قراءة في كتاب (الارتقاء من مقاصد الشريعة إلى المنظومة المقاصديّة لتحقيق كفّتي الميزان التديّن والعُمران)
تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT
قراءة في كتاب
(الارتقاء من مقاصد الشريعة إلى المنظومة المقاصديّة لتحقيق كفّتي الميزان التديّن والعُمران) لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محيي الدين القره داغي
هذا الكتاب يوسّع المدارك، ويفتح أبواباً للتّفكّر والتأمّل والتدبّر، معتمداً في نظراته على كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقف بنا الشيخ الدكتور علي محيي الدين القره داغي مع مقاصد الله تعالى من خلق أبينا آدم (عليه السلام)، ومن خلق الكون كلّه مبيّناً بوضوح لا لبسَ فيه بأنّ الغاية من خلق (أبي البشر)، هو تحقيق الاستخلاف في الأرض، وعبوديّته سبحانه وتعالى، مستشهداً بقوله تعالى للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]؛ أيّ: يكون له التمكين، والقدرة على تعمير الأرض، وفقاً لمراد الله وحكمته ومشيئته. ولكنّ الملائكة فهموا بأنَّ المعيار هو التقديس والتسبيح، فلذلك رأوا أنفسهم أولى بهذا (الاستخلاف) فقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: 30]؛ فردّ عليهم قائلاً: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].
ويُعلّق الشيخ الدكتور محيي الدين القره داغي (حفظه الله) على الآية بقوله: إذ يُفهم منه أنّ وظيفة (الاستخلاف) لا تتحقّق بالتسبيح والتقديس وحدهما، وإنّما تحتاج إلى ما يعمّر الأرض؛ وهو العقل الاستنباطيّ القادر على الإبداع والتعمير.
وانطلق الشيخ القره داغي يُبحر في كتابه مُستخرجاً الدروس والفوائد والجواهر والمفاهيم العميقة من الآيات الكريمة، ليُبيّن بأن خلافة الإنسان في الأرض منذ تأسيسها على وجه المعمورة تحتاج إلى ميزان دقيق له جناحان أو كفّتان، إحداهما: الهداية الإلهيّة لهذا الإنسان من خلال الوحي، ومنها التقديس والتسبيح والتزكية، وبقيّة العقائد الحقّة، والشعائر التعبّديّة التي تُربّي المؤمن على الصلاح والإصلاح، وتجعل منه النموذج الصالح في نفسه المصلح لغيره.
وأمّا الكفّة الثانية: هي كفّة العقل الذي يتحقّق من خلال إعماله في مساراته الصحيحة لهذا المقصد الكبير في العمران.
ثمّ تحدّث الشيخ الدكتور علي محي الدين القره داغي على أن أوّل خلل وقعَت فيه الأمّة منذ قرون، هو الخلل في هذا الميزان الدقيق؛ إذ أصبح فهم كثير من الناس قائماً على حصر العبادة في دائرة التقديس والتسبيح والشعائر التعبّدية المحضة، وأهملوا مقصد العمران، والاستخلاف في الأرض.
