"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"(الانفال: 27).

1- أهداف المقال.

2- التمهيد المعرفي والتاريخي وكيفية تشكل ظاهرة المراكز الكرتونية.

3- ماهية وفلسفة مراكز البحوث والدراسات.

4- البواعث والأهداف والدور الوظيفي.

5- منظومة عمل مراكز البحوث والدراسات واستحقاقات وكفايات العمل اللازمة (فكريا- تنظيميا- بشريا- ماليا)

6- معايير تقييم الأداء والإنجاز.



7- الأشكال الكرتونية المزيفة.

8- خطر المراكز الكرتونية على حركة الاصلاح والمشروع الإسلامي.

9- الواجب فعله.

أهداف المقال

1- تعزيز الوعي الجمعي بماهية وأهمية وكيفية عمل مراكز البحوث والدراسات.

2- المشاركة في تقويم وتفعيل مراكز البحوث والدراسات في خدمة مشروع التحرر والإصلاح

3- مواجهة ظاهرة الوجود الكرتوني الوهمي المانع والقاطع للوجود والفعل الحقيقي، والتي تعد من أهم سياسات الفكر الاستعماري وروافده في تدجين وتقويض الحركات الإصلاحية، وتضليل وإيهام وتخدير وتنويم الشعوب المتعطشة للإصلاح والتغيير.

مقدمة تمهيدية لبيان وترسيخ حقائق ومفاهيم معيارية وبيان كيفية تشكل ظاهرة المراكز الكرتونية

1- تطور العقل الإصلاحي
من أول وأعظم مقاصد الدين هو الوصول إلى العلم والحكمة والقرار الأصوب والتي لا نصل إليها في عصرنا إلا بمراكز حقيقية للبحوث والدراسات، وليست مسميات كبيرة لمضامين كرتونية فارغة، ومن يعترض أو يعوق أو يتلاعب بذلك فقد وضع نفسه عقبة في طريق المشروع الإسلامي وإن صلى وصام وزكّى وحج وادعى العمل للإسلام لعقود
تطورت العلوم وتعددت مجالات الحياة وتشابكت وتعقدت علاقتها ببعضها البعض، ولم يعد العقل البشري وحده قادرا على متابعة وفهم واستيعاب واستشراف والتعاطي مع ما يجرى، فتوصل العقل البشري إلى مراكز البحوث والدراسات المتخصصة لدعم صناعة القرار، والتي هي أحد تطبيقات مفهوم الشورى الإسلامية التخصصية، ويكفي أن نجاح المؤسسات والدول الكبرى الناجحة مرهون بما تمتلكه من مراكز البحوث ودراسات.

فلكل جسد عقل، وعقل المؤسسات والتنظيمات والأحزاب ونظم الحكم والدول هي مراكز البحوث والدراسات، وكل عمل بدايته من العقل وإنتاج الفكرة وتصميم الخطة ونظم منهج ومراحل ومعايير العمل، وبقوة وشمول وتكامل عقل المؤسسة تنجح المؤسسة أو تتعثر وتفشل وتفنى من الوجود.

ومن أول وأعظم مقاصد الدين هو الوصول إلى العلم والحكمة والقرار الأصوب والتي لا نصل إليها في عصرنا إلا بمراكز حقيقية للبحوث والدراسات، وليست مسميات كبيرة لمضامين كرتونية فارغة، ومن يعترض أو يعوق أو يتلاعب بذلك فقد وضع نفسه عقبة في طريق المشروع الإسلامي وإن صلى وصام وزكّى وحج وادعى العمل للإسلام لعقود.

ومن ثم فمن الطبيعي أن تولد مراكز البحوث والدراسات ولادة طبيعية في مخاض من العمل الإصلاحي الطبيعي الذي يمتلك عقولا قيادية كبيرة تدرك مقاصد الدين وحقائق الواقع، وأسباب تقدم وتفوق الخصم وضعف وإخفاق العقود والقرن الذي تعيشه الحالة الإصلاحية الإسلامية.

