لماذا تفشل السياسة الأمريكية في السودان؟
تاريخ النشر: 1st, June 2024 GMT
زين العابدين صالح عبد الرحمن
يظل السودان غائبا في مخيلة صانع القرار الأمريكي، و أمريكا أسقطت ورقة السودان من أجندتها منذ أن رفض السودان في ستينيات القرن الماضي المعونة الأمريكية حيث كانت أمريكا تريد أن يلعب السودان دور القط لمواجهة التمدد الشيوعي في أفريقيا، و بعد الرفض وافقت حكومة عبود بزيارة رئيس الاتحاد السوفيتي ذلك الوقت للسودان ليونيد برجنيف في نوفمبر 1961م، أيضا تحفظ السودان على دعوة إدارة ريغان أن يقوم بذات الدور الذي كان قد طلب منه من قبل.
بعد ثورة ديسمبر 2018م وجدت أمريكا ضالتها، أن يكون لها دورا في صناعة القيادات التي تريدها علي قمة السلطة في البلاد، و استطاعت الإدارة الأمريكية أن تتحرك بفاعلية وسط القوى السياسية من خلال سفارتها، و رفعت درجة التمثيل من قائم بالأعمال إلي درجة سفير، و كانت عضوا في الرباعية، و الترويكة الداعمة للإيغاد، و المؤثر على قرار رئيس البعثة الأممية فوكلر، هذا غير تأثيرها على الاتحاد الأوروبي، و بعد إقالة حكومة حمدوك من قبل المكون العسكري في 25 أكتوبر غيرت سفيرها، و جاءت ب "جون غودفيري" باعتباره أكثر فاعلية في إدارة الأزمات، ثم أرسلت مساعدة وزير خارجيتها " مولي في" لتبدأ مرحلة بداية "الاتفاق الإطاري" و الذي فشل ،و أدى للحرب الدائرة الآن.. أمريكا تعلم يقينا أن القيادات التي كانت تراهن عليها قد فقدت بريقها، و بعد انقلاب 25 أكتوبر عندما نزلت الشارع رفضتها الجماهير، و اقتنعت أمريكا أنها لا تستطيع أن تغامر وسط الرفض الشعبي، و حرب أصبحت فيها الميليشيا متهمة بممارسة لإبادة و التهجير و السرقة و النهب..
منذ انقلاب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989م و مرورا بعدد من الرؤساء الأمريكيين أثناء حقبة الإنقاذ، أن أغلبية الدبلوماسيين الأمرييكين الذين شغلوا منصب مساعدين لوزراء الخارجية للشؤون الأفريقية؛ كانوا دائما يؤكدون أنهم لا يستطيعون التعامل مع الشأن السوداني إلا من خلال المراور بعواصم بعض دول المنطقة.. الأمر الذي يؤكد أن أمريكا جاهلة تماما بالشأن السوداني تحتاج أن تتزود بمعلومات من تلك العواصم، و هي حريصة أن تكون تعاملاتها مع السودان من خلال تلك العواصم بسبب هذا الجهل، أو هي لا تريد أن تؤثر سلبا على مصالح حلفائها في المنطقة.. مما يدلل أن السودان على هامش أجندتها .. و دلالة على ذلك؛ أن المبعوث الأمريكي الخاص للسودان "توم بيرييلو" الذي طاف على عواصم الدول المجاورة للسودان، لم يكلف نفسه التوجه للسودان.. بل جاء بفكرة توسيع منبر جدة، و إدخال "الاتحاد الأفريقي و الإيغاد" من باب المناورة لأن الهدف هو إدخال الأمارات.. و أكبر خطأ أرتكبته القيادة العسكرية كان الذهاب للمنامة و هم يعلمون ذهاب الأمارات إلي هناك، و كان وراءه أمريكا التي تحاول أن تجد مخرجا للأمارات بسبب دعمها المتواصل للميليشيا.. و أمريكا رغم أنها تراجعت عن دعم القوى التي كانت قد راهنت عليها من قبل لإستلام السلطة، إلا أنها سمحت أن تتولى مهمة الدعم الأمارات، و أمريكا تعلم يقينا أن الأمارات هي التي جاءت بحمدوك، و فرضته على " تقدم" و المكالمة التي كان قد أجراها وزير الخارجية الأمريكي بلنكين مع رئيس مجلس السيادة و القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان بهدف الذهاب إلي منبر جدة، هي تمت بضغط من دولة الأمارات، باعتبار أنها تريد أن ترسل رسائل بأنها ماتزال لديها القدرة على الضغط لتسوية سياسية، حتى لا تسمح أن تتشتت المجموعة التي تدور في فلكها.. كما تعلم أن المؤتمر الذي تم في أديس أبابا مؤخرا نجح في حشد ناس دون أن يكون لهم ثقل جماهيري داعم لهم داخل السودان، بل أحدث شروخا في بعض القوى المنتمية إليه..