وبالمقابل اتّجه الفريق المعاكس إلى العناية فقط بالعمران، وتركوا الهداية الإلهيّة، والتعبّد، والتقديس والتسبيح، فحقّقوا العمران المادي البعيد عن منهج الله تعالى، فنجَم عن ذلك حضارات ماديّة محضة، وإضرار بحياة الإنسان البيئيّة والمناخيّة، وبالبشر المساكين المستضعفين كما نشاهده اليوم في حياتنا من تفوُّق المنظومة الغربيّة والصينيّة والروسيّة والهنديّة وغيرها في مجال العلوم العقليّة، وفي تقدمهم في مجال الاكتشافات الحديثة، مقابل الابتعاد عن القيَم الروحيّة والعقائد الربّانيّة، والمناهج العقديّة التي وضعها الخالق العظيم لبني الإنسان، فتاهت البشريّة في بحار الشهوات، وصحارى الشبهات، ودخلت في أنفاق الضيق، والقلق، والاضطراب، وحُرمت مجاميع كبيرة من بني الإنسان من الحياة الطبيعيّة، لفقدها ميزان التسبيح والتقديس والتعبّد، وعندما وقعت الأمّة الإسلاميّة في فقد أحد كفّتي الميزان (ميزان العمران)، وقعت في الخلل الكبير في فهم رسالة الإسلام، ووجود الإنسان، مما يترتّب عليه مفاسد كبيرة وخطيرة وجسيمة، منها:
تخلّف المسلمين عمرانيّاً، وتحقيق الاستخلاف في إبعاده عن الماديّة المبنيّة على علوم العمران، والاكتشافات في هذه الأرض من خلال العقل التحليلي، وتقدّم غيرهم. وكذلك تخلّف الآخرون ممّن فقدوا كفّة ميزان التقديس والميزان في تحقيق العبادة ببعده الديني، وأصبحت الماديّة المحضة التي فقدت فهمها لمقاصد خلق الإنسان، وهذا الكون من الله العليم الحكيم. أنّ غير المؤمنين من الماديّين الذين أخذوا بكفّة العمران قاموا بتعمير الأرض لتحقيق الرفاهيّة للفرد، والهيمنة للدولة، وللاحتلال، ولاستعمار العالم، وترتب على ذلك مفاسد كبيرة تخصّ البيئة والمناخ، وكذلك استضعاف الشعوب، والاعتداء على خيراتها، وثرواتها، وقِيمها، وأخلاقها، وعقائدها. إن الذين لم يأخذوا بالكفّتين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فقد وقعوا في بُؤس الدنيا وفَقرها، وضلّوا طريق الآخرة، ومنهجها، ولذلك يرى الشيخ الدكتور علي محي الدين القره داغي بأنّ الخلل في المقاصد العظمى لخلق الإنسان وخلق الكون؛ هو الفساد الأعظم، والضرر الأكبر على الإنسانيّة، وما ترتّب على ذلك من تخلّف وغلوّ وتطرّف.وبعد هذه المقدّمة في كتابه “الارتقاء من مقاصد الشريعة إلى المنظومة المقاصديّة لتحقيق كفّتي الميزان؛ التديّن والعمران”، بدأ يسطر لنا بقلمه الماتع، وفكره النيّر تجربتَه الطويلة التي استمرّت عقوداً من الزمن تعلّماً وتعليماً، وبحثاً وتدريساً وتأليفاً، ويُقدّم لنا عُصارة فكره وتجربته واطّلاعه واحتكاكه بأكابر علماء عصره، وبحثه في المراجع والمصادر القديمة والحديثة، ويخرج بهذه النتيجة:
أنّ معظم كتب المقاصد – بدءاً من الموافقات للشاطبي إلى اليوم – قد أولت عنايتها القصوى بمقاصد الشريعة؛ أيّ: أحكام الشريعة، وأنّ التركيز فيها كان على جانب التسبيح والتقديس؛ أيّ التعبّد والتشريع، ولم تركّز على جانب العمران والاستخلاف الذي هو الكفّة المكمِّلة، والجناح الثاني لخلق الإنسان ليطير بهما نحو تحقيق الخير والرحمة للعالمين.
فكان هذا الكتاب، ليُعاد إلى الأمّة توازنها، ودورها الحضاريّ والعمرانيّ والإبداعيّ، فبيّن أنّ المقاصد في هذا الكتاب:
– بيان مقاصد الله تعالى في خلق الكون، وفي خلق الإنسان والملائكة والجان، وفي إنزال الكتب وإرسال الرسل، وتدخل فيها مقاصد الشريعة التي تختصّ بالغاية من تشريع الأحكام، ومقاصد المكلفين، ومآلات أفعالهم، وما يترتب على قصودهم، ونحوه.
وبيّن أن مقاصد الشريعة التي تختص بالغاية من أحكام الشريعة، أخصّ من المقاصد أو المنظومة المقاصدية، وبأن المقاصد هي الغايات التي تشمل العلل، والحكم، والأسرار، ونحوها…
واعتبر أن المقاصد معيارٌ لضبط الاجتهاد والفتوى في جميع مجالاتها، وأنها بمثابة الاستحسان للقياس.