2- كل لما خلق له

والعبرة بنتائجه لا بمجرد وجوده، ومجرد الوجود بلا نتيجة قاطع ومانع عن الفعل الصحيح. الشمس وظيفتها الضوء والحرارة والكثير من أسباب الحياة، وبغياب الشمس كل يوم تغيب أشعتها وحرارتها ويأتي الليل، وصنع الإنسان الثلاجة لإنتاج البرودة وحفظ الأطعمة فإذا فقدت وظيفتها فلا قيمة لها، ومهمة الخلاط إعداد العصائر، وإذا لم توجد الفاكهة فلن يقوم بمهمته ولن ينتج عصيرا حتى ولو تم تشغيله. وكذلك مراكز البحوث والدراسات مهمتها ووظيفتها هي إنتاج معرفة وحلول ومبادرات جديدة مبتكرة وفاعلة في الإجابة على أسئلة وأزمات وتحديات الواقع، والمعيار البديهي لتقييم أدائها وإنجازها هو عدد ونوع ما تنتجه من موسوعات وكتب وابحاث وورقات عملية؛ تتضمن معرفة جديدة مبتكرة ذات أولوية ومساهمة بفاعلية في إصلاح وتغيير الواقع، وهي في ذلك بين ثلاث:

1- إنتاج معرفة جديدة مبتكرة تجيب على أهم وأولى أسئلة وتحديات الواقع، وهي بذلك في مواجهة حقيقية مباشرة مع أعداء الله تعالى من خصوم المشروع الإسلامي.

2- إنتاج معرفة جديدة مبتكرة تجيب على أسئلة ما ولكنها ليست من أولويات الإصلاح الجاري، وهي بذلك بعيدة عن مواجهة خصوم الإسلام، وتذهب بالجسد الإصلاحي إلى فضاء مسالم طيب وديع (كيوت) بعيد عن المواجهة. وبذلك تؤدى دورا وظيفيا حقيقيا لخدمة خصوم المشروع الإسلامي بالخروج من المواجهة وإيهام وتخدير جموع الإصلاحيين وتنويمهم دون فاعلية، وتكفي خصوم المشروع الإسلامي همهم، وبذلك كفى القائمين على المراكز الكرتونية خصوم الإسلام أعباء وتكاليف يقظة ومواجهة العاملين للإصلاح.

3- تكرار إنتاج المعرفة السابقة، أو تحليل الأحداث والتعليق عليها، أو الأرشفة، أو إصدار الانشغال بإنتاج كتب وبحوث وهمية بعيدة عن أولويات المرحلة، تفتقر إلى الأهداف والمنهج العلمي التخصصي، بما يعد بمثابة الجري في المحل واستنزاف الجهود والفرص، وإيهام الأفراد والجموع العاملة للإصلاح بأنه توجد لدينا مراكز بحوث وأننا نواكب الموضة الجارية فليطمئن الجميع ويخلدوا إلى النوم.

3- الولادة غير الشرعية لظاهرة مراكز البحوث والدراسات بعد انقلاب تموز/ يوليو 2013م

أولا: ما قبل ثورة يناير لم يكن لمراكز البحوث والدراسات ذكر إلا في القليل من الجامعات، ولم يكن للتنظيمات الدينية ولا الحركات الإصلاحية الاجتماعية والسياسية، خاصة الدينية منها، أي علاقة بما يسمى مراكز البحوث والدراسات، وعندما يُقترح تأسيس مركز أو وحدة متخصصة للبحوث والدراسات التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، من قبل بعض الأكاديميين أو الإسلاميين المتقدمين فكريا المدركين لأهميتها، كانت تقابل بسؤال: لماذا؟ لا نحتاجها فكل شيء يُدرس والأمر شورى.

هذه هي الإجابة الظاهرة التي تخفي خلفها السبب الحقيقي العميق الذي هو مزيج من غياب الوعي، ووهم العبقرية، ومنح الذات صك الإلهام الإلهي بديلا عن العقل والعلم والتخصص، والخوف من وجود وحدة جديدة داخل التنظيم تمتلك شرعية علمية ورأيا علميا يسحب جزءا من سلطاتها، وتخالفها في الرأي وانفراها بالتفكير والتصور والرأي والقرار، مكتفية بوجود عالم في الشريعة ضمن القيادة ليضفي الشرعية الدينية على القرارات. وفي العمق لهذا التصور الخاطىء تكمن فكرة المحافظة والوكالة والسيطرة على أفراد التنظيم، التي حذر منها القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عمق العمق لهذا الفهم الخاطئ لحقائق الإسلام يكمن حب القيادة والنفوذ والمنفعة الخاصة.

