ما بين يوم وليلة تغير الحال، كانت الكلمة سلاحهم لمواجهة الحياة والقلم وسيلتهم في العيش فضاعت الكلمة وانكسر القلم، مئات الصحفيين السودانيين وجدوا أنفسهم دون وسيلة لكسب الرزق بعد أن أغلقت الصحف والمؤسسات الإعلامية أبوابها بفعل حرب أبريل  المشتعلة في السودان دون توقف منذ أكثر من عام، ضاعت أحلام الصحافة التي كانت تكافح لتحقيق حلم الوصول إلى حريتها المطلقة دون تقييد.

التغيير ــ خاص

يواجه الصحفيبون في السودان في ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة صعوبات ومخاطر عديدة من طرفي النزاع الدائر بالبلاد منذ 15 أبريل من العام الماضي، من قتل واعتقال وإخفاء وترهيب “.

صحفي سوداني نازح يعمل في بيع الخضروات بعد الحرب

وأعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة اليوم العالمي لحرية الصحافة في ديسمبر 1993، بناء على توصية من المؤتمر العام لليونسكو.
ومنذ ذلك الحين يحتفل بالذكرى السنوية لإعلان ويندهوك في جميع أنحاء العالم في 3  مايو باعتباره اليوم العالمي لحرية الصحافة.
وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على اعتماد هذا الإعلان، لا تزال العلاقة التاريخية بين حرية التقصي عن المعلومات ونقلها وتلقيها من جهة، وبين المنفعة العامة، مفقودة خاصة في المناطق التي تشهد حكما دكتاتوريا ويعد السودان إحدى تلك الدول التي يعمل طرفا الصراع فيها على حجب المعلومات عن الصحفيين وظلت غرفهم الإعلامية تنشر الشائعات وخطاب الكراهية الذي يعمل على تفتيت وحدة السودان”.

حالة سيئة

ويقول السكرتير العام لنقابة الصحفيين محمد عبد العزيز إن الحالة التي يعيشها الصحفيون السودانيون تُعد الأسوأ منذ تأسيس الدولة السودانية، بعد تدمير 90 % المؤسسات الصحفية بالكامل، و أكد أنه تم تسجيل 400 حالة اعتداء بحق الصحفيين من ضمنها 6 حالات قتل.
وأشار عبد العزيز إلى أن أبرز التحديات التي تواجه الصحفيين تتصل بمخاطر الحرب والأوضاع الأمنية المتردية والاستهداف الممنهج من طرفي الصراع الذين ينظرون للصحفي بأنه عدو  لجهة أن مهنة الصحافة أصبحت جريمة”.
وأوضح، أن جزءا كبيرا من الصحفيين فقدوا أدوات عملهم وتناقصت أعدادهم في أماكن الاشتباكات وانعكس ذلك على التغطية الصحفية ما خلق حالة من “الإظلام الإعلامي، الذي ساعد في غياب المعلومات الحقيقة وانتشار خطاب الكراهية”.

صحفي سوداني يعمل في بيع الأطعمة

وتوعد عبد العزيز  بملاحقة مسيري خطاب الكراهية ضد الصحفيين وملاحقة الجهات المتورطة وتقديمها لمحاكمات بعد إيقاف الحرب وقيام المؤسسات المدنية “.
ولفت إلى أن نقابة الصحفيين وضعت سلامة الصحفي من ضمن أولوياتها وأقامت عددا من الورش التدريبية عن السلامة المهنية في التغطية الصحفية في النزاعات”.
وكشف السكرتير العام، عن وضع النقابة لخطة عمل للمناصرة تطلقها قريبا “.