وتعمق في بيان أن المقاصد دوافع محرّكة. وضرب أمثلة على ذلك، فقال: إنّ مقاصد خلق الكون، هي الدلالة على الله تعالى وقدرته وإبداعه أولاً، وتسخيره للإنسان ثانياً، وعليه فيجب على المؤمنين به أن يحققوا المقصدين بكاملهما، وهذا يتطلب بذلَ كل الجهود لتقوية الإيمان وزيادته، والعمل بجميع الوسائل المتاحة للاستفادة من هذا التسخير والتمكين. وكذلك، فإن لمقاصد خلق الإنسان من تحقيق كفتي الميزان والتقديس، والعمران دوافع كبيرة يجب أن تدفع المؤمنين إلى تحقيقها. ودعا إلى الاهتمام بمقاصد الأحكام مع مقاصد العمران والتقدم والحضارة.
وأثنى ثناء عَطراً على من سبقوه من العلماء ممكن كتبوا في (مقاصد الشريعة)، معترفاً بفضلهم، ومقدراً لجهودهم، فقال: إنَّه بلا شك قد كثرت الكتابات والبحوث والمؤلفات والدراسات الجادة حول مقاصد الشريعة، بدءاً من إمام الحرمين الجويني الذي أصَّل الموضوع، وتلميذه الإمام أبو حامد الغزالي الذي أضاف من التنويع والشرح والتوضيح، إلى الإمام العزّ بن عبد السلام، الذي قام بمزيد من التأصيل والتفصيل والإيضاح والتطبيق، الذي استفاد منه الإمامان المحققان: ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، ثم الإمام الشاطبي، فوضع الأمر في نصابه، فاستفاد ممن سبق، ولكنه أبدع فجعله علماً مستقلاً، متكامل الموضوع والشروط والأركان، ومنهجاً لفهم الشريعة لا يستغني عنه مجتهد ولا مرجح، ولا مفتٍ على الإطلاق.
ومن ثم جاء العلماء والباحثون المعاصرون منذ مطلع القرن الرابع عشر الهجري، بإحياء هذه الفكرة، كأمثال الشيخ محمد عبده، والسيد محمد رشيد رضا، وابن عاشور، وعلّال الفاسي، والشيخ أحمد الريسوني، كما أن الشيخ الدكتور القره داغي اطلع على الرسائل الجامعية والأبحاث في هذا الباب، ودرس هذا العلم، واِطلع على من سبقه، وقبل كل شيء استعان بالفتاح العليم، ففتح الله له من فضله ومنّته، وقدم هذا الكتاب الذي يحتوي على نظرية شاملة متكاملة تُحقق كفتي الميزان: (التعبد الخالص والعمران الدائم المتطور)، فدمج بين مقاصد الله في خلق الإنسان، وخلق الكون، مع مقاصد القرآن الكريم والسنة النبوية الكلية، ومقاصد الشريعة التي تختص بالأحكام الشرعية العملية، ثم مقاصد المكلفين، أيّ: (المنظوم المقاصدية)، فكانت إضافة مهمة ومفيدة، مليئة بالإبداع بعد توفيق الله (عزّ وجلّ).
وأما الملاحظة الثانية، فكانت إبرازه للمقاصد الحكومية والمجتمعية بالشكل المطلوب، فجاء كتابه بموضوعات مهمة جديدة، وأهمها: الارتقاء بمقاصد الشريعة إلى المنظومة المقاصدية التي تحقق المقصد الأسمى من خلق الإنسان، وتحقق رسالة الاستخلاف، وفق فقه الميزان. ويتولد على هذه المنظومة المقاصدية فكر شامل يدفع المؤمنين إلى تحقيق الغايتين معاً، وهما: إصلاح الإنسان في داخله بالتقديس والتسبيح (وهو التعبد)، وتحقيق عمران الكون والقوة والحضارة بالعقل الذي يقرأ الكون وغيرها، في ظلال الربوبية وكرامة الإنسان.
واِستدل الشيخ الدكتور القره داغي بقول الله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)﴾ [العلق: 1-5]، ومن ثم فسر الآية الكريمة بقوله: اِقرأ الكون المنظور، والكتاب المسطور، والإنسان، وكل شيء في ظلال الربوبية.