ثانيا: منذ بزوغ شمس ثورة يناير المجيدة 2011 حتى انقلاب يوليو 2013 م

لم تؤسس التنظيمات الدينية (الإخوان- الجماعة الإسلامية- السلفيون.. الخ) ولا الأحزاب الجديدة التي تم تأسيسها (47)؛ ما يمكن اعتباره مراكز للتفكير والبحث والدراسة في الواقع والتغيير الاجتماعي والسياسي المطلوب، وإنتاج المعرفة اللازمة لاستكمال الثورة الشعبية الخالصة، وملاحقة واستثمار ما أنجزه الشعب منفردا، بما يؤشر بداية وقبل أي تحليل إلى ضعف وعدم جاهزية التنظيمات والنخب، ولجوئها الى مربع الفهلوة.

(الفهلوة مصطلح مصري نشأ في أوساط العامة يعني عدم المعرفة وغياب الأدوات والاستغراق في الجهل المركب بوهم معرفة كل شيء، والإفتاء في كل شيء، ومحاولة إنتاج حيل غير علمية للفعل والدوران في حلقة مفرغة من الفشل وضياع الجهود والفرص).

لم تؤسس التنظيمات الدينية (الإخوان- الجماعة الإسلامية- السلفيون.. الخ) ولا الأحزاب الجديدة التي تم تأسيسها (47)؛ ما يمكن اعتباره مراكز للتفكير والبحث والدراسة في الواقع والتغيير الاجتماعي والسياسي المطلوب، وإنتاج المعرفة اللازمة لاستكمال الثورة الشعبية الخالصة، وملاحقة واستثمار ما أنجزه الشعب منفردا
ظاهرة الفهلوة الإصلاحية

المعادلة المنطقية والعلمية والتاريخية المعيارية التي يجب الالتزام بها:

أي تغيير اجتماعي وسياسي= 1× 2× 3× 4 × 5

1- مركز بحوث ودراسات متخصص متكامل المجالات؛ الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يصمم الأسئلة اللازمة للإجابة على أسئلة التحرر من الاستبداد والتحول إلى نظام حكم شعبي راشد.

2- علماء من طبقة المفكرين المستشارين منتجي المعرفة الجديدة؛ الموثق إنتاجهم المعرفي الجديد في مجالات تخصصهم لقيادة وإدارة مراكز البحوث، علما بأنهم يختلفون تماما عن طبقة العلماء الخبراء والأخصائيين والدعاة والوعاظ والتنفيذيين.

3- باحثون متخصصون محترفون منتجو أفكار ومعرفة جديدة ومبادرات وحلول، مؤهلون بمعارف وقيم ومهارات وأدوات التفكير خارج الصندوق والإنتاج المعرفي الجديد، بما يختلف تماما عما هو شائع من نقل وتجميع وإعادة تبويب المعارف القديمة وتحليلها والتعليق عليها، والدوران داخل الصندوق، والتوقف عند توصيف الظاهرة وتحليلها وبيان أسبابها، والعجز والتوقف عن إنتاج أفكار وحلول لمواجهتها والتغلب عليها.

4- معايير ونظم ومناهج علمية لإنتاج وتوثيق المعرفة، تمهيدا لإنزالها للواقع للتجربة والاختبار والتنفيذ.

5- نظام تمويل مستقل يضمن حرية وطلاقة تفكير وعمل المركز.

المعادلة غير المنطقية ودون الأخلاقية التي فرضت نفسها:

الفهلوة الإصلاحية =... × افراد أصحاب عاطفة ورغبة في الإصلاح وحاجة للتكسب يفتقرون للوعي الإصلاحي اللازم ×... صفر... ×... صفر... × ... صفر... = فشل وضعف مركب..

رغبة وهرولة سريعة إلى تأسيس أحزاب سياسية للتنافس على السلطة × عدد كبير مبالغ فيه من الأحزاب × عدم تأسيس أية مراكز للتفكير وإنتاج المعرفة= فهلوة نخبة..

ثالثا: ما بعد انقلاب يوليو 2013م وحتى كتابة المقال في مايو 2024م

تيار متدفق من تأسيس عدد كبير من عشرات مراكز البحوث والدراسات المصرية في الخارج، والتي تتخذ أسماء كبيرة جدا تتجاوز في بريقها المراكز التي تمتلكها الإدارة الأمريكية التي تنتج المعرفة وتصنع قرارات قيادة وإدارة العالم:

- البحوث والدراسات، والواقع ملتقى لندوات ثقافية تحكي فيما تمت حكايته من قبل.