مهن هامشية

وعلى شبكات وسائل التواصل الاجتماعي انتشرت صور عشرات الصحفيين وهم يبدأون رحلة عمل جديدة ما بين بيع الخضروات وإعداد الأطعمة وتكسير الحطب لمواجهة الظروف المعيشية الجديدة”.
ويقول الصحفي (ر. م)، إن ظروف الحرب اضطرته إلى العمل في أعمال هامشية لتوفير لقمة عيش، بعد أن فقد وظيفته وتوقف راتبه “.
ويضيف: لـ “التغيير”: “واجهت ظروفا اقتصادية سيئة وفقدت كل ما أملك لذلك قررت اللجوء للعمل لتوفير لقمة العيش لأسرتي التي كانت تعتمد على بشكل مباشر “.
وتابع:” رغم أن العمل الذي أقوم به متعب وشاق إلا أنه لم يوفر المبلغ المجدي من أكل وشرب وإيجار لذلك قررت السكن في أحد مراكز الإيواء التي يواجه في الصحفيين ظروفا إنسانية بالغة التعقيد “.
ويعاني الصحفيون أوضاعا اقتصادية وأمنية صعبة ويجدون مضايقات أمنية من طرفي الصراع الذين ينظرون إلى الصحفي بأنه عدواً لهم، لذلك يعمل الصحفيون على إخفاء هوياتهم خاصة عند التنقل ونقاط التفتيش خوفا من الضرب والاعتقال”.
ورسمت أمينة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين، إيمان فضل السيد، صورة قاتمة لواقع الحريات الصحفية في السودان بعد مرور عام على الحرب ووصفت الوضع بالمزري جدا “.
وقال إيمانا لـ “التغيير “، منذ الوهلة الأولى لحرب 15 أبريل، تحولت وسائل الإعلام لأهداف مشروعة لطرفي الصراع، وفقد ألف صحفي وظائفهم وهذه النسبة تمثل 50 % من العدد الكلي المسجلين في سجل النقابة، ما أجبر بعضهم للتوجه إلى العمل في مهن هامشية”.
وأكدت، إيمان أن إغلاق الصحف أدى إلى تراجع في الحريات الصحفية، بسبب غياب المعلومات والإخبار  ذات المصداقية، وتراجع التغطيات الملتزمة بأخلاقيات وأهداف المهنة لصالح الإعلام الحربي والأخبار المضللة، فإنتشرت الشائعات واحتكر طرفا الصراع المعلومات، ومن صم بث معلومات مفبركة خاضعة للآلة الإعلامية للحرب، ما أدى إلى تفشي  خطابات العنصرية التي وجدت المجال واسعا لانتشارها “.
وأشارت إلى أن جريمة قطع خدمات الاتصال والإنترنت  كانت من أكثر الانتهاكات التي عمقت وزادت من تعقيدات العمل الصحفي على الأرض، وأيضا لعمليات الرصد والتوثيق في الفترة الماضية خاصة في ولايات دارفور التي انقطعت فيها الخدمة منذ أكثر 8 أشهر وأيضاً 80 % من ولايات السودان انقطعت عنها خدمات الاتصال والإنترنت لمزيد من التعتيم الإعلامي الذي يحدث على الأرض، ما يجعل مزيداً من الضغوط على الصحفيين والمواطنين بحرمانهم من أبسط الحقوق ومن بينها الحصول على المعلومات”.
وكشفت إيمان عن فقد النقابة التواصل مع عدد من الصحفيين لأكثر 8 أشهر و معرفة المصير الذي يواجههم، وما يحدث من نزوح وتشرد ولجوء “.
ولفتت إلى أن عدد الصحفيين الموجودين الآن في ولاية الخرطوم لا يتجاوز ال (100) صحفي، وفي ولايات دار فور نحو 60 صحفيا، وفي ولاية الجزيرة أقل من 20 صحفياً وهذا الأمر ينعكس على بقية الولايات”.
وتابعت: “بعض الصحفيين عبروا الحدود في ظروف سيئة وبعضهم غادر بصورة غير شرعية نسبة لتعرضهم للاستهداف المستمر ما أثر على ظروفهم المهنية و ايضاً يواجهون ظروفاً صعبة في دول اللجوء”.
وتروي الصحفية حفيظة موسى، التي اضطرتها ظروف الحرب إلى اللجوء لدولة أوغندا بحثاً عن الأمان الذي فقدته في مدينتها زالنجي بولاية وسط دارفور غرب السودان.
وتقول حفيظة لـ “التغيير”، خرجت وكانت متوقعة الموت في أي لحظة بسبب المطاردات التي حدثت لي في مدينة زالنجي، وظلت ابحث لأربعة أسابيع عن مخرج آمن، بعدها قررت الخروج متنكرة حتى لا يتعرف علي في نقاط التفتيش ويعرضني ذلك للأذى، وقضت رحلة خروجي من إقليم دارفور أكثر من أسبوع حتى وصلت حدود دولة الجنوب، ومنها إلى دولة أوغندا ”
حفيظة كانت ترسم لنفسها واقعا مغايرا لما كانت عليه في السودان وبمجرد وصولها إلى الأراضي الأوغندية زادت معاناتها التي استمرت لعام كامل، ولكنها انصدمت بواقع مختلف، وظلت تبحث عن فرص عمل تكسب من خلاله مبلغ مالي يساعدها على العيش في كمبالا ومساعدة أسرتها التي ما زالت عالقة في إقليم دارفور، فبدلا من مساعدة أسرتها أصبحت تطلب منهم المساعدة”.
وختمت حفيظة قولها بأنها لن تستسلم وستواصل في كفاحها حتى تحصل على فرصتها كاملة بمواصلة عملها الصحفي من أجل إيصال صوت من لا صوت له خاصة إنسان دارفور الذي يعاني من القتل والجوع والتشريد “.
وتواصل أمينة الحريات بأن حالات الانتهاك المسجلة ضد الصحفيين بلغت 993 حالة موثقة، في مقدمتها القتل حيث قتل 6 صحفيين من بينهم صحفيتان، و الاعتداء الجسدي والإصابات 8 حالات من بينها 3 حالات لصحفيات من بينها اعتداء جنسي واحدة”.
والاختفاء القسري والاعتقال 39 حالة من بينها 5 صحفيات، التهديدات التي تمت بشكل مباشر للصحفيين عبر الهاتف أو الرسائل 43 حالة من بينها 16 حالة لصحفيات، وإطلاق النار 28 حالة في الطرقات من بينهم 10 صحفيات، والاحتجاز في أماكن العمل ما لا يقل عن 100 صحفي وصحفية اعتقلوا في أماكن عملهم تم إجلاؤهم بواسطة الصليب الأحمر، وتم احتجاز صحيفتين في أماكنهم “.
و شملت الانتهاكات الاعتداء بالضرب ونهب الممتلكات الشخصية و في التوقيف في نقاط التفتيش تم تسجيل 27 حالة من بينها 3 صحفيات”، أما المؤسسات الصحفية التي تعرضت للمداهمة والتدمير بلغت 29 مؤسسة “.
وأردفت:” لا يمضي يوم من أيام الحرب إلا وتتعرض منازل الصحفيين لعمليات نهب ومداهمة وإتلاف وهذه حالة عامة لجميع منازل المواطنين “. وقالت ما لا يقل عن 100 منزل صحفي وصحفية تم نهبها و بلغت التهديدات ضد المؤسسات الصحفيين والأجسام النقابية 10 مؤسسات”.
ويواجه كثير من الصحفيين السودانيين متاعب أكبر في الواقع من تلك التي اعتادوها، من قبيل عجزهم عن توفير متطلبات الحياة الضرورية لأسرهم في ظل رحلة نزوح ولجوء قسرية ما زالت مستمرة بعد عام من الحرب”.