أن السلطة في السودان تعلم أن الإدارة الأمريكية المتورطة في أزمات عديدة الآن، لا تستطيع أن تدخل في أزمة أخرى، و لا تستطيع أن تصدر أي قرار من مجلس الأمن بهدف تدخل دولي تحت البند السابع في السودان، و أيضا تعلم أن أي تحرك لها شاهرة العصى ليس في صالح مصالحها في المنطقة، و أن جري الأمارات المحموم في اتجاهات مختلفة لعقد مؤتمرات توافقية و تسوية سياسية، بين الجيش و الميليشيا مسألة ما عادت مقبولة لأغلبية الشعب السوداني، و الذي يعتبر أكبر متضرر من الحرب، كما تعلم الأمارات و الذين يدورون في فلكها أن حسم الحرب عسكريا من قبل الجيش سوف يغيير كل الأجندات السياسية في السودان، و أيضا سوف يؤدي إلي بروز قيادات جديدة لا تقبل المساومة.. أن أمريكا حقيقة أمام معضلة أن تقف مساندة للأجندة الأماراتية، أم أن تبتعد لكي تعطي فرصة لعملية الحسم العسكري، و تقبل بنتيجة إفرازاتها السياسية.. نسأل الله حسن البصيرة..
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان تعلم أن من قبل
إقرأ أيضاً:
ذعادل الباز يكتب: الرباعية في خبر كان… لماذا؟ (2/2)
فيما أرى
عادل الباز
الرباعية في خبر كان… لماذا؟ (2/2)
1
في نهاية الحلقة الأولى من هذا المقال، تساءلت: لماذا تصر أبوظبي على إبعاد الجيش من الفترة الانتقالية؟ ولماذا استماتت في حشر موضوع حكومة “تأسيس” في بيان الرباعية في واشنطن، لدرجة أنها تتجشم عناء مواجهة مصر والسعودية في هذا الملف، وللدرجة التي نسفت معها الرباعية؟
2
تعتقد حكومة أبوظبي أن الجيش يسيطر عليه الإسلاميون الذين تطاردهم بلا غبينة، وبقاء الجيش في المشهد يعني استمرار تأثير الإسلاميين على أي وضع سياسي قادم، فحتى لو نجحت في إعادة استزراع عملائها في سدة الحكم، فإن الأوضاع لن تستتب لهم!!
إبعاد الجيش من الحكم يمكنها من إضعاف البلاد بصورة عامة، وقد يساعد في تفككها، وبذا يسهل السيطرة عليها. تعتقد أبوظبي أن إبعاد الجيش عن الحكومة يتيح للمليشيات أن تنمو من جديد وتسيطر على أجزاء من البلاد، ريثما تستعيد قوتها لتنقض مرة أخرى على المركز.
إذا نجح مشروع “إبعاد الجيش”، وتحولت قوات الدعم السريع إلى واجهة سياسية معترف بها، فإن السودان سيذهب إلى سيناريو يمني بامتياز:
ميليشيا – نفوذ أجنبي – فراغ دستوري – تقسيم فعلي. الإصرار على إبعاد الجيش من المرحلة الانتقالية، وفرض واقع مزدوج لحكم البلاد، ليس سوى نسخة كربونية من الخطة اليمنية: إضعاف الجيش، تمكين المليشيا، ثم إغراق الدولة في انقسامات لا نهائية.
في اليمن، كان سقوط الجيش بوابة سقوط الدولة. وفي السودان، يريد البعض إسقاط الجيش كي يسقط السودان. لكن ما لم يدركوه هو أن التاريخ لا يُستنسخ بالذكاء الاصطناعي… فالسودانيون ما زالوا يحملون جينات المقاومة التي اسقطوا بها امبراطوريات كانت لاتغيب عنها الشمس. الجيش السوداني صمد أمام مشروع الاسقاط والتفكيك، الآن بعد أن فشل الدعم السريع في الحسم العسكري، جاء وقت الخداع السياسي، عبر حيلة “حكومة تأسيس” التي يُراد لها أن تصبح غطاءً سياسياً للميليشيا يُراد لقوات الدعم السريع أن تستلم الدولة بصيغة تصوغها أبوظبي ويصادق عليها الغافلون أو المتواطئون.
3
أما لماذا تصر أبوظبي على نفخ الروح في جثة اللقيطة أو حكومة “تأسيس”، فلقد قدم د. أمجد فريد إفادة جيدة تجيب على بعض من هذا السؤال، حين قال في مقال له أمس: (موقف الإمارات هذا هو محاولة لإضفاء طابع رسمي على الدعم السريع، لتُقدَّم في المحافل الدولية كحكومة، لا كمليشيا، والهدف أن تتحول الحرب من صراع بين حكومة شرعية ومتمردين إلى نزاع بين “حكومتين”، فتجلس قوات الدعم السريع لاحقًا على طاولة المفاوضات كطرف مساوٍ).