- الاستراتيجي، والواقع أفكار تنفيذية.

- استشرافي، والواقع أرشيفي لما سبق.

- العالمي، والواقع الاستغراق في المحلية، ولا التزام بالمعايير العالمية ولا تواصل ولا تعلم منها.

- المستقبلية، والواقع تحليل وتعليق وتوصيات تقليدية لما يجرى.

- الثورية والتغيير، والواقع التحول إلى معارضة بمتابعة ونقد ما يقوم به المنقلب.

- العلمية وإنتاج النظريات والمبادئ العلمية، والواقع إنتاج آراء لا ترتقي إلى درجة الفرضيات..

حقيقة الأمر والله على ما أقول شهيد ورقيب وحسيب: مراكز كرتونية بامتياز.

والبرهان والدليل اثنان:

الأول: لا إنجاز معرفيا ولا ميدانيا على مدار 11 عاما كاملة بالرغم من إنفاق الملايين من الدولارات والجهود، وهذا ما هو بيّن مؤكد للجميع.

الثاني: غياب الالتزام بالمعايير المنظمة لعمل وإنجاز مراكز البحوث والدراسات المتعارف عليها عالميا، وهذا ما أبيّنه بإيجاز يعزز الوعي الجمعي ويكشف حقيقة الخدعة الكبرى.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المراكز التفكير أبحاث دراسات تخطيط تفكير مراكز مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المشروع الإسلامی جدیدة مبتکرة معرفة جدیدة

إقرأ أيضاً:

الكاتب الأردني محمد النابلسي: الأطفال العمانيون الباحثون عن المعرفة لديهم استعداد للدخول في حوار عميق حول أفكار فلسفية

العُمانية: يرى الكاتب الأردني والمختص في أدب الأطفال واليافعين، محمد النابلسي، أن الطفل العُماني الباحث عن العلم والمعرفة، شغوف بالثقافة، يتسم بالهدوء ودائما يخفي بداخله نضجًا غير عادي. ومن خلال لقاءه الأخير بمجموعة من الأطفال خلال فترة معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الـ 29 2025، أشار النابلسي إلى أن الأطفال في سلطنة عُمان لديهم استعداد للدخول في حوار معمّق حول أفكار فلسفية بأسلوب بسيط، وأسئلة لم يسمعها من قبل في أي بلد آخر، ـ وفق تعبيره ـ وقال: وجدت أن التواصل مع الطفل العُماني يحتاج إلى صبر، لكنه يثمر كثيرًا من الفهم والنضج.

فالنابلسي الذي لديه العديد من المشاركات في مؤتمرات ثقافية ومتخصصة في مجال الكتب والمسرح يمتلك رصيدًا أدبيًّا خاصًّا بأدب الطفل واليافعين بما فيها "تمر ومسالا " ورواية "الحكي عن أيمن وفراشاته" و"نشارة الخشب" وغيرها من الإصدارات، كما حصل على جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال (القصة الخيالية) - المركز الأول عن سنة 2020 عن قصة "غول المكتبة"، كما أخرج مسرحيات "الليلة الكبيرة" و "رحلة حمودي البحرية".

وفي حديث خاص لوكالة الأنباء العُمانية يتحدث النابلسي عن شغفه بأدب الطفل وما أوقد روح البدايات والمحفزات لا تزال تؤكد ثبات واستمرارية هذا الشغف، وإسهام الخلفية الثقافية للمبدع والكاتب واستمراريته في أن يكون مبتكرًا فيما يود أن يقدمه من نتاج إبداعي مغاير ويقول: بدأت علاقتي بأدب الطفل من باب شخصي جدًا، شغفي بالقراءة كان المحفز الرئيس للكتابة، والفكرة دائمًا مرتكزها حول إضافة شيء جديد، وليس تكرار للآخر، قد أتقاطع مع الكثير من الكتّاب والأدباء في بعض الأفكار، لكن لكل منا لغته ورسالته وأسلوبه الخاص، المسألة مرتبطة بإثراء مشهد الكتابة للطفل.

