رسالة إلى أمي في قبرها
تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT
سالم بن نجيم البادي
للمرة الأولى أُسافر بعد غيابك يا أمي، والى إين؟ إلى المدينة التي فيها المشفى الذي كنت ترقدين فيه، وفي الطريق كنت أفكر كيف لي أن أعود إلى البيت فلا أجدك، أرغبُ بشدة في أن أسرد لك أخباري وحكاياتي، وكل تفاصيل يومي، كما كنت أفعل في كل مرة أعود فيها من السفر.
لقد كان الطريق طويلًا وكئيبًا وكانت غيمة من الأسى تصاحبني ودموعي تنمهر كلما تخيلت أنني سوف أدخل البيت ولا أجدك تجلسين أمام غرفتك بهدوء وسكينة وأنتِ في كامل أناقتك المعهودة، دشداشتك المخوّرة ذات الألوان الزاهية، ووقايتك السوداء، وبرقعك الجديد، ورائحة العطر والبخور تفوح منك دومًا، وسجادة الصلاة والسبحة لا تُفارقان يدك، والعصا رفيقة زمن الشيخوخة.
مضت أيام عزائك يا أمي وقد جاء لتعزيتنا أُناس كثر، وأعرفُ أنك الآن ترغبين في سؤالي إن كنتُ قد التزمت بالذهاب يوميًا إلى خيمة العزاء؟ نعم، فعلت ذلك من أجلك لأنني خشيتُ من عتابك، تقولين لي "زين تحضر مع الناس.. فضيحة ما تصير.. سوف يسألون عنك"! وأنا منذ رحيلك أذهب إلى قبرك بعد العصر أُحب أن أكون بقربك، والشمس في طريقها إلى الغروب.
بالأمس رافقني حفيداكِ: لولوة وعبد الملك، وقد جمعنا لك باقة من الأزهار البرية ووضعناها فوق قبرك، كانت لولوة تحبك كثيرًا وتتعاطف معك، وكانت تهرول نحوي وتقول لي أبي: "جدتي تناديك"، أنتِ تشعرين بوجودي عندما أزورك، أليس كذلك يا أمي؟!
وعلى ذكر الأزهار البرية، لقد جاء المطر غزيرًا جدًا بعد وفاتك، آهٍ لو كنتِ حاضرة وقت نزول المطر، كم تمنيتُ المطر بعد سنوات القحط، كُنّا نفرحُ بالمطر سويًا، وتُبهجنا رؤية البرق وسماع صوت الرعد، وبعد المطر ننتظر اخضرار السهول والهضاب والجبال؛ لنذهب لرعي الغنم وجلب الأعشاب والحشائش.
كنتِ تسألين وأنتِ في المشفى: "جاكم المطر؟ شيء سحاب اليوم؟"، وتسألين عن الصغار والكبار وعن أحوال البيت وعن أبي.. وأبي يفتقدك كثيرًا، ويبدو حزينًا في كل وقت. ليس أبي فقط من يفتقدك، كلنا نفتقدك، حتى الأغنام والجِمال التي كنتِ تذهبين بعد عودتها من المرعى لتقدمي لها العلف، وتحِنُ إليك أشجار النخيل واللومي والياسمين والورد والحناء في البيت، وكنتِ تحبين هذه الأشجار، وتقضين بعض الوقت في الصباح الباكر في رعايتها. تفتقدكِ ضواحي النخيل في البلد، وحين يأتي القيظ هذا العام، لن نذهب معًا لجني الرطب.. أقول لك كل هذه التفاصيل وأنا أحس أن روحك تزورنا بين حين وآخر، تتفقدنا، وتحنو على أرواحنا، وتُطبطبُ على جراحنا، وبعد أن تطمئن علينا تُحلِّق عاليًا عائدة إلى حيث هي الآن.
شاهدتُك في الحلم البارحة، كان وجهك مُشرقًا ومُضيئًا وباسمًا، جثوتُ أمامك على ركبتي، وأنا أُحاول استدراجك للعودة معي إلى البيت، لكنك بقيتِ جالسة كما كانت جلستك وأنتِ في البيت هادئة ومطمئنة وغير مبالية. لقد ذبحني الشوق إليك يا أمي وأحسُ أنِّي كبرتُ وشاختْ روحي قبل جسدي، وكنت لا أعدُ سنوات عمري، لكني اليوم صارت سنوات عمري قلقًا يغتالني في كل لحظة. كنتُ في حضرتك قويًا وأخوض غمار الحياة بروح المغامر والمشاكس والواثق من نفسه حد الغرور، والآن ظهر ضعفي وقلة حيلتي في مواجهة تحديات الحياة القاسية، وجبروت الموت والرحيل والفقد، وضياع الشغف والحماس، وسطوة الحنين الساكن بداخلي على الدوام، وسير الأيام البطيء، وليل الأرق الطويل، والهمّ الذي يُداهمني في منتصف الليل وعند الفجر.