الوسوماغتصاب اليوم العالمي انتهاكات تشريد حرية الصحافة قتل نهب

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: اغتصاب اليوم العالمي انتهاكات تشريد حرية الصحافة قتل نهب

إقرأ أيضاً:

أصداء الطوفان.. حين تصير الكلمة بندقية

حين تصير الكتابة فعل نجاة، ويغدو الحرف مركبا صغيرا في بحر متلاطم الأمواج، نحتاج إلى أكثر من محلل سياسي أو مراسل حربي… نحتاج إلى شاهد يسجّل بالألم ما عجزت عنه المصوِّرات/أجهزة التصوير، شاهد يكتب ليقاوم النسيان فضلا عن أن يقنع أو يؤثر.

كتاب عبد الحي كريط "أصداء الطوفان؛ صوت غزة في زمن الانكسار" ليس مجموعة مقالات أو حوارات عابرة عن حرب مروّعة فحسب، بل هو وثيقة وجدانية فكرية، تقف على تخوم الصدمة، وتعيد تعريف المثقف بوصفه أولا إنسانا محكوما بالحب والعجز تحرقه أخبار المجازر والشهداء، قبل أن يكون كاتبا أو خبيرا أو مثقفا. والكتاب صدر حديثا عن دار مؤسسة أفرا للدراسات والأبحاث.

في هذا المقال، نفتح صفحات هذا العمل، لننصت إلى صوت مختلف للكتابة، صوت يجرّح أكثر مما يداوي، لكنه يصرّ على أن الكلمة، إذا كُتبت بلسان صادق، فقد تَشِي بشيء من المعنى، وتحفظ شيئا من المعنى ومن ماء الوجه في عالم فقد كل معنى.

يشكّل كتاب أصداء الطوفان صوت غزة في زمن الانكسار للكاتب والصحفي المغربي عبد الحي كريط، عملا أدبيا وفكريا مختلفا في مرحلة من تاريخ العروبة يتآكل فيها المعنى وتتشظى فيها القيم تحت وطأة القتل الجماعي والتواطؤ السياسي والإعلامي، والكتاب لا يأتي في صيغة توثيقية نمطية، ولا يتخذ من الحياد قناعا، بل ينهض بوصفه موقفا أخلاقيا، وصيحة احتجاج ضد الصمت، وانحيازا صارخا للحياة في وجه آلة القتل والتدمير الصهيونية المستمرة.

