ربيع الجامعات الأمريكية المساند لغزة!
تاريخ النشر: 27th, April 2024 GMT
د. محمد بن عوض المشيخي **
يُعد ربيع الجامعات الأمريكية وحراك طلبتها المُبارك لمُساندة غزة التي خذلها أربعمائة مليون عربي، باستثناء عدد قليل من الدول التي لها مواقف في مستوى الحد الأدنى من التضامن المعنوي، وليس بمستوى طموح تلك الشعوب؛ إذ لا يتجاوز عددها أربع دول عربية ما بين أكثر من 20 دولة في مُقدمتها سلطنة عُمان.
وتمثل تلك الاعتصامات والوقفات السلمية، أجمل لوحة يسطرها الطلبة والأكاديميون في أروقة الجامعات الأمريكية؛ فهذا التضامن الإنساني نحو تحقيق حلم الفلسطينيين باستعادة دولتهم التي تمتد من البحر إلى النهر، كل فلسطين أصبح أقرب للحقيقة من أي وقت مضى. فنحن نعيش اليوم زمن التدفق المعلوماتي من الجنوب إلى الشمال من خلال منصات التواصل الاجتماعي التي مكنت شباب غزة من التعريف بقضيتهم، لأقرانهم في هذا العالم المُترامي الأطراف الذي تحوَّل بفضل الثورة المعلوماتية إلى منزل صغير، فقد ذهب زمن احتكار وسيطرة الإمبراطوريات الإعلامية الغربية وشبكاتها ووكالاتها المتحيزة للشمال بلا رجعة؛ والتي تعتمد على جيوش من المراسلين والإعلاميين منتشرين حول العالم وتمارس ما يُعرف بحراس البوابات الإعلامية لكونها مملوكة في المُجمل للوبيات مساندة للصهيونية ومعادية للعرب.
شمس الحقيقة تجلّت بوضوح، فقد يستطيع البعض أن يُمارس الدعاية والتضليل والأكاذيب على الناس بعض الوقت؛ ولكن من المستحيل أن تحجب الحقائق الدامغة عن الجماهير على الدوام. والمزاعم الصهيونية التي تقول إنَّ فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"- والمقصود هنا جمع اليهود من أشتات وتوطينهم مقابل تهجير أصحاب الأرض الأصليين- قد أصبحت مكشوفة ولا يمكن تصديقها بعد اليوم؛ إلّا من الضالين ومحامي الشيطان. وعلى الرغم من ذلك تمَّ تسويق هذه الافتراءات بنجاح بل وتنفيذها من الدول الاستعمارية خاصة بريطانيا وأمريكا وألمانيا والوكالة اليهودية منذ عدة عقود من الزمن، بل وحتى من زمرة من العملاء الذين ينتمون لهذه الأمة؛ من هنا توفرت الظروف لهذا الكيان الغاصب على أرض الرباط، وفيها مسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى؛ فترتب على ذلك الظلم، حصول النكبة في أواخر الأربعينيات، ثم نكسة حرب الأيام الستة، وما ترتب على ذلك من إبادة وقتل وتهجير ونزوح قسري للفلسطينيين.
وكما هو معروف أن حبل الكذب لا يدوم، فقد أصبحت تلك الادعاءات على المحك، بل تحولت باعتبارها ضمن الأكاذيب التي تكشفها حقائق على أرض الواقع. وخلال الأسبوع الماضي اتضح للعالم دعاية عصابة نتنياهو وأكاذيبها الرخيصة على العالم في العديد من الحقائق التي تهم الرأي العام العالمي، فقد شكلت المظاهرات والاعتصامات في الجامعات الأمريكة تحدياً غير مسبوق وفضيحة من العيار الثقيل بالنسبة للوبي الصهيوني في أمريكا وكذلك لرئيس الحكومة الإسرائيلية والبيت الأبيض معًا، ويمثل ربيع الجامعات الأمريكية أجمل قصة نجاح للأمة الإسلامية ويعود هذا الإنجاز غير المتوقع للإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، ولأوَّل مرة في التاريخ الوصول للمجتمع الدولي واختراق عقول طلبة العلم الذين يمثلون قادة المستقبل في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وإطلاعهم على المسكوت عنه من الجرائم بحق الإنسانية، فقد تمكن هؤلاء الأحرار الذين يمثلون الصفوة من التعرف على الوجه الحقيقي لإسرائيل وقتلها الممنهج لمجتمع أعزل والمتمثل في قتل عشرات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ في فلسطين المُحتلة.
كانت ساحات وإحرامات جامعات هارفارد وكولومبيا وييل ونيويورك ومساتشوستس وتكساس وجورج واشنطن في موعد مع الاعتصامات الطلابية والمُظاهرات القوية والمُنددة بالتطهير العرقي في فلسطين وتدعو إلى وقف الإبادة في غزة وكذلك قطع العلاقات والدعم المالي والعسكري الذي تقدمه الحكومة الأمريكية وجامعاتها لهذا الكيان السرطاني المتمثل في إسرائيل. فقد كشفت استطلاعات الرأي أن 70% من طلبة الجامعات الأمريكية قاطبة؛ يُطالبون الآن وبدون تأخير، بوقف التعاون العسكري في مجالات البحوث والاختراعات المتعلقة بصناعة الأسلحة مع الجيش الصهيوني الذي يفتقد إلى الإنسانية ويُمارس الإرهاب على الشعب الفلسطيني.