ويلاحظ القارئ أن منهجية الكتاب قائمة على الاستقراء والتحليل، إذ ركز الشيخ الدكتور علي القره داغي في المبحث الأول على فقه الميزان، وعلاقته بالمقاصد، وخلاصة هذا المبحث هو أن فقه الميزان قائم على أنَّ لكل شيء ميزانه الخاص في عالم المادة والمعنى، وعالم الغيب والمشاهدة، فكما أن للحديد ميزانه الخاص، وللكهرباء ميزانها الخاص، وللكيمياء ميزانها الخاص، فكذلك جميع التصورات والتصرفات. فللحرب ميزانها، وللسلم والدعوة والتعايش ميزانها الخاص، ومن هنا حمَّل الشيخ جميع الآيات التي فيها الغلظة والشدَّة في التعامل مع غير المسلمين على ميزان الحرب، في حين حمَّل جميع الآيات التي فيها الأمر بالبرّ واللين والإحسان على ميزان السلم والتعايش والدعوة. وكذلك استدل بالآيات القرآنية فيما ذهب إليه، وأبدى فيها رأيه، وتوجيهه. وهكذا ظهرت لنا موازين كثيرة، قد أعطتنا صورةً متوازنةً في جميع ما ذكره القرآن الكريم.
وإن الميزان له كفتان، أو جناحان يُحققان ثنائية الفكر الإسلامي المنسجم مع شفعية الكون وزوجية الإنسان، فالله سبحانه وتعالى أقام دينه الخاتم المتكامل التام (الإسلام) على كفتين وجناحين هما: الوحي والعقل. وكفتا التسبيح والعمران. وكفتا الدنيا والآخرة.
وتحدث بأنَّ المقصد الأعظم لله تعالى في خلق آدم وذريته مقصدان يعتبران أصل المقاصد، وأسس الغايات، ورأس الحُكم، وهما مقصد التعبد لله تعالى من خلال التقديس والتسبيح والتوحيد، وتنفيذه شعائره، وأحكامه التكليفية.
والمقصد الثاني الذي يتميز به الإنسان عن غيره من الملائكة والجن؛ هو مقصد الاستخلاف واستعمار الأرض، وإحيائها، واستخراج خيراتها. فالمقصد الأول لا يتحقق إلا بالوحي، والمقصد الثاني، وهو الاستعمار، والتمكن من تسخير الأرض ونحوها، ولا يتحقق إلا بالعقل؛ قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61].
وكل ما ذَكره الشيخ علي محيي الدين القره داغي من مقاصد خلق الإنسان، وخلق الكون دفعه إلى الارتقاء من مقاصد الشريعة إلى المنظومة المقاصدية إلى تحقيق ميزان الاستخلاف بكفتيه، وميزان خلق الكون بكفتيه. ومن هذين الميزانين عُرفت المقاصد العليا لخلق الإنسان والكون، ومن ثم جاءت مقاصد الإسلام والشريعة، والقرآن والسنة متكاملة مع مقاصد المكلفين، لتتكوَّن منها جميعاً منظومة مقاصدية منسجمة، دافعة لتحقيق التوازن المطلوب الذي تحتاجه الأمة الإسلامية.
وفي المبحث الثاني: تحدث عن المقصود بالمنظومة المقاصدية، وبين أنه بقصد بها: ربط الجانب الفكري والتصورات والجانب العلمي والتصرفات كلها بمقصد الخلق للكون وللإنسان، ومقاصد الشريعة العامة والخاصة والجزئية، ومقاصد المكلفين، ونِياتهم، وفقه المآلات، وسد الذرائع.
وتوسع في شرح المنظومة المقاصدية بأسلوب سهل ميسّر بعيدٍ عن لغة التقعر، واستخدام الألفاظ الصعبة.
وفي المبحث الثالث، كان حديثه عن العلّة والحكمة والتّعليل وعلاقتها بالمقاصد، وبيّن في هذا المبحث أنّ فقه الميزان، أن يكون التشريع حقا خالصاً لله تعالى، وأنّ دور العقل في هذا المجال هو الكشف والبيان عن ما هو حسن أو قبيح أو مصلحة، أو مفسدة، كما أن فقه الميزان يقتضي أن يكون جميع أفعال الله تعالى بالحكم، والعِلل، والغايات المحققة للخير.