ويضيف: من هنا بدأ الحلم، أن أكون كاتبًا يسهم في تشكيل ذاكرة جديدة للطفل العربي لا أن ينقل له ثقافة مستوردة فقط، ولا اجترار ثقافة مبنية على شعارات مفرغة من محتواها أو عنترية اللهجة، فالشغف لا يولد مرة واحدة، بل يتجدد كلما التقيت بطفل يروي لي ماذا فعلت به إحدى قصصي، أو معلم يستخدمها داخل الصف، أو أمّ تشكرني لأن كلمات بسيطة أثارت نقاشًا عائليًّا عميقًا، وما يؤكد هذا الثبات هو إدراكي أن هذه الرسالة أعمق من مجرد حكاية. الكتابة للطفل فعل ثقافي، وتربوي، وإنساني. وكوني عشت في بيئات مختلفة ومتعددة الثقافات – ما بين الكويت والأردن والإمارات وتجربتي الخليجية عامة – أضاف هذا لي أدوات لفهم الطفل العربي بتنوّعه الجغرافي واللغوي والاجتماعي. ويبيّن أن الخلفية الثقافية للكاتب ليست رفاهية، بل ضرورة، لأنها تمنحنا وعيًا نقديًّا يُغني التجربة، ويمنحنا القدرة على تقديم محتوى لا يكرر نفسه، بل يُبدع من رحم الاختلافات والبيئات.

ويتطرق النابلسي إلى تجربته الخاصة مع أدب الطفل في سلطنة عُمان، وهي المشاركة الأخيرة في معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الـ29 2025، وتقديمك لعدد من الحلقات العلمية والعملية، ويشير إلى علاقة التواصل مع الطفل العُماني، ورؤيته في تجارب مسرح الطفل في الوطن العربي وأوجه التقدم أو القصور فيها ويوضح: زيارتي الأخيرة لسلطنة عُمان تعد واحدة من أكثر التجارب ثراءً في مسيرتي الأدبية. لم تكن فقط زيارة لمعرض، بل رحلة لاكتشاف الطفل العُماني، بثقافته، وفضوله، وهدوئه الذي يخفي بداخله نضجًا غير عادي. قدّمتُ في تلك المشاركة حلقتين في ركن الضاد "فن كتابة الرسائل إلى المستقبل"، و" الكتابة الإبداعية لليافعين".

ما لفت نظري هو مدى الاستعداد الذي أبداه الأطفال للدخول في حوار معمّق حول أفكار فلسفية بأسلوب بسيط. أسئلة لم أسمعها من قبل في أي بلد آخر. وجدت أن التواصل مع الطفل العُماني يحتاج إلى صبر، لكنه يثمر كثيرًا من الفهم والنضج.

التجربة جعلتني أقتنع أكثر أن الطفل العربي ليس جوهرًا واحدًا كما يدعي الكثير، ولكنه تنوّع ثري، وعلى الكاتب أن يتحرك بهذا الوعي. وأرى أن المؤسسات الثقافية العُمانية تملك بنية تنظيمية رصينة، تدعم مشاركة الكتّاب العرب، وهناك حاجة لتعزيز حضور أدب الطفل في تفاصيل المعرض، عبر جلسات حوارية أكبر، ومشاركات نقدية أكثر، وعقد بعض الملتقيات والفعاليات التي تهم صنّاع كتب الطفل ضمن البرنامج الثقافي للمعرض.

ولأن سلطنة عُمان تمتاز بتنوع ثقافي وحضاري يتقاطع مع الجانب الاجتماعي، ما يُشكّل ثروة حقيقية لإيجاد صوت أدبي مغاير، هنا يشير "النابلسي" إلى الكيفية التي يمكن من خلالها توظيف هذا التنوع في صياغة أدب طفل يُعبّر عن الواقع العُماني بخصوصيته، وأن يكون قادرًا على العبور نحو الفضاءات الثقافية العربية بطرق ذات نطاق شمولي ويقول: سلطنة عُمان تمتاز بثقافة متعددة الطبقات: تاريخ غني، تنوع جغرافي من الجبل إلى البحر، ولهجات محلية ذات إيقاع شعري، وعلاقات اجتماعية مبنية على المروءة والكرم والهوية المجتمعية المتماسكة. كل هذه العناصر تُشكل خامات ثمينة لأدب الطفل، ولكي نعبر بهذه الخصوصية إلى فضاء عربي أوسع، نحتاج إلى "الأدب المُتشبّع محليًا، المنفتح عالميًا". على الكاتب أن يستثمر في التفاصيل العُمانية – من حكايات الجدات، إلى البيئة البحرية، إلى الأزياء والاحتفالات – ولكن أن يُعيد صياغتها ضمن حبكة تصلح لأي قارئ عربي. هذا هو سر الأدب الذي يُصدّر ثقافته دون أن يُغلق أبوابه، فأدب الطفل العُماني قادر على أن يكون جسرًا ثقافيًا، متى ما تم توظيف عناصره بخيال حر ووعي عميق.