في مقدمة الكتاب، يعلن عبد الحي كريط بوضوح انحيازه الإنساني والسياسي حين يقول: "لا أكتب من موقع الراوي المحايد، بل من موضع الشاهد المنكسر.. المنحاز للحياة في وجه الموت، وللكلمة في وجه القصف". هذه العبارة تتجاوز كونها افتتاحية لتتحول إلى إعلان نية جريء، حيث يحدد الكاتب من البداية موقعه، فهو ليس مجرد مؤلف يسرد، بل هو إنسان يكتب بجرح نازف من قلب اللهيب لا من شرفات التحليل البارد.

إعلان بنية ثلاثية للبوح والتفكيك والتطهير

يمتد الكتاب على نحو 170 صفحة، ويعتمد بنية ثلاثية متكاملة تجمع بين الحوارات، والمقالات التحليلية، والنصوص الشعرية، في مزج عضوي بين الفكر والإبداع؛ بين العقل والوجدان، هذا التقاطع البنيوي لا ينبع من رغبة في التنويع الشكلاني، بل من وعي بالوظيفة التكاملية للثقافة حين تصبح درعا في وجه التفاهة، وصوتا في زمن الانكسار.

أما في القسم الحواري، فيجري كريط لقاءات مع عدد من المثقفين الفلسطينيين والعرب والإسبان، وهو لا يستدعيهم بوصفهم شهودا على المأساة فحسب، بل شركاء في صياغة ذاكرة مقاومة، هؤلاء المثقفون لا يكتفون بوصف الفاجعة، بل ينخرطون في فعل تطهيري للوعي، ويتمرّدون على منطق الوصاية الذي ينطق عن غزة من الخارج، وبذلك، يصير الحوار طقسا جمعيا للبوح، واستعادة صوتية لكرامة مهدورة في زمن التواطؤ.

وأما القسم التحليلي، فيشكّل محورا نقديا عميقا يتناول السياقات السياسية والإعلامية لما بعد 7 أكتوبر، في ظلال عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من عدوان غير مسبوق على غزة، هنا يستعمل عبد الحي كريط المقالة بوصفها أداة لتفكيك الخطاب العربي الرسمي، ويُسائل صمت الأنظمة، ويكشف آليات تدجين الوعي وتصيير المأساة "محتوى"، وتحويل الدم إلى مشهد يعاد تدويره بلا أثر ولا مساءلة، تخرج هذه المقالات من دائرة التحليل لتدخل نطاق المحاكمة، حيث تُعري تواطؤ الإعلام الموجّه، وتفكك خطابات الشرعنة التي تحيط بالاحتلال من كل جانب.

وأما في بُعده الإبداعي، فيقدّم كريط نصوصا شعرية نازفة كتبت كما لو أنها خرجت من ذاكرة محاصرة، هذه النصوص لا تغرق في الحزن ولا تستجدي التعاطف، بل تصوغ الألم في قالب فني، يربك القارئ، ويوقظ ضميره، إنها كتابة ترفض الشفقة وترفض أن تُروى غزة حكاية حزينة، بل تصرّ على رسمها ملحمة إنسانية عصية على المحو والنسيان لا يضرها من خذلها.

الكلمة فعل مقاومة

ليست "أصداء الطوفان" كتابا عن غزة فقط، بل عن الامتحان الأخلاقي للوعي العربي المعاصر، إنه بمثابة مرآة كاشفة لا يعري انهيار دعاوى حقوق الإنسان فحسب، بل يعري انهيار المعنى ذاته حين تُختزل المأساة في تدوينات عابرة، أو حين تصبح الجرائم وقودا لدورة إعلامية سريعة الزوال، وهنا لا بد للكتابة أن تعيد اكتشاف دورها التاريخي، بعيدا عن الزينة والتأنيق، ورغبة النجاة الفردية، أداة للمواجهة، وللفضح والتعرية، وللتذكير بأن اللغة قادرة على أن تكون سلاحا حين تعجز البنادق عن الوصول.

