الدولة منها بعزيمة ومكر. فمعروف أن الدولة الحديثة تولدت من رحم أوروبا الإقطاعية التي كانت سادت فيها ثلاثة كيانات لكل منها سلطاته وامتيازاته يلجم بها الحكام الأمراء. وكانت تلك الكيانات هي الكنيسة والنبلاء والفلاحون، وحظي كل منها بنظم معينة نسيقة من الحقوق، مما قد تراه العين المعاصرة من مادة الدولة الحديثة. وهكذا قامت الدولة الحديثة في أوروبا لتحل محل تلك الكيانات النثار التي تتداخل فيها الاختصاصات وتصطرع من فرط عيشها جنباً لجنب.
تتأفف صفوة الحداثة عندنا من الخوض في علم الحرب وبناء الدولة لأن حربنا الخبيثة اللعينة مجرد نزوة جنرالين استبد بهما جنون الحكم. فلا نفع من وراء درس جنونهما. وخلافاً لذلك فالحرب في مثل شرط السودان وجهده منقطع النظير لبناء دولة حديثة، ومسرح من المسارح التي تتجلى فيها العزائم لاستيلاد مثل هذه الدولة.
ونعتزل بهذا الاشمئزاز الحداثي من الحرب لعبثيتها كما رأينا النقاش الدائر في ميدان علم الاجتماع السياسي حول أطروحة تشارلس تللي (1929-2008) في تكون الدولة الأوروبية الحديثة ومدى مطابقتها لتكوين الدولة في البلدان النامية. وكان تللي أذاع من فوق دراسة خبرة نشأة الدولة الحديثة في أوروبا "أن الدولة تشن الحرب والحرب هي التي تصنع الدولة". فمن الباحثين من قال بهذا التطابق، ومنهم من نقض التطابق لتغير العالم سياسياً واقتصادياً، وبينهم من سار بينهما قواماً.
وكان تللي قال إن جهود بناء الدولة في أوروبا قبل حداثتها بدأت باحتكار وسائل البطش في حدود منطقة بذاتها. وفي السياق تفجر الصراع بين الطامحين لتكوين تلك الدولة في ما سمي بـ"التراكم البدائي للشوكة". فالحاكم المنتظر للدولة يحارب منافسيه ليقهرهم بأن يراكم الموارد التي يستولي عليها غلاباً ويؤسس لبنيات عسكرية وإدارية ومالية. فالحرب، التي عرفت بحروب الأعوام الـ39 (1618-1648)، هي التي أخرجت الدولة الأوروبية الحديثة للوجود.
ونصح باحثون أن تدرس كل حالة في تكون الدولة الحديثة في البلدان النامية على حدة لنقف على صدق أطروحة تللي عليها. ومهما يكن من أمر هذا النقاش عن تكون الدولة فتأفف الصفوة الحداثية عندنا من الحرب الدائرة يحول دونها ومعرفة دلالاتها في عملية بناء الدولة السودانية واللواحق منها عليها.
بدا من صفوة الحداثة أنها كمن يستنكر الحرب، أو يحتج عليها، لا الذي يحللها بأدوات العلم لمعرفة أين تقع من عملية بناء الدولة السودانية. وهذا المزاج للاحتجاج على الظواهر من دون درسها مما نبه له "دي وال" بنباهة. فقال إن الغضب هو الموتور الوحيد من وراء السياسة في السودان. وزاد بأن ويل للأمة إذا كان الغضب هو بئر الطاقة الوحيد الذي تمتح منه.



IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدولة الحدیثة بناء الدولة تکون الدولة فی السودان الدولة فی

إقرأ أيضاً:

بين الغضب والسخرية.. هل نجح نتنياهو في استفزاز مشاعر المغاربة؟ (شاهد)

لا يزال رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يُواصل محاولاته في استفزاز مشاعر المغاربة، إذ عمِل على إشهار خريطة للدول العربية كانت فيها المملكة المغربية مبتورة من الصحراء، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لموجة سخط، غير مسبوقة.

وبين من يؤكد أن "المغرب في غنى عن اعتراف الكيان المحتل بمغربية الصحراء" ومن يستفسر: "كيف نثق بمجرم حرب ومُحتل؟"، تسارعت التغريدات والمنشورات على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، من المغاربة المعربين عن غضبهم.

الفيديو الذي يفضح نوايا نتنياهو تجاه الصحراء ويفضح المطبع المغربي بوجود بلادة سياسية في التعامل مع ملف الصحراء وغياب فهم استراتجية الاحتلال من التطبيع المغربي، ألا وهو تمكين الكيان الصهيوني من الدخول للمغرب ليدمر الشعب والمنطقة المغاربية.. ليكون الشعب أكثر وعيا من النظام المغربي pic.twitter.com/MCdBjt2FVr — hicham tawfik هشام توفيق (@hichamtowfik) May 30, 2024
من البداية
في حوار له مع قناة "إل سي إي" و"تي في 1" الفرنسيتين الرسميتين، تطرّق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي إلى التصعيد في الأراضي الفلسطينية، كما قام بإظهار خريطة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا يظهر فيها المغرب بدون صحرائه.

من جهته، كتب حسن كعبية، وهو المتحدث باسم وزارة خارجية الاحتلال الاسرائيلي للإعلام العربي، "إن ذلك حدث بسبب خطأ غير مقصود وإن اسرائيل ستقدم توضيحا لجلالة الملك محمد السادس". متابعا: "إن القدس لن تتراجع عن اعترافها بمغربية الصحراء".

وفي الوقت الذي التزمت فيه السلطات المغربية الصمت، بخصوص هذه الحركة؛ رجّت مختلف منصات التواصل الاجتماعي، بجُملة متسارعة من التغريدات والتدوينات الغاضبة، التي كشف فيها المغاربة عن "سخطهم" من هذا التصرّف.