وفي المبحث الرابع: تحدث عن أنواع المنظومة المقاصدية، وقسَّمها باعتبار متعلق المقصد إلى:
– المقاصد في خلق الكون.
– المقاصد في خلق الملائكة.
– المقاصد في خلق الجن والشياطين.
– المقاصد في خلق الإنسان.
– المقاصد في خلق الجنة والنار (الآخرة)
– المقاصد من إنزال الأديان الحقه، وبخاصة الإسلام.
وتوسع في مقاصد القرآن الكريم الكليّة، ومقاصد الشريعة العامة والخاصة، وقال الشيخ القره داغي: وأما مقاصد الشريعة، فقد حصرها فقهاؤنا في المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، وهذا التقسيم الثلاثي تقسيم عقلي، لا يقبل وجود نوع رابع مطلقاً، وإنما الخلاف في أنواع المقاصد أو المصالح الضرورية، والحاجية والتحسينية، فقد ذكر معظم الفقهاء أن الضرورات الخمس أو ست. وهي: الدين، النفس، العقل، المال، النسل، والعرض.
فحفظ الدين، شرع الشارع لتحقيقه وحفظه الجهادَ وحدَّ الردة. وحفظ النفس، حفظ بالقصاص، وحفظ العقل، حُفظ بحد المسكرات، وحفظ المال، بحد السرقة، وحفظ النسل بحد الزنا، وحفظ العرض بحد القذف.
وأضاف الشيخ الدكتور علي محيي الدين القره داغي أمرين آخرين لا يقلَّان أهمية عن الأمور الستة السابقة، وهي: حفظ أمن المجتمع؛ أمنه السياسي، وأمنة الاجتماعي، وأمنه الاقتصادي، وأمنه البيئي، حيث شرع الله تعالى أعظم الحدود، وأشدها على الإطلاق في حالة الاعتداء عليه، وهو حد الحرابة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33].
وحفظ أمن الدولة العادلة، حيث أمر الله تعالى بحفظه، وشرع لذلك: وجوب البيعة، وحرمة الخروج على السلطان المسلم، كما وضع الله تعالى لحمايته حدّاً، وهو حدّ البغي، إضافة إلى تحريم الاعتداء عليه، ووجوب حمايته، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]. ويدخل من ضمن المنظومة المقاصدية، مقاصد المكلفين، وتوسع الشيخ علي القره داغي في بيانها.
وفي المبحث السادس: تكلّم عن فقه الميزان في تحقيق التوازن بين النقل والعقل، ودور الوحي والعقل في التشريع، وبين أنَّ العقل في حقيقته هو خدمة للنقل، والعقل السليم، لا يتعارض مع النقل الصحيح أبداً.
وفي الفصل الثاني: تكلم عن موقع المعاصرين من مقاصد الشريعة.
وفي الباب الثاني من الكتاب، عنونه بـ: دور المنظومة المقاصدية في العمران والاجتهاد والفتوى. ووزعها على فصلين:
الفصل الأول: دور المنظومة المقاصدية في تحقيق العمران والحضارة والتقدم.
وفي الفصل الثاني: دور المنظومة المقاصدية في ضبط الاجتهاد والفتوى وتوجيهها وآثارها في الفتوى والاجتهاد.
وفي الباب الثالث: ربط المنظومة المقاصدية بقضايا مهمة، وفقه الميزان، وقسَّمها على فصول:
الفصل الأول: المنظومة المقاصدية والأمن الروحي والفكري وفق فقه الميزان.
الفصل الثاني: المنظومة المقاصدية في مجال التربية والتعليم وفق فقه الميزان.
الفصل الثالث: المنظومة المقاصدية في مجال التمويل وفق فقه الميزان.
الفصل الرابع: المنظومة المقاصدية في مجال العقود وفق فقه الميزان.
الفصل الخامس: المنظومة المقاصدية في مجال الصيرفة الإسلامية وفق فقه الميزان.
الفصل السادس: المنظمة المقاصدية في التنمية الشاملة وفق فقه الميزان.
الفصل السابع: المنظومة المقاصدية في الوقف وفق فقه الميزان.