بهذا المعنى، لا يمكن تصنيف أصداء الطوفان ضمن الكتابات الأدبية أو السياسية فحسب، بل هو مشروع في مساءلة الضمير العربي، واستعادة للثقافة بوصفها فعلا حيّا يتجاوز الاستهلاك، ويجابه الانحلال القيمي بكل أشكاله، لقد عرف القارئ عبد الحي كريط من قبل في مؤلفاته مثل "مدارات ثقافية: الشمس تشرق من المغرب ونوافذ حوارية في الأدب الإسباني"، حيث يتقاطع النقد الثقافي مع الحوار المتوسطي، لكن عمله الجديد يذهب أبعد، إذ يتحوّل من التحليل إلى البوح، ومن التفسير إلى الصراخ الواعي، ومن التوثيق إلى الانخراط الوجودي.

في زمن يُقتل فيه الناس بالصوت والصمت معا يأتي هذا الكتاب ليقول إن الكتابة ليست فقط ملاذا بل ساحة مواجهة (وكالة الأناضول) في مواجهة الانكسار: الكتابة بوصفها ترميما للذاكرة

ربما تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه لا يُقدَّم أرشيفا للحرب، بل نقشا في الذاكرة الجمعية، ومحاولة لترميم الذات العربية الفلسطينية التي تتعرض للطمس اليومي، والكتاب ليس خطابا مباشرا، بل كتابة تستنطق الإنسان، وتُعيد له صوته واسمه ووجهه في زمن تعميم القتل وطمس الأثر.

إعلان

تسكن في صفحات هذا العمل صرخات الأطفال، ونواح الثكالى، وبكاء الأيامى، وأصوات البيوت المهدّمة التي تنطق بالحياة والذكريات وسط الركام، لكنه، على خلاف العديد من النصوص، لا يعزف على وتر الرثاء، بل يصرّ على أن تكون الكلمة فعل نهوض، لا نعيا، وأن تكون القراءة مشاركة في المقاومة لا تضامنا شعريا عابرا.

ومن المتوقع أن يُعرض أصداء الطوفان في عدد من المعارض العربية خلال الموسم الثقافي المقبل، وسط اهتمام متزايد بالأعمال التي تردّ الاعتبار للثقافة بوصفها ذاكرة حية لا وثيقة صامتة، بهذا الظهور المتوقَّع، ينضم الكتاب إلى موجة من الإنتاجات الفكرية التي تُعيد للثقافة دورها الأخلاقي، في زمن هيمنت فيه الأدوات التقنية على المعنى، والصورة على الوجدان.

ففي زمن يُقتل فيه الناس بالصوت والصمت معا، يأتي هذا الكتاب ليقول: إن الكتابة ليست فقط ملاذا، بل ساحة مواجهة، وإن الصمت لم يعد حيادا، بل خيانة، يقول كريط في عمله: "الحياد في زمن المذبحة خيانة للضمير"، وهكذا، يصبح أصداء الطوفان بيانا أدبيا وسياسيا ضد البلادة، وصرخة مكتوبة في وجه انكساراتنا المتكررة.

في أصداء الطوفان، يتجاوز عبد الحي كريط وظيفته كاتبا ليصبح شاهدا على عصر فقد فيه الإنسان إحساسه بالكارثة. وبين الحوارات والمقالات والقصائد، تتشكل ملحمة ثقافية تُعيد رسم دور الكلمة حصنا أخيرا للكرامة، إنه كتاب يُقرأ لإعادة الحياة والمعنى لا للاستهلاك، ويقرأ للذكير والنصرة، لا للتسلية، ففي زمن الخراب، لا يزال هناك من يكتب ليذكّرنا بأن غزة ليست بعيدة، وأن المجازر وروائح الدماء وأصوات الشهداء والضحايا فيها لم تتوقف يوما، وأن الأصداء لا تزال قادرة على إرباك الصمت وفضح التخاذل.

مقالات مشابهة

  • ندوة المركز القطري للصحافة تكشف تفاصيل إبادة الرياضيين في  غزة
  • الرفض الاقليمي والدولي لإعلان جنرالات الحرب
  • روسيا تعلن حالة الطوارئ في الجزر التي ضربها تسونامي بعد الزلزال
  • بعد إعلان حكومة "تأسيس"...ما أسباب حالة الانقسام في السودان؟
  • ترامب يقلص المهلة التي منحها لبوتين لوقف الحرب
  • ترامب: أنقذت العالم من 6 حروب.. وسأقلل مهلة الـ 50 يوما التي منحتها لبوتين
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • غوتيريش يرفض استخدام الجوع سلاحا في الحرب
  • أصداء الطوفان.. حين تصير الكلمة بندقية
  • ماذا فعلت الأصابع الخفية في السودان؟