من المؤسف حقًا أن يرى العالم من أقصاه إلى أقصاه عبر شاشات التلفزيون والأجهزة الذكية، الضرب المُبرح وسحب على الأرض لطلبة في مقتبل العمر، وكذلك أساتذتهم في مُعظم تلك الجامعات، وذلك من كتائب مكافحة الإرهاب والشرطة الأمريكية؛ فقد تم اعتقال أكثر من 500 طالب وطالبة؛ إذ كانت المشكلة هي كشف الحقيقة للنَّاس؛ فهناك ضمير إنساني دفعهم إلى التضامن مع المظلومين والجياع والمهجرين في غزة، ويحصل ذلك في بلد يزعم بأنه قدوة للحكومات الديمقراطية في العالم الحر الذي ظهر على حقيقته أمام الملأ، بينما التهمة الجاهزة لمن قال كلمة حق عن الصهيونية وحلفائها من الساسة والمرتزقة الغربيين؛ هو معاداة السامية هذه الأسطوانة المشروخة التي تستخدم في إرهاب الناس حول العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
يجب تذكير هؤلاء الذين ينظرون بعين واحدة للأمور، أن من يرتكب ضده الإبادة والمحرقة التي يقودها التطرف الصهيوني في غزة هذه الأيام هم أبرياء من الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود عبر التاريخ، فالأروبيون هم أكثر الشعوب الضالعين في المحرقة وكذلك القتل والطرد لليهود خلال القرون الماضية، بينما عاش اليهود بسلام واستقرار في أرجاء الدولة الإسلامية من بغداد إلى غرناطة؛ إذ كانوا أطباء ومستشارين وتجار في كنف العرب والمسلمين إلى أن تم التحالفهم البغيض مع الاستعمار البريطاني، وذلك على خطى بلفور ووعده المشؤوم؛ لأنه أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق.
وفي الختام.. ونحن نكتب هذه السطور تنتشر المظاهرات المساندة لفلسطين في معظم الجامعات الأمريكية مثل النَّار في الهشيم؛ بل بدأت الجامعات الأوروبية خاصة فرنسا تتفجر فيها الوقفات التضامنية مع غزة.. لقد أنطق الحق هذه النخب من طلبة العلم وأصحاب الفكر في العالم، وسط ذهول حكام إسرائيل المتطرفين وكذلك الرئيس الأمريكي ورئيس مجلس النواب الأمريكي، الذين عبرا عن صدمتهما بما يحدث في أروقة بيوت العلم الأمريكية من حقائق كانت مغيبة عن الرأي العام الأمريكي منذ فترة طويلة.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عن الذين خاطروا بأنفسهم وأموالهم فلم يرجعوا من ذلك بشيء
مع إقبال أيام العشر من ذي الحجّة يبدأ الحديث عن فضائل هذه الأيّام وعن فضل العمل الصّالح فيها وأنّ العمل الصالح فيها أفضل من الجهاد في سبيل الله تعالى، وعمدة الاستشهاد على هذا المعنى هو الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذه، قالوا: ولا الجِهادُ؟ قالَ: ولا الجِهادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِه ومالِه، فلَمْ يَرْجِعْ بشَيءٍ". وللحديث رواية قريبة عند الترمذي وغيره يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ. قالوا: يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ".
عادة ما ينصبّ الاستشهاد والاستدلال بهذا الحديث على أنّ العمل الصالح بمفهومه العام أفضل حتى من الجهاد في سبيل الله تعالى، وقلّة هم الذين يلتفتون ويتوقفون مليّا عند ذلك الرجل الذي خصّه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالذكر؛ مبينا أنّه لا يفوقه أحد فضلا ولا يتفوق عليه مؤمن عملا، وهو الرجل المخاطر بنفسه والمخاطر بماله ملقيا بها في مواطن الواجب والجهاد والنصرة فلم يرجع من نفسه ولم يرجع من ماله بشيء.
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلفت أنظار أمّته على مرّ الزمان إلى النّموذج الذي يصنع الفرق في الانتصار والتغيير، فكلّ الأعمال الصالحة جليلة، وكل الأعمال الصالحة خير وبركة، لكن عليكم أن تنتبهوا إلى أنّ أعظم الأعمال وأجلّ الأعمال التي لا يسبقها متسابق ولا يدرك شأوها مغامر؛ هي تلك التي تنطوي على إلقاء المرء نفسه في مواطن الخطر مقتحما ومضحيا وغير هيّاب بأحد.
إنّها المخاطرة بالنفس في زمن الخوف والركون وحب الدنيا وكراهية الموت وهيمنة الغثائيّة، والمخاطرة بالمال في زمن الملاحقة والاتهام، وتجفيف المنابع وتجريم الإنفاق في مواطن الحق والنصرة؛ المخاطرة وحدها التي ترهب العدو وتحرّر الأوطان وتصنع التغيير وتهدم الباطل وتحقّ الحقّ، وما أعظم تلك المخاطرة حين تبلغ منتهاها فيصل المال إلى موطن الواجب وتصل الرّوح إلى مستقرّها فتحطّ رحالها في الجنان التي طالما تاقت إليها، وهذا هو ما أشار له رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قيل له: "يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ".