الفصل الثامن: المنظومة المقاصدية في البيئة وأحكامها وفق فقه الميزان.
الفصل التاسع: المنظومة المقاصدية في الحوكمة وفق فقه الميزان.
وقد توسع الشيخ الدكتور علي محي الدين القره داغي في إسقاط نظريته المتكاملةِ الأركان على كثير من القضايا التي تهم حياة الناس، ولها علاقة مباشرة لتحقيق كفتي الميزان في التدين والعمران. فأنار الله به دروباً موحشة، وطرقاً مظلمة، وأرشد إلى الحُكم والأسرار والعلل المتعلقة بالأحكام وربطها بحياة الناس، فلامست نظريته الوجدان، وحفَّزت العقول في تحقيق المقاصد السامية من خلق الإنسان والكون، والربط بين منهج الله في عمارة أرضه وتحقيق العبادة في بعدها الروحي والتقديسي والتسبيحي، وأعمال القلوب، واعتقاداتها؛ لتسمو الروح، وتنطلق في تحقيق رغباتها التعبدية، ودفع بالعقل التحليلي للاكتشاف والتطوير والإبداع، مستأنساً بتوجيه الوحي الرباني.
إن هذا الكتاب العلمي الرائع هو إضافة نوعية متميزة، وإبداعية، لعلم المقاصد، تساعد على معرفة عظمة التشريع الربانيّ التي أشارت إليها آيات الذِكر الحكيم. وهذا الكتاب، هو مساهمة علميّة متينة في معالجة الخلل في الفكر، من خلال المنظومة المقاصديّة، وربطها بفقه الميزان، وإسقاط ذلك على واقع الحياة، لتحقيق عبوديّة الإنسان لخالقه، وتحقيق عمارة الأرض، ومفهوم الاستخلاف فيها على منهج الله الربّاني المستمَد من الذكر الحكيم، وهدى سيّد الأوّلين والآخرين ﷺ، فنسأل الله (عزّ وجل) بأن يتقبّل من شيخنا الدكتور علي القره داغي هذا العمل الجليل، وأن يجعله في ميزان حسناته، وأن يُكرمه بالقبول بين العالمين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: الشیخ الدکتور علی خلق الإنسان هذا الکتاب الله تعالى خلق الکون فی المبحث ة الإنسان فی تحقیق ة التی ت ر الأرض من خلال ال أ ر ض ل الشیخ من خلق فی هذا
إقرأ أيضاً:
لماذا تجب علينا المكابدة؟
كابَدَ يُكابِدُ مُكابَدَة فيكون الإنسانُ مُكابِدا. ويُقال كابَدَ الأمر أي تكبَّدهُ؛ فقاسى شدَّته وتحمَّل مشاقه، وركب هوله ومصاعبه. ويُقال كذلك كَبَدَ ابن آدم الأمر أي قَصَدَهُ. وكبَّد العدو خسائرَ أي أنزلها به وكلَّفه إياها. والكَبِدُ وسط الشيء ومعظمه، وهو العضو في الجانب الأيمن من بطن الإنسان، وإليه يُنسب الأولاد، كناية عن إنهم أعز ما وهبنا؛ فيُقال لهم: أفلاذ أكبادنا. وكبِدُ الأرض ما في بطنها من معادن نفيسة. ويوصف الإنسان بغلظة الكبد كناية عن شراسته، والشيء "يُفتِّت الأكباد" كناية عن تسبُّبه بحزنٍ شديد مُمض. وإذا قَدَر الإنسان على الفلاة؛ يُقال تكبَّدها. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.
وقد وردت لفظة الكَبَد واشتقاقتها في القرآن الكريم مرَّة واحدة فحسب (سورة البلد؛ اﻵية رقم 4): "لقد خلقنا الإنسان في كَبَد"، بمعنى المشقَّة والشدَّة والعناء، وقيل بمعنى انتصاب القامة واعتدالها، وقيل القوة والقصد. وما من شيء يمنع جمع المقصد القرآني لهذه المعاني كلها؛ فلا تعارُض بينها في شأن الإنسان وحاله، بل هو تكامُل رباني معجز. فإن المكلَّف الذي ألقي به -حرفيّا- إلى داخل هذا التاريخ، ليحيا في مجال التجربة والخطأ، والذنب والتوبة والطغيان والأوبة؛ أي ليخوض غمار اختياره الإنساني -بمشيئة الله وتقديره- هو سائرٌ انتصبت قامته ابتداء -رغم معاناته- فلا تنكسر قامته، وينتكس في هذا السير القصدي الغائي؛ إلا بأن يوكل إلى نفسه والعياذ بالله. فإنه إن لم يَستَعِن صادقا بمن كلَّفه تكبُّد وجوده؛ لم ينَل معونة على ما كُلِّف وضاع.