وينتقل "النابلسي" إلى مسرح الطفل والإخراج المسرحي، والعلاقة بين النص الأدبي للطفل والمسرح الموجَّه له اليوم، ليوضح التحديات التي تواجه الإخراج، وخاصة الأعمال الموجَّهة للأطفال مقارنةً بمسرح الكبار ويقول: من وجهة نظري، مسرح الطفل هو أحد أكثر الأدوات التربوية تأثيرًا في وعي أجيال سابقة، لكنه لم يحصل على مكانته بعد في ذهنية هذا الجيل من الأطفال، لأنه للأسف يُدار في الغالب من باب الترفيه لا التربية. النصوص المسرحية المقدمة للأطفال في الوطن العربي غالبًا ما تقع في فخ التبسيط المفرط، أو العظة المباشرة، أو التكرار. بينما في تجارب مسرحية في دول مثل تونس والمغرب، نرى اتجاهات جديدة تجمع بين الفن والتربية والمعالجة النفسية بطريقة احترافية.

ويبيّن: من التحديات التي تواجه الإخراج المسرحي الموجّه للأطفال: الميزانيات الضعيفة، غياب التدريب المتخصص، وأحيانًا النظرة الدونية لفن الطفل من قبل بعض صنّاع المسرح الكبار. يعتقد البعض أن إخراج عمل مسرحي للطفل أسهل من عمل للكبار، بينما الحقيقة هي العكس تمامًا. الطفل لا يُجامل، ولا ينتظر "ذروة الأحداث"، بل يحتاج لشد انتباهه منذ الدقيقة الأولى. أرى أن العلاقة بين النص المسرحي الموجّه للطفل والإخراج بحاجة إلى إعادة بناء. كثير من النصوص لا تُكتب بروح المسرح بل بروح الكتاب المقروء، وهذا يُعيق المخرج في تحويله إلى مشهد بصري حي. الكتابة للمسرح يجب أن تُراعي الحركة، الصوت، الإيقاع، والحوار الداخلي والخارجي للشخصيات.

ويذهب "النابلسي" إلى الممكنات التي تجعل من مسرح الطفل وسيلة تربوية وفكرية تُسهم في بناء وعي الأجيال في ظل الخيارات البصرية المتعددة المتاحة، والتي قد تُشكّل تحديًا حقيقيًّا لدى صنّاع العمل المسرحي على وجه التحديد، ويؤكد بقوله: في ظل وفرة الخيارات البصرية الحديثة تبدو مهمة المسرح أكثر صعوبة، لكنها ليست مستحيلة. ما يُميز المسرح هو حضوره الحي، واللقاء المباشر بين الطفل والفن، وهو ما لا تستطيع الوسائط الرقمية تحقيقه بنفس التأثير. التحدي هنا هو أن نُعيد صياغة المسرح ليكون مواكبًا للزمن لا مُجمدًا في قوالب تقليدية. أؤمن أن ممكنات مسرح الطفل التربوية تكمن في عناصر مثل التشاركية، والاندماج، والتعبير عن الذات. الطفل عندما يصبح جزءًا من التجربة، تتضاعف الاستفادة. علينا أيضًا أن نكسر فكرة المسرح الذي "يشرح" أو "يعظ"، ونبني عوضًا عنه مسرحًا "يُسائل" و "يُفكر". في هذا الإطار، من الممكن توظيف تقنيات الواقع المعزز أو المسرح التفاعلي، مع الحفاظ على البنية الإنسانية للمسرح كفن حي. لن ينافس المسرح الألعاب، لكنه يستطيع أن يقدم شيئًا لا تقدمه الألعاب: الإنسان.

