في اليوم العالمي لحرية الصحافة
معاناة الصحفيات في حرب السودان

أمل محمد الحسن

لا أستطيع أن أتخيل ما عانته “عرفة آدم” المذيعة الإذاعية، وهي تضطر لوضع مولودها على الحدود التشادية دون مساعدة طبية وفق ما حكت لموقع بي بي سي، فيما فقدت 3 من أطفالها الذكور تركت جثامينهم خلفها في الجنينة أكبرهم في عمر التاسعة!
لا أعرف كيف ستكون حالها في معسكرات النزوح رفقة 4 فتيات بلا مصدر عمل ولا خصوصية ولا حتى تمكنها من ممارسة دورها كصحفية في نقل الحقائق وهي مثقلة بكل هذه الأوجاع والفقد والتشريد والقمع!
تعرضت صحفية أخرى لحادثة مروعة، وهي حليمة إدريس التي كانت تراسل قناة سودان بكرة من العاصمة، ودهستها سيارة عسكرية تابعة لقوات الدعم السريع، ضمت نقابة الصحفيين صوتها لصوت القناة مطالبة بعمل تحقيق حول الحادثة، لكن من يحقق مع من وسط الحرب، ستبقى حرقة ألم فراقها بالنسبة لأهلها لا تنطفئ وهي لا تعلم من فعل ذلك ولماذا؟ ربما كانوا يقصدون إسكات صوتها، ربما كانت “ضررا جانبيا” بالنسبة لهم، لكنها ستظل حادثة مؤلمة ومفجعة لزميلاتها وزملائها وأهلها وللوسط الصحفي أجمع، فعلى الرغم من عدم معرفتي الشخصية بها أتذكر كيف وقع الخبر علي، وعلى عدد من الزميلات؛ كصاعقة تركت قلوبنا ممزقة لوقت طويل!
الموت هو سنة الأولين والآخرين؛ لكن التعرض للقتل أمر آخر؛ أن يقصد شخص أخذ حياة شخص آخر، مدني، لا يحمل سلاحاً، ولا يؤذي أحد هو شيء لا يمكن التصالح معه! كيف عندما تكون طريقة الموت هي سقوط قذيفة كالتي قتلت زميلة أخرى صحفية بإذاعة زالنجي “سماهر عبد الشافع” التي سقطت على منزلها بمعسكر الحصاحيصا بمدينة زالنجي لتودي بحياتها، وتسكت صوتا نسائيا إعلاميا عن الحديث إلى الأبد!
هذه نماذج لصحفيات نقلت وسائل إعلام مختلفة قصصهن، من فقدت حياتها ومن عاشت ظروفا قاسية، لكن هناك عشرات الصحفيات اللاتي كل واحدة منهن لديها قصة حول كيف تأثرت بهذه الحرب، من فقدت أقارب وأهل وأحباء، كيف اضطرت للنزوح أو اللجوء وتحت أي ظروف تركت منزلها وحياتها كما تعرفها.