وفي ختام رسالتي، أطلب منكِ العفو والصفح عن كل أخطائي وتقصيري في حقكِ.. مع تمنياتي لك بحياة طيبة في جوارِ ربٍ غفورٍ رحيمٍ.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تحت المطر والنار.. يوم فلسطيني ثقيل من المعاناة والانتظار
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
في يومٍ شتويّ ثقيل، تداخلت فيه أصوات المطر مع أصداء القصف، استيقظ الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية، اليوم ، على مشهدٍ مركّب من المأساة الإنسانية، والقلق الأمني، والانتظار السياسي. فبين منخفضٍ قطبيٍّ كشف هشاشة الإيواء، وخروقات عسكرية لاتفاق وقف إطلاق النار، وأزمة صحية تتفاقم بصمت، ظلّت حياة المدنيين معلّقة بين السماء والأرض.
لم يكن المنخفض القطبي «بيرون» مجرد حالة طقس عابرة، بل تحوّل في غزة إلى عامل قتلٍ جديد، حين هطلت الأمطار الغزيرة على أحياء سبق أن حُوّلت إلى ركام بالقصف، فانهارت مبانٍ متصدّعة، وغرقت خيام لا تقي بردًا ولا مطرًا. ومع كل ساعة، كانت تتكشّف طبقات جديدة من الكارثة، خصوصًا في مناطق النزوح شمالي القطاع وجنوبه.
في الوقت ذاته، واصل جيش الاحتلال الإسرائيلي خروقاته الميدانية، عبر إطلاق نار وغارات وعمليات نسف، ما بدّد آمال السكان بهدوءٍ مستقرّ بعد الهدنة، وكرّس شعورًا بأن وقف إطلاق النار لا يزال هشًّا، وقابلًا للانهيار في أي لحظة.
أما في الضفة الغربية، فقد اتّخذ العنف شكلًا آخر، تمثّل في اعتداءات المستوطنين المتواصلة، وتجريف الأراضي، واقتحام القرى، في مشهدٍ يوميٍّ يعمّق الإحساس بانعدام الحماية، ويقوّض أسس الحياة الزراعية والاجتماعية للفلسطينيين.
وقال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، في بيان صحفي، اليوم، إن المنخفض القطبي «بيرون» فاقم الكارثة الإنسانية في القطاع، متسببًا بخسائر بشرية ومادية واسعة، في ظل أوضاع إيواء هشة ناجمة عن الدمار الواسع والحصار المستمر. وأوضح أن الأحوال الجوية القاسية ضربت مناطق سبق استهدافها بالقصف، ما حوّل المنخفض إلى تهديد مباشر لحياة المدنيين، ولا سيما النازحين.
وبحسب البيان، أسفر انهيار منازل وبنايات متضررة سابقًا عن استشهاد 11 فلسطينيًا، مع استمرار البحث عن مفقودين، إضافة إلى انهيار ما لا يقل عن 13 منزلًا في محافظات القطاع. كما أدّت الأمطار والرياح إلى انجراف وغرق أكثر من 27 ألف خيمة، وتضرر نحو 53 ألف خيمة بشكل كلي أو جزئي، ما أثّر على أوضاع أكثر من 250 ألف نازح يعيشون في مراكز إيواء وخيام تفتقر لأدنى مقومات الحماية.
وقدّر المكتب الإعلامي الحكومي الخسائر المادية الأولية بنحو 4 ملايين دولار، تركزت في قطاع الإيواء، نتيجة تلف الخيام ومواد العزل والفرشات والمستلزمات الأساسية، إلى جانب أضرار واسعة في الطرق المؤقتة والبنية التحتية، وتعطّل شبكات المياه والصرف الصحي، الأمر الذي صعّب وصول سيارات الإسعاف والدفاع المدني، ورفع مخاطر التلوث وانتشار الأمراض.