وفيما يتعلق بالعولمة الثقافية والطفرة التكنولوجية، وما يمكن أن يقوم به المسرح ليحافظ على هويته ويظل قريبًا من واقع حياة الطفل، مرورًا باللغة التي لا يزال يتلقاها الطفل اليوم، التي ما إذا كانت صالحة، أم أن الوقت قد حان لتفكيكها وإعادة بنائها بما يُناسب المتغيرات الجديدة، يقول "النابلسي": قد أكون من المتحفظين على مصطلح العولمة في عالم كبير ومتعدد الثقافات، فالعالم دائمًا كان فيه هذا التعدد، والحفاظ على التراث كجزء من الهوية، يشترط أن يكون دون الوقوع في فخ "الحنين المزيف". مسرح الطفل في العالم العربي لا يجب أن يكون مسرحًا يعيد تدوير التراث فقط، ويفترض أن للهوية شكلًا واحدًا، والعولمة هو العدو الأكبر، بل عليه أن يُفسّر الحاضر ويستشرف المستقبل. اللغة التي نخاطب بها الطفل اليوم بحاجة فعلًا لإعادة تفكيك. لغة المسرح يجب أن تُجيد مخاطبة الحواس الخمس، أن تبتعد عن المباشرة، وتستخدم الصورة، الإشارة، الموسيقى، والإيقاع، والمزاج الذي يحمله الطفل ضمن المحفزات البصرية والذهنية المحيطة به. يجب أن تكون اللغة "حية"، لا جامدة، وأن تنتمي لعالم الطفل كما يراه لا كما نريد نحن أن يراه. نحتاج إلى كتاب مسرحيين يُجيدون لغة الشاشة كما يُجيدون لغة الركح. المسرح إن أراد البقاء، عليه أن يُخاطب الطفل بلغته، لا بلغة زمن آخر.

ويذهب النابلسي للحديث عن واقع الجوائز الأدبية كونه حاصلًا على "جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال"، ودورها في دعم الأديب على المستوى الفني والأدبي، وأهميتها بالنسبة له وما إذا حققت الجوائز الثقافية الغاية من وجودها وتوظيفها كمنصات لتحفيز الكتابة النوعية في أدب الطفل فيالعالمالعربي ويؤكد: حصولي على جائزة عبدالحميد شومان لأدب الأطفال (القصة الخيالية) لم يكن فقط تتويجًا لنصّ أدبي، بل اعترافًا بأن الحلم الذي حملته طويلًا يمكن أن يصبح واقعًا. الجوائز الأدبية لها أثر مضاعف: شخصي وفني. لقد منحتني ثقة، وفتحًا لأبواب النشر والتعاون، وفنيًا، حمّلتني مسؤولية أن أكون في مستوى التوقعات، وأن أواصل دون أن أكرر. ولكن أقول إن هناك كثيرًا من الجوائز تتحول إلى لحظة احتفالية فقط، دون متابعة الأثر أو دعم نشر النصوص الفائزة أو حتى المعايير الواضحة في التقييم. من المهم أن تتحول الجوائز إلى "منصات بناء" لا مجرد "منصات تتويج". يمكن أن تقدم منحًا، برامج إقامة، أو دعمًا لإنتاج النصوص مسرحيًّا أو بصريًّا. أؤمن بأن الكتابة للطفل عمل وطني، ثقافي، مستقبلي. هي ليست فقط حول متعة القراءة، بل هي صياغة وعي جديد، وصناعة أمل طويل المدى، تتكاتف بها كل الأطراف.

مقالات مشابهة

  • مجمع الملك فهد يعلن استقبال المشاركات في «الدراسات القرآنية»
  • الكتاب يصنع القارئ: أدباء الفيوم يناقشون صناعة النشر في ندوة ثقافية بإطسا
  • 2300 مريض حصيلة الكشف والعلاج في قافلة قصاصين الشرق بالشرقية
  • البحوث الزراعية: زيادة نسبة المكون المحلي المصري في صناعة الأعلاف لتصديره
  • الكاتب الأردني محمد النابلسي: الأطفال العمانيون الباحثون عن المعرفة لديهم استعداد للدخول في حوار عميق حول أفكار فلسفية
  • «الاقتصاد» تطلق مركز المعرفة والابتكار لترسيخ التعاون مع القطاع الأكاديمي
  • الوحدة اليمنية.. بين الشعارات والواقع المرير
  • وفد «كهرباء الشارقة» يعزز التعاون البحثي مع جامعة الشارقة
  • وزير الزراعة يشهد توقيع عقد إنتاج السماد العضوي من المخلفات
  • شحادة قي افتتاح مركز عبيه المجتمعي: سيمنح الأجيال المعرفة لمواكبة عالم التكنولوجيا