والكبد والمكابدة هي -باختصارٍ غير مُخِلٍّ- فلسفة التاريخ الإسلامي، التي أشار إليها القرآن إجمالا في سورة البلد، وفصَّلها خاتما سورة العصر؛ إذ بسط مآل الخُسر التاريخي الحتمي وغايته في قوله جلَّ شأنه: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر". فإنه لم يجعل لهذا الخسر الحتمي الذي نُكابده، والتاريخ المحيق الذي نُعانيه؛ مآلا دنيويّا برانيّا مُعينا تنعقد عليه اليد، وإنما غيَّب المآل داخل التاريخ، وجعل التواصي هو كل ما يطمع فيه ابن آدم داخل هذا التاريخ: التصبُّر والتواصي، والتكاتُف في احتمال الخُسر الدنيوي البراني الحتمي؛ لئلا ينعكس انعاكسا انتكاسيّا على المجال الجواني له، فيرتد الإنسان -معاذ الله- من أحسن تقويمٍ إلى الانكباب على وجهه، باعتبار هذا الانكباب الضال المُضِل نقضا للكَبَد والمكابدة، وعكسا لطريق السير المنتصب القامة على صراط مُستقيم؛ قاصدا رب البرية. وبعبارة أخرى، فإن فلسفة الكَبَد التاريخيَّة هذه تعني أننا خلقنا للمشقَّة والمعاناة، ولاحتمال هذه المعاناة، وأن جوهر الإيمان هو التواصي على هذا الاحتمال بحول الله، والتكاتُف أثناء عبور هذه الدار؛ لنعرُج بهذه الآلام إلى الله، وقد أقمنا الحجة على أنفسنا بالسير في هذا الطريق الشاق بزاد التواصي.
ولهذا، فرَّق الإسلام تفرِقَة قاطعة بين المكب على وجهه لا يُبصر طريقه (سورة الملك؛ الآية رقم 22)، ومن يسير سويّا مُعتدل القامة على صراط الله المستقيم؛ إذ هما الطريقان الوحيدان، اللذان تتجسَّد فيهما هذه الفلسفة التاريخيَّة. ولا يستوي من يُقاسي الشدة ويعاني المشاق الحتميَّة، وهو لا يُبصر غايته، ومن يركب الهول والمصاعب، وهو يرى ربه العلي سبحانه؛ إذ تعلَّق بصره بما تجاوز الزمكان وعلا فوق التاريخ. جلَّ شأنه وتبارك اسمه ولا إله غيره. والعجيب أن هذا المصدر الفذ، يطوي من المعاني ما يوافق حال الإنسان في مسيره الدنيوي، ويطابق أموره كلها داخل هذا التاريخ. فإنك ترى المكب على وجهه -والعياذ بالله- قد غلظ كبده، وظهرت شراسته، وعمي إلا عما جُعل في كبد الأرض، وغفل بانكبابه عن النظر إلى كبد السماء، وما يمثله؛ فتفتَّت كبده لكل حزن يُصيبه، إذ أنه لا يرجو من الله ما يرجوه المؤمن، وإن كانت المصيبة تنزلُ بهما معا.
هذه المكابدة ليست موافقة إجمالا للنواميس الإلهية فحسب، بل هي أولا وقبل كل شيء مُفصَّلةٌ على مقاس إنسانيَّة ابن آدم وخصاله المركبة، ومجعولة له جعلا؛ فإنه الكائن الوحيد المكلَّف المفطور على الاختيار، وعلى مكابدة خياراته، ومكابدة وجوده كله -نتيجة هذه الحريَّة- لهذا؛ كانت المكابدة ناموسا لتحقُّق إنسانية الإنسان أولا، ثم لاكتمال إيمانه، وأخيرا لاتساقه مع فلسفة التاريخ الإنساني الموافقة لتركيبه وإيمانه.