ويمكنني أن أضيف: إذا نجحت أبوظبي في تسويق حكومة “تأسيس”، فمن شأن ذلك أن يفرض وجوداً للميليشيات في الساحة السياسية بدون “كدمول”… وهذه الخطوة مهمة، لأنها في ظل المناخ الدولى الحالى ، لا أحد سيقبل المليشيا التي دمغت بـ”الإبادة” و”جرائم الحرب” على رأس أي سلطة مدنية أو عسكرية أو أسرية.
فأبوظبي تحتاج لموطئ قدم في الحكم في المستقبل القريب، أي في الفترة الانتقالية، لهندسة المشهد سياسيًا بالداخل باستخدام المال السياسي، التكتيك الذي اتبعته في تونس، فأطاحت بحكومة الثورة، وجاءت بحكومة تابعة لها (قيس سعيد).
أبوظبي تدرك أن حلفاءها في “صمود” من الوهن السياسي وخفة الوزن، بحيث لن يستطيعوا خدمة أجندتها أياً كانت، سواء في محاربة الإسلاميين أو نهب الموارد، فالأصلح لهذه المهمة هم “الجنجويد”، فهم أساتذة في “الشفشفة” وقتلة محترفون، وهم أقدر وأنسب لتنفيذ أجندة أبوظبي كاملة، بعد خلع الكدمول ولبس البدلة تحت مظلة حكومة وهمية، هي مظلة “تأسيس”، ولذا هي حريصة على وضع “تأسيس” في البيان، لتكسبها شرعية دولية باكرة، ولكن لا يحيق المكر السوء إلا بأهله، فإذا بالعالم كله يرفض الاعتراف بالحكومة اللقيطة، لتموت في مخدعها قبل أن تتنفس.
4
السؤال الأول الذي طرحناه في مقدمة هذا المقال، يمكن طرحه بذات الصياغة على الموقف المصري: لماذا تقف مصر مع الجيش السوداني؟ ما مصلحتها؟
مصر تعلم أن المليشيا لا يمكن أن تحكم دولة، ومن تجربتها مع الجيش السوداني، أن وحده قادر على صنع الاستقرار، وذلك عبر التاريخ، ومنذ الاستقلال وما قبله، لم تؤتَ مصر من الجنوب، وظلت حدودها الجنوبية آمنة تمامًا، بل هي، في لحظات الخطر، أصبح السودان هو ظهرها الذي تتكئ عليه.
وهذا الجيش، الذي تقف مصر مدافعة عن حقه في الوجود، مؤسَّسٌ وطنيًّا، هو ذات الجيش الذي قاتل جنوده كتفًا بكتف مع الجيش المصري في كل حروبه عبر التاريخ.
تدرك مصر أنها إذا تركت حدودها الجنوبية نهبًا للمليشيات والدول التي تدعمها، فإن أمنها القومي سيصبح في مهب الريح، إسرائيل التي تتربص بها، رغم اتفاقات السلام، ستكون في خاصرتها، أضف إلى الفوضى في ليبيا، لتكون مصر بذلك في دائرة اللهب: فإسرائيل فوقها، وتحتها، وبالجنب.
5
تُراهن الإمارات على منطق النفوذ السريع والمال السياسي، بينما تراهن مصر على منطق الاستقرار التاريخي وشبكات الأمن القومي المتجذرة.الصراع هنا ليس فقط على السودان، بل على من يقود الإقليم في هندسة ما بعد الفوضى.
الرباعية التي لم تنعقد، كانت أصدق من كل البيانات. فقد قالت بانسحابها، إن التزوير السياسي لا يُفرض بالمال، وإن الخرائط تُرسم بالتاريخ لا بالشيكات.
6
مصر تقف هذا الموقف ليس دفاعًا عن السودان وجيشه فحسب، إنما دفاعًا عن نفسها، وريادتها، وأمنها، وهي في ذلك قد تخسر الإمارات، الحليف الداعم بالمليارات، والمستثمر الأول، ولكن كل ذلك لا يمكن أن تقايضه مصر بتاريخها، وخاصة أن “الطارئين على التاريخ” يحاولون أن يغيروا مجراه بفلوسهم، لكن الأموال لا تشتري تاريخًا، قد تصنع واقعًا مزيفًا تتسيده أوهام القوة وأحلام السيطرة والنفوذ، لكن لا تمنحها جذورًا في أرض لم تعرف لها يومًا ظلاً ولا انتماء.
الإماراتالجيش السودانيالرباعية