فقدت العشرات من الصحفيات وظائفهن بعد توقف الصحف ومعظم وسائل الإعلام، سعيت بعضهن لتغيير وظائفهن والمحاولة لكسب الرزق بطرق أخرى، فيما لم تتمكن الأخيرات من ذلك! وفي ظل هذه الظروف ربما فقدن المعيل أو الزوج أو الأب، واضطررن للقيام بأدوار أخرى في الأسرة لم تكن من بين المسؤوليات التي تعودن عليها.
القصة الأولى التي ذكرتها، قصة “عرفة” والفقد الجلل الذي تعرضت إليه جراء الحرب، يجعلني أفكر في حجم الثقل الذي يضغط على قلبها، ويقفز هنا سؤلا حول حوجتنا للدعم النفسي كنساء صحفيات، أمهات وأخوات وصديقات، نتعرض لضغوط الحرب والوحشية كلها التي ترافقها، نتعرض للفقد بكل أنواعه، وضغوط العمل في مهنة المتاعب فيما يُعْتَبَر تحت هذه الظروف ترفا غير مبرر! فكيف ستكون مشاعرنا وحياتنا بعد نهاية هذه المآسي المستمرة؟
عندما أنظر لدارفور التي أيقظت حرب ال15 من أبريل جراحها التي لم تشف بعد، وتطورت فيها جرائم العنف المبني على الاختلاف الإثني، تلك النعمة العظيمة التي حبى بها الله السودانيين، وحولوها لنقمة وظلام دامس داخل القلوب يجعل الناس يقتلون من يختلف عنهم في اللون واللغة، التقيت العديد من الصحفيات المنتيمات لذلك الإقليم بدولة كينيا، وسمعت الكثير من القصص التي تدمي القلوب؛ مما تعرضن له هن أو أسرهن من عنف فقط لكونهن من قبيلة كذا أو كذا.
عندما نتحدث عما تتعرض له النساء الصحفيات في الحرب؛ أعتقد من المنصف أن نمنح الصحفيات من دارفور تمييزا خاصا لخوضهن هذه التجارب بشكل متكرر، يعيش بعضهن في معسكرات لسنوات طويلة قبل أن تشتعل هذه الحرب اللعينة لتحرمهن من الحد الأدنى من شروط الحياة!
أما الحديث عن العنف الجنسي فهو الأمر الأكثر قسوة إطلاقا في هذه الحرب بالنسبة للنساء، تتعرض الصحفيات مثل بقية النساء لمخاطر التعرض للعنف الجنسي، في الوقت الذي يتعامل المتحاربون مع أجسادهن كساحة أخرى للحرب!
وفي الوقت الذي تؤكد التقارير التي تخرج من وحدة العنف ضد المرأة، أو المنظمات العالمية مثل أمنستي ارتكاب الدعم السريع لمعظم هذه الجرائم، لكنها تقول أيضا أن هناك نسبة من التعدي من منسوبي الجيش ما يشير إلى أن بيئة العنف العالية التي تمثلها هذه الحرب تترك النساء رهائن لمخاطر جنسية عظيمة.
دون شك؛ ساهم الإفلات من العقاب من جرائم العنف الجنسي في دارفور إلى تطوير هذه الجرائم، من جرائم اغتصاب لعبودية جنسية واسترقاق جنسي تعاني خلاله السيدات من تكرار عمليات الاغتصاب وامتهان الكرامة الإنسانية والقرف مرات غير محدودة، كما تشير التقارير الإعلامية إلى أنه في بعض الحالات يتم بيع النساء وكأننا عدنا بالزمان لعهود أسواق النخاسة!
لا بد أن يُحَاسَب بقدر سوء وخطورة هذه الجرائم؛ وجبر الضرر للناجيات من العنف الجنسي، لابد أن يُنْقَذْن من الوصمة المرتبطة بهذه الجريمة، ومن محاصرة المجتمع حتى لا يعانين مرات ومرات بطريقة لن يكون الشفاء منها هينا!
هناك أمر بالغ الخطورة تتعرض له الصحفيات بصورة خاصة؛ وهو خطاب الكراهية واللغة البذيئة التي يُهَاجَمْن بها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، خطورة هذا الخطاب أنه يمكن أن يضع حياتهن وحياة أسرهن في خطر محدق ولا بد من حملات مناصرة عالمية تدعمهن وتحميهن.
أما عنف الدولة فهذا أمر آخر، وأكثر خطورة، يتم عبر استخدام الأجهزة العدلية والقانونية لتجريم الصحفيات فقط من أجل محاصرة حقهن في حرية التعبير، ومن أجل خنق الكلمات وترويع الصحفيات الأخريات، حتى لا يكتبن إلا ما يعجب الجنرالات، ومثالا لذلك ما تعرضت له الصحفيات رشا عوض وصباح محمد الحسن في البلاغات المفتوحة في مواجهتهن من النيابة في بورتسودان بوصفهن يتعاون مع الدعم السريع، ويشهد كل من يقرأ مقالاتهن أنها كلمات قوية وشجاعة في زمن باع فيه الكثير من الصحفيين أقلامهم وذممهم، وسعوا للتحريض على استمرار الحرب وتأجيج خطاب الكراهية والعنصرية، بل وصل الأمر ببعض الصحفيين الإلحاح على أحد أطراف الحرب من أجل استهداف شخص محدد أو قصف مكان محدد ولحزني الشديد تُنَفَّذ إرشاداتهم العمياء!
ونحن نجتهد في مواصلة العمل الصحفي لنكون صوت الضحايا من الشعب السوداني، وننقل معاناتهم نتواجه بعدم توفر المعلومات وعدم تمكننا من الحصول على الإفادات من الناطقين الرسميين، وتمنح المعلومات بحسب الولاء و”التطبيل” وهو أمر يزيد صعوبة عملنا، كما لا يسمح لنا بتغطية مفاوضات السلام، أو نكون جزءا منها، كل شيء يتم في سرية وتعتيم بالغين ما يجعل من الصعب نقل الحقائق المجردة، ويمنح الطرفين فرصة لسرد وجهات نظرهم!
من ناحية ثانية يملأ طرفا الحرب الوسائط الاجتماعية بالشائعات والمعلومات المغلوطة والصور والفيديوهات المفبركة الأمر الذي يغرق الحقائق، ويزيد مخاوف المواطنين الذين يتعرضون للتضليل والخداع!
في 25 أكتوبر من العام 2021 وضع الانقلاب العسكري خنجرا في خاصرة الصحافة وحريتها، أذكر أن الأمين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات هاتفني محتج على وصفي مجلس السيادة الانقلابي في مقال، وتم قطع الإنترنت لفترات طويلة بحسب رغبة السلطات الانقلابية ضُيِّق على حرياتنا، وعلى عملنا لكن حرب ال 15 من أبريل نقلت الظروف لمرحلة أكثر خطورة وقسوة، وتزيد هذه الخطورة على الصحفيات للتميز السلبي الذي تتعرض له النساء في بلادنا.
لكن وسط كل ما نعانيه؛ أشعر بالفخر باستمرار العديد من الصحفيات في العمل والكتابة والوقوف في المكان الصحيح من التاريخ: ضد الحرب ومع السلام! وفي ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة سنويا؛ ستكون تلك الأسماء هي الأعلام الهادية لأجيال قادمة من النساء السودانيات اللاتي سينضممن إلى العمل الصحفي مستقبلا مستلهمات من تلك السيرة التي كتبت في أقسى الظروف بالدم والدموع!