وإنّ هذه المخاطرة بالنفس والمال منسجمة مع طبيعة هذه الأيّام التي هي أيّام التكبير المطلق ثم المقيّد، فمن عرف أنّ "الله أكبر" حقا وأيقن بذلك حق اليقين فإنّه لا يهاب ظالما ولا يخاف عدوا ولا يذل لمتغطرس ولا يتقهقر أمام عدوّ؛ وما أعظم الكلمات التي صدح بها الأستاذ والزعيم الإسلامي عصام العطار رحمه الله تعالى يوما على منبر مسجد جامعة دمشق وهو يهدر بمعاني "الله أكبر" في وجه الظالمين، وكان ممّا قاله يومها:
"اللهُ أكبـر رَمْزُ صُمودِنَا
اللهُ أكبـر روحُ جهَادِنا
اللهُ أكبـر سِـرُّ قُوّتِنا وانتصارِنا
اللهُ أكبـر بها صَدَعْنا كلَّ باطِل
اللهُ أكبـر بها قَصَمْنا كلَّ جَبّار
اللهُ أكبـر بها نُواجِهُ كلَّ طَاغُوت
اللهُ أكبـر، اللهُ أكبـر، اللهُ أكبـر، لا إلهَ إلاّ الله
اللهُ أكبـر، اللهُ أكبـر، ولِله الحمد
اللهُ أكبـر نَشُـقُّ بها دَيَاجيرَ الظلامِ والْيَأْس
اللهُ أكبـر نُوقِدُ بها مَصَابيحَ الأَمَلِ والْفَجْر
اللهُ أكبـر نَطْرُدُ بها روحَ الهزيمةِ والْوَهْن
اللهُ أكبـر نُحْيي بها مَيِّتَ العَزَائِمِ والهِمَم
اللهُ أكبـر نُحَوِّلُ بها الضعيفَ قوِيّا، والجبانَ شُجاعا، ونُحَقِّقُ بها انتصارَ الحريَّةِ والكَرامَة، والحقِّ والعَدالَة، والإحسانِ والْخَيْر
اللهُ أكبـر، اللهُ أكبـر، اللهُ أكبـر، لا إلهَ إلاّ الله
اللهُ أكبـر، اللهُ أكبـر، ولِله الحمد
يا إخْوَتي؛ يا أخواتي: امْلؤوا قُلوبَكُمْ وعُقولَكم، وحَنَاجرَكُمْ وَأَجْوَاءَكُم، وسَمْعَ الزَّمَانِ والمكانِ بهذه الكلمةِ العظيمةِ الخالدةِ: اللهُ أكبـر.
اللهُ أكبـر تُحَرِّرُكُمْ مِنْ أهوائكُمْ وشَهَوَاتِكُمْ وأخطائكُمْ، وظُلْمِكُمْ لأنفسِكُمْ وغَيْرِكم، كما تُحَرِّرُكم مِنْ كلِّ طاغيةٍ ظالمٍ آثِمٍ مُسـْتَكْبرٍ جَبّار.
اللهُ أكبـر تَرْفَعُكُمْ، عندما تُخالِطُ قُلُوبَكم وعُقولَكم وَدِمَاءَكُمْ، فَوْقَ هذه الدُّنْيا، فوقَ شـدائدِها وَمُغْرِياتِها، فوقَ صَغَائِرِها وَتَفَاهَاتِها، وتَصِلُكُمْ باللهِ عَزَّوَجَلّ وبالْخُلُود، وتَفْتَحُ لكُمْ أَبْوَابَ الجنّةِ، وأبوابَ المسـتقبلِ الزاهرِ المنشـود.
اللهُ أكبـر تجعلُ الحقَّ رَائِدَكُمْ، والعدلَ مَنْهَجَكم، والخيرَ بُغْيَتَكم، واللهَ قَصْدَكُمْ وغايَتَكُم، وتجعلُ قُوّتَكم مِنْ قُوَّةِ اللهِ عزَّ وجلّ".
فعندما تغدو القلوب والأرواح معجونة بهذا النداء العلويّ المهيب يُصنَع الرجل المخاطر بنفسه وماله الذي يقتحم مواطن الردى حاملا روحه على كفّه طالبا حياة حقيقيّة لا ذلّ فيها ولا هوان، وهذا الرّجل المخاطر هو أعظم العاملين في زمن الأعمال الصالحة والمواسم الفاضلة، فلا يسبقه حاجّ متبتّل، ولا يسبقه قائم لا يفتر، ولا يسبقه صائم لا يفطر؛ فهو الذي به يغدو الإسلام عزيز الجانب، ويجد المسلم معنى وجوده ومغزى بقائه؛ فطوبى للمخاطرين بأنفسهم وأموالهم في زمن الهزائم المرّة.
x.com/muhammadkhm