الصورة من لقاء المجرم #نتانیاهو الذي أجراه قبل قليل مع القناة الفرنسية @TF1 ... باعوكم الوهم هاهو نتنياهو يصفعكم جميعا شاهدوا خريطة المغرب مقسمة pic.twitter.com/tDpVSEod7p — حميد المهداوي???????? (@hamid1259) May 30, 2024
مواقف المملكة المغربية ثابتة بخصوص القضية الفلسطينية.. ولذلك خرج هذه المتط..رف لمحاولة ابتزاز????????
أعتقد أن المغرب طوى صفحة نتنياهو وعلى الكيان أن يختار العقلاء للحكم إذا ما أراد فعلا أن يكون هناك سلام دائم في المنطقة.. أما نتنياهو فهو تاجر حرب بامتياز@MarocDiplomatie#رفح_تُباد pic.twitter.com/njFib4mT2x — د. عبدالحق الصنايبي (@abdelhaksnaibi) May 30, 2024
ورصدت "عربي21" عدّة تدوينات، أعرب أصحابها عن رفضهم الكامل لتصرف رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بينها تدوينة للصحفي، محمد أحداد، التي جاء فيها: "السياسة كما الفقه تمارس بالمقاصد ومقصد هذه الصورة واضح جدا ولا يقبل التأويل: الابتزاز. لا يمكن لمجرم حرب وقاتل أطفال وسفاح وسليل الفكر الاستعماري أن يعرض على قناة فرنسية تحظى بنسبة مشاهدة محترمة، صورة تبتر المغرب من صحرائه دون "مقصد" سياسي".


وتابع، أحداد: "قضية الصحراء هي قضية كل المغاربة؛ وقضية كل مواطن حر يعاني من مشكلة خلقها الاستعمار، لذلك على الدولة أن ترد بحزم على هذا "الكلب" لأنه في القضايا المصيرية لا يوجد ثمة حل وسط أو مرونة دبلوماسية".

بدوره، كتب المنتج التلفزيوني، المصطفى العسري، عبر حسابه على منصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "︎مغربية الصحراء لا تحتاج لدعم.. كيان احتلالي استيطاني قاتل"، مضيفا: "مغربية الصحراء صنعها المغاربة قاطبة.. ملكا وشعبا وجيشا.. دافعهم إلى ذلك إيمانهم وعقيدتهم وتاريخهم..".


وأضاف العسري: "حفظ الله المملكة ضمن حدودها التاريخية الحقة.. وحرّر فلسطين قاطبة من النهر إلى البحر.. ومن رأس الناقورة إلى رفح .. ومن أم الرشراش إلى بحيرة طبرية..".

وفي السياق نفسه، تداول عدد من رواد منصات التواصل، عدّة منشورات ساخرة، للتعبير من خلالها على السخط نفسه.



ليست المرة الأولى
أشار عدد من رواد منصات التواصل، إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يستفز فيها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي مشاعر المغاربة، حيث سبق أن برزت خريطة المغرب منقوصة من الصحراء خلال استقباله لرئيسةَ وزراء إيطاليا، جورجا ميلوني.

تجدر الإشارة إلى أنه خلال تموز/ يوليوز الماضي، أعلنت دولة الاحتلال الإسرائيلي عن اعترافها بسيادة المغرب على أراضي الصحراء، وذلك عبر رسالة وجّهها بنيامين نتانياهو، إلى العاهل المغربي.

إلى ذلك، كان بيان للديوان الملكي المغربي، قد أشار، نقلا عن الرسالة إلى أنه سيتم "إخبار الأمم المتحدة، والمنظمات الإقليمية والدولية التي تعتبر إسرائيل عضوا فيها، وكذا جميع البلدان التي تربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية بهذا القرار".


وفي سياق متصل، تشهد عدّة مدن مغربية، مسيرات غاضبة، لم تتوقّف، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، للتأكيد على التضامن الشعبي المغربي الكامل مع الأهالي في قطاع غزة المحاصر، وأن القضية الفلسطينية في صلب اهتمامات المغاربة، حيث إنها البوصلة.

"الشعب يريد إسقاط التطبيع".. من مظاهرة مدينة الدار البيضاء (عين الشق) #جمعة_الغضب السابعة
لأجل الأقصى.. لأجل غزة#غزة_تنتصر #الهدنة_الإنسانية pic.twitter.com/qjqu9AW0By — الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة (@nosraorg) November 24, 2023
ويستمر المغاربة، رفع جُملة من الشعارات واللافتات التي تؤكد على مطالب إسقاط كافة أشكال التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.

مقالات مشابهة

  • «دار البر» تطلق حملة الأضاحي بـ 5.3 مليون درهم
  • الدين والدولة في السودان
  • الاتحاد الأوروبي يدرس فرض عقوبات جديدة على أفراد في السودان
  • أبو حمزة مخاطبا الصهاينة: وقف الحرب هو الطريق الوحيد لاستعادة أسراكم
  • أبو حمزة للصهاينة: وقف الحرب هو الطريق الوحيد لاستعادة أسراكم
  • باحث فلسطيني: نتنياهو يرفض إتمام صفقة لتحرير المحتجزين لأنها تضر بمصالحه السياسية
  • أمين حسن عمر لـعربي21: التيار الإسلامي مؤهل لقيادة السودان في مرحلة ما بعد الحرب
  • بين الغضب والسخرية.. هل نجح نتنياهو في استفزاز مشاعر المغاربة؟ (شاهد)
  • السودان.. “رفض” محادثات السلام ينذر بخطر تدخل “خبيث” لإطالة أمد الحرب
  • السودان.. رفض محادثات السلام ينذر بخطر تدخل خبيث لإطالة أمد الحرب