وأضاف البيان أن الأضرار امتدت إلى تلف مواد غذائية ومساعدات وُزّعت مؤخرًا، وغرق أراضٍ زراعية ودفيئات يعتمد عليها نازحون كمصدر دخل، فضلًا عن تضرر نقاط طبية متنقلة، وفقدان أدوية ومستلزمات إسعاف، وتعطّل وسائل إنارة وطاقة بديلة في مراكز النزوح.
وحمّل المكتب الاحتلال المسؤولية الكاملة عن تفاقم الكارثة، معتبرًا أن منع إدخال الخيام والبيوت المتنقلة ومواد الطوارئ يشكّل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، داعيًا المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى التحرك العاجل للضغط من أجل فتح المعابر، وتوفير إيواء وحماية فورية، تفاديًا لتكرار المأساة مع أي منخفضات جوية قادمة.
ويروي أحمد الزعانين، أحد أفراد الدفاع المدني الفلسطيني، تفاصيل الساعات الثقيلة التي أعقبت انهيار منزل عائلة بدران في منطقة بئر النعجة غرب مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، جراء العاصفة. قائلًا إن أصوات المطر لم تكن الأعلى في ذلك المكان، بل صرخة طفل محاصر تحت الخرسانة والحديد.
يوضح الزعانين لـ«عُمان»: «كنا نعمل بمعدات بسيطة جدًا، والمكان كان شبه غارق بالمياه، والركام غير مستقر. فجأة سمعنا صوت طفل يصرخ من خلف الأسياخ الحديدية: «فين أبوي؟». حاولنا طمأنته، كنا نكرر عليه: «أبوك بخير، إحنا معك»، بينما كنّا نعلم جيدًا أن والده قد استُشهد تحت الأنقاض».
ويضيف أن الطفل وسام بدران كان الناجي الوحيد بعد انهيار المنزل، الذي كان متضررًا بشكل كبير جرّاء القصف السابق. «وسام كان محاصرًا بين الجدران الخرسانية وحديد التسليح لفترة طويلة، ومع استمرار الأمطار كان الخطر يتضاعف. ورغم شحّ المعدات ووعورة المكان، تمكّنت طواقم الدفاع المدني والخدمات الطبية من انتشاله حيًّا، فيما جرى انتشال خمسة شهداء من أفراد عائلته».
هدنة مثقوبة.. خروقات لا تتوقف
ورغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار، شهد اليوم، خروقات ميدانية متواصلة من قبل جيش الاحتلال. فقد ارتقى الشاب محمد صبري الأدهم (18 عامًا) برصاص الجيش الإسرائيلي في منطقة جباليا النزلة شمالي قطاع غزة.
كما أطلقت مروحيات إسرائيلية النار شرقي مدينة خان يونس جنوبي القطاع، بالتزامن مع تنفيذ الجيش الإسرائيلي عملية نسف ضخمة في المنطقة ذاتها، وسلسلة غارات جوية على مدينة رفح جنوبًا، إضافة إلى إطلاق نار من الآليات العسكرية شرقي خان يونس.
يقول فروانة لـ«عُمان»: «الأوضاع الحالية تؤكد هشاشة الهدنة بشكل واضح، فاستمرار خروقات الاحتلال يعكس عدم وجود إرادة حقيقية للالتزام بالاتفاقيات، ويجعل أي استقرار مرحلي هشًا وسريع الزوال».
ويضيف: «هذا الواقع يضع الفلسطينيين أمام معادلة صعبة، بين الصمود تحت القصف والمطر، وبين الضغوط الدولية المحدودة التي لم تُفرِض على الاحتلال أي التزام فعلي».
إلى ذلك أفادت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، في تقريرها الإحصائي الصادر اليوم، بوصول 3 شهداء إلى مستشفيات القطاع خلال الـ48 ساعة الماضية، بينهم شهيدان جديدان، وشهيد واحد جرى انتشاله من تحت الأنقاض، إضافة إلى 16 إصابة.
ومنذ وقف إطلاق النار في 11 أكتوبر2025، بلغ إجمالي الشهداء 386، والإصابات 1018، فيما وصل عدد المنتشلين إلى 628. أما الحصيلة التراكمية منذ بداية العدوان في 7 أكتوبر 2023، فقد ارتفعت إلى 70,654 شهيدًا، و171,095 إصابة.
وأشارت الوزارة إلى أن انهيارات المباني الناتجة عن البرد القارس والمنخفض الجوي أسفرت عن وفاة 10 أشخاص خلال الفترة من 9 إلى 12 ديسمبر، كما جرى اعتماد وإضافة 277 شهيدًا إلى الإحصائية التراكمية بعد استكمال بياناتهم.