الوسومأمل محمد الحسن اليوم العالمي خرية الصحافة نقابة الصحفيين

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: اليوم العالمي نقابة الصحفيين

إقرأ أيضاً:

حرب السودان تختلف عن لبنان لأن الأعراض انتهكت سواء مباشرة من المليشيا أو (..)

لا انصح اطلاقا مهما كانت الاغراءات أو الضغوط التوقيع على اتفاقية سرية أو هشه تعيد الغطاء المدني للمليشيا.. هم لو عادوا لن يكون في صالحهم ولا في صالح من يأتي بهم.

ما حدث في الحرب يفضي إلى اضطرابات ما بعد الصدمة إضطراب الكرب المأساوي PTSD
هل تعلمون ماذا كان اسم القنابل اليدوية بعد الحرب الاهلية اللبنانية (برد جوفك) تباع في طست، ويأخذها الرجل الذي خسر أهله ومدخرات حياته ويتوجه لمنزل المسئول أو مقر الحزب الذي اعتدى على منطقته، ويرميها في غفلة في الداخل أو في سيارته عندما تخرج ويهرب غير مكترث هل احدث ضررا أم لا لأن الغرض كما ذكر أعلاه (برد جوفك).

كثير من الحالات التي تمت كانت انتقاما شعبيا أو فرديا غير منظم .. من العبث بمكان اجراء تحقيفات أو تحريات لمجموعات واحزاب .. لأن الجوف الذي يغلي جوف شعبي وليس حزبي.
حرب السودان تختلف عن لبنان لأن الأعراض انتهكت سواء مباشرة من المليشيا أو بسبب التفكك الأسرى والنزوح واللجوء … ولذلك الاضطرابات مؤكدة بنسبة مئة بالمئة .. والهوس في البحث عن شماعة لا يجدي.

مكي المغربي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • حرب السودان تختلف عن لبنان لأن الأعراض انتهكت سواء مباشرة من المليشيا أو (..)
  • صوت النساء: القوة الناعمة
  • مراكش تحتضن ملتقى إدماج الجماعات الترابية في منظومة التكفل بالنساء والفتيات ضحايا العنف
  • الدرك السحيق
  • التصدع الميداني !!
  • التصدع الميداني!!
  • "نسرين وفائزة".. كيف أحدثتا ثورة في مشهد المطاعم بتعز (ترجمة خاصة)
  • أزمة السودان مفتاحها في بورتسودان
  • تقرير دولي يرصد معاناة ثلث رجال العالم من العنف الأسري
  • الحرب أولها الكلام.. اللغة السودانية في ظلامية الخطاب الشعبي