هذا التحقُّق يلزمه -أولا- أن تكون المكابدة مُكابدة للنفس دوما، وقبل كل شيء؛ لفجورها وهواها، وضعفها وسقوطها، وشهواتها وإخلادها. فهذه المكابدة الذاتية أصل الفطرة السليمة، ومبتدأ حفظها وشحذها، فإذا انتكست -والعياذ بالله- شرعت في مكابدة السوى، وتمخَّضت عنها أعراض مرضيَّة تُبرئ النفس الأمارة وتعُدُّ الآخرين هم الجحيم -كما ذهب سارتر وأضرابه مثلا- إذ صار الغير أصل كل سوء وبلية. وهذه النفسيَّة نفسيَّة انكباب لا ترى الوجود على حقيقته، ولا تستوعب معنى التكليف، ولا تُدرك حقيقة الحريَّة؛ مُدلَّلة تحسب أنها مركز الكون، وأنها تستحق كل الخير بذاتها ولذاتها، وبمجرد وجودها. فهي دائمة الشكوى من كل شيءٍ وكل أحد، إذا لم تنل ما يوافق هواها من الدنيا؛ فإنما أفسدها توهُّمها المتأله، وإغفالها ثمن حريتها في الاختيار، وغفلتها عن عبوديتها لخالق مُحيط، وعن أن حريَّتها التي أرادها الخالق ابتلاء ومسؤولية؛ لتُميز الباطل من الحق وتختار طريقها بين العناصر التي رُكِّبَت منها أولا؛ فإما الإخلاد إلى الطين أو السمو إلى آفاق الروح.
وانظر إلى إدراك السلف البصير، إذ يقول الجاحظ في المجلَّد الأول من سفره الماتع: "الحيوان"؛ في الفصل الذي عنونه مصلحة الكون في امتزاج الخير والشر: "اعلم أن المصلحة.. امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع.. ولو كان الشر صِرفا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة، وتقطَّعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز.. ولم تكُن للنفس آمال ولم تتشعَّبها الأطماع. ومن لم يعرف كيف الطمع؛ لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس؛ جهل الأمن.. ولو استوت الأمور بَطُل التمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة، ولو كان ذلك لبطلت ثمرة التوكُّل على الله تعالى، واليقين أنه الوزَرُ والحافظ والكالئ والدافع.. وأنه يقبلُ اليسير ويهب الكثير".
أي أن امتزاج الخير والشر ضرورة لتعمل آلة التمييز المفطورة في بني آدم، ويتحقَّق تكليفه، وتتحقَّق إنسانيته الربانية المركَّبة. ولو كان الشر صرفا لا خير معه لهلك الخلق لشدَّة وطأته، ولو كان الخير محضا لا شر معه سقطت المحنة وانتفى التكليف؛ فإما جحيم أرضي من الشر أو فردوس أرضي من الخير، وفي الحالين يصير الإنسان إلى القهر؛ مثله في ذلك مثل الملائكة أو الحيوان! إذ ستنقطع مع جدليَّة الخير والشر أسباب التفكير وتضمُر حكمة المعرفة، وينعدم التمييز؛ إذ استوت الأمور وصار الإنسان مقهورا بالجهل والغريزة كغيره من المخلوقات. وقد قرر أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب أن من لم يعرف الجاهليَّة؛ لم يعرف الإسلام. فمن لم يعرف شرور الجاهليَّة؛ لم يُدرك حجم الخير الذي يطويه الإسلام لاستنقاذ الإنسان من نفسه ومن طينه، بغير الجور على هذا الطين أو إلغائه، وهذا هو مكمن المعجزة في الشريعة المحمدية: معونة على الاختيار وتوفيقٌ وسداد، يخلق التوازُن بين البواعث والغايات، ولا ينكر طينك كما لا يُطلق له العنان، بل يدفعك لتُكابده موفقا مسددا بحول الله؛ تغلبه تارة بمكابدتك ويغلبك أخرى بقعودك. والله يهدي من يشاء.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry