"فورين بوليسي": نجم رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" بدأ في الخفوت!
تاريخ النشر: 8th, June 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في الوقت الذي يستعد فيه حزب"بهاراتيا جاناتا"بقيادة رئيس الوزراء الهندي"ناريندرا مودي" لتشكيل الحكومة للمرة الثالثة على التوالي، وهو الإنجاز الذي لم يحققه رئيس وزراء إلا مرة واحدة فقط في تاريخ الهند، إلا أن أداء الحزب كان ضعيفا في الانتخابات العامة، حيث فشل في تأمين أغلبية برلمانية تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أنه خلال الأعوام العشرة التي أمضاها في السلطة، لم يضطر مودي قط إلى الاعتماد على شركاء في التحالف، لذلك، فإن هذه الانتخابات لا تمثل نهاية سيطرة الحزب الواحد على البرلمان الهندي فحسب، بل تمثل أيضا وصول حزب بهاراتيا جاناتا إلى ذروته، ومن ثم (بداية مرحلة الخفوت).
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن تفوق حزب "بهاراتيا جاناتا" على مدى العقد الماضي كان نتيجة لعدة عوامل، أبرزها الشعبية والكاريزما التي يتمتع بها مودي نفسه وقدراته في التواصل مع الناخبين، إضافة إلى الوازع الديني (دغدغة مشاعر الهندوسيين)، وبرامج الرعاية الاجتماعية (خاصة تلك التي تستهدف النساء والفقراء)، والقدرات التنظيمية التي منحت الحزب تفوقا ميدانيا، مع الاستفادة من وضع المعارضة المنقسمة والضعيفة.
وترى المجلة الأمريكية أنه بعد الهيمنة الواضحة لحزب "بهاراتيا جاناتا" على المشهد السياسي الهندي طوال السنوات الماضية، ووصوله إلى مرحلة الذروة، فإن الطريق الوحيد من القمة هو الهبوط. لذا، وبطبيعة الحال، قد يظل الحزب قريبا من ذروته لفترة من الوقت ويهبط ببطء، ولكن الأمر لا يتعلق بمدى إمكانية حدوث ذلك، بل متى سيحدث؟!
ولفتت "فورين بوليسي" إلى أنه على الرغم من أن المنافسة السياسية القوية بشكل عام هي السمة المميزة للديمقراطيات، إلا أن عددا كبيرا منها قد سيطر عليه حزب سياسي واحد لفترات طويلة من الزمن. ومن الأمثلة على ذلك الحزب الديمقراطي الليبرالي في اليابان، والديمقراطيون المسيحيون في إيطاليا، والحزب الثوري المؤسسي في المكسيك، والحزب الديمقراطي في بوتسوانا، وكذلك الحال بالنسبة للهند التي كانت خاضعة لسيطرة حزب المؤتمر الوطني الهندي لعدة عقود من الزمن. وعندما وصلت هذه الأحزاب المهيمنة إلى السلطة، بدت وكأنها منيعة وستظل على القمة إلى ما لا نهاية، إلا أنها لم تكن كذلك.
فعلى سبيل المثال، في العديد من دول ما بعد الاستعمار، كان الحزب الذي قاد البلاد إلى الاستقلال يتمتع بشرعية خاصة. ولكن مع كل جيل متتالي، تلاشت الذكريات المجتمعية للأحداث التاريخية. وفي هذا الصدد، استغرق الأمر سبعة عقود من الزمن مع الحزب الثوري المؤسسي في المكسيك، وثلاثة عقود من الزمن مع المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، وكذلك الحال مع حزب المؤتمر الهندي الذي كان له دور محوري في النضال من أجل الحرية في البلاد، ولكن رغم استمرار تأثيره لعقود من الزمن، إلا أنه تراجع بعد ذلك.
لذا، يمكن للأحزاب المهيمنة أن يختفي تأثيرها مع مرور الوقت إما بسبب الأزمات الوطنية التي تحركها الأحداث الدولية، مثل الصدمة الاقتصادية أو الهزيمة في الحروب. ولكن بالنسبة للعديد من هذه الأحزاب، فكلما طال أمد بقائهم في السلطة، كلما زادت مقاومتهم للتغيير المؤسسي. ويؤكد عالم السياسة الفرنسي موريس دوفيرجيه على ذلك بالقول، إن الحزب المهيمن "يرهق نفسه في منصبه، ويفقد قوته، وتزداد مقاومته للتغيير.. ولكن بلا شك، كل سيطرة تحمل في داخلها بذور دمارها".
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" أنه بناء على ذلك، فكلما طالت مدة بقاء حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندي في السلطة، كلما نمت تلك البذور داخله. ودللت المجلة على ذلك بالإشارة إلى أن القوة الفريدة التي يتمتع بها حزب "بهاراتيا جاناتا" تتمثل في زعيمه ناريندرا مودي، كما كان الحال بالنسبة لحزب المؤتمر الوطني الهندي وزعيمته أنديرا غاندي، إذ إن شعبية كلا الزعيمين تفوق بكثير شعبية حزبيهما. لكن هذه القوة ذاتها أصبحت نقطة ضعف مع ظهور أسلوب الحزب وسياساته. فبالنسبة لحزب "بهاراتيا جاناتا"، كان للمركزية المتزايدة، وتقليص حجم القادة الإقليميين، أثرا كبيرا. كما أن أحد العوامل الرئيسية التي أوصلت حزب "بهاراتيا جاناتا" إلى السلطة عام 2014 كانت موجة مكافحة الفساد، إلا أن استطلاعات الرأي التي أجريت شهر أبريل الماضي قبل الانتخابات العامة الأخيرة أظهرت أن أكثر من نصف المشاركين (55%) يعتقدون أن الفساد قد زاد في السنوات الخمس الماضية.
وترى المجلة الأمريكية أنه إذا كان الأصل هو تعلم فن النصر من الهزيمة، فإن العكس هو الصحيح بالنسبة لحزب "بهاراتيا جاناتا"، حيث كان كل انتصار جديد للحزب يجلب معه استراتيجيات قائمة على تكميم أفواه المنتقدين، أو إكراه المعارضين، أو تهميش الأقليات الدينية.
ونبهت "فورين بوليسي" إلى ثلاثة دروس مستفادة من نتائج الانتخابات العامة الأخيرة في الهند، يتمثل الأول في الحقيقة الواضحة المتمثلة في عدم فوز أي حزب بأغلبية الأصوات، حيث لكي يفوز أي حزب في نظام الأغلبية في الهند، فإنه يحتاج إلى عدد وافر من الأصوات، ما يتطلب بالضرورة معارضة منقسمة. ولكن مع الهيمنة الكبيرة لحزب "بهاراتيا جاناتا"، وفرض الضغوط على أحزاب المعارضة وقادتها؛ مما أدى بهم إلى الاتحاد وتجنب الصراعات فيما بينهم من أجل البقاء. لذا، جاء القرار الذي اتخذته المعارضة بتوحيد قواها فيما يسمى ائتلاف الهند والذي كان سببا في الحد من تفتت الأصوات، وبالتالي عدم قدرة حزب بهاراتيا على تحقيق الأغلبية المطوبة.
ويتمثل الدرس الثاني في أنه في حين تجسد الأحزاب السياسية الناجحة مجموعة من الأفكار والأيديولوجيات المرتبطة بالسياسات والبرامج، إلا أن كل هذه الأفكار لها دورة حياتها. فعلى سبيل المثال، صعد الإسلام السياسي لمدة ثلاثة عقود تقريبا بعد الثورة الإيرانية، لكن طاقاته تراجعت منذ ذلك الحين. وفي الهند، استمرت فكرة الاشتراكية العلمانية لمدة نصف قرن تقريبا، ولكن انتهازيتها المتزايدة أعاقتها، وتم دفعها تدريجيا إلى الخارج مع استغلال حزب "بهاراتيا جاناتا" لحالة القلق والاستياء لدى الأغلبية الهندوسية. واستطاع حزب مودي تأمين الأصوات المطلوبة لبعض الوقت اعتمادا على الشعبوية، إلا أن التركيبة الاجتماعية المعقدة في الهند لا يمكن ضمان عدم تقلبها لفترة زمنية أطول.
أما الدرس الثالث، فيتمثل في أن الأيديولوجيات لا تعالج التحديات اليومية التي تواجه الناخبين، وأن منابع استياء الناخبين عميقة، ومعالجتها ستكون بلا شك صعبة.
وفي هذا المقام، يتمثل التحدي الرئيسي في الاقتصاد، الذي لم يوفر ببساطة فرص العمل اللائقة بأعداد كافية. فالمزيد والمزيد من الهنود لديهم مؤهلات تعليمية رسمية ولكن مهاراتهم محدودة؛ مما يعكس –وفقا لفورين بوليسي- رداءة نظام التعليم في البلاد. لذا، ففي مرحلة ما، ومع التحديات أمام تحقيق الطموحات المأمولة بتعزيز قطاع التصنيع في مواجهة عدم ملائمة الخريجين لسوق العمل، سيجد ملايين الشباب الساخطين طرقا للتعبير عن إحباطاتهم.
ونبهت المجلة كذلك إلى أن الانتخابات الهندية أُجريت هذا العام في ظل موجة حارة شديدة، وهو ما يشكل تذكيرا واضحا بالتأثيرات العنيدة الناجمة عن تغير المناخ، الذي تتفاقم مشاكله، وحقيقة أن الزراعة الهندية معرضة للخطر بشكل خاص مع ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط هطول الأمطار، وبالتبعية التأثير سلبيا على الهند الحضرية وقطاع كبير من المواطنين.
وأخيرا، ليس هناك شك، أن جميع ما سبق يشكل تحديات صعبة للغاية، بغض النظر عن الحزب السياسي الذي يتولى السلطة في الهند، وأن الجانب المشرق الوحيد في الانتخابات يتلخص في أن الديمقراطية في الهند ما زالت تنبض بالحياة.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الاقتصاد الهند بهاراتيا جاناتا رئيس الوزراء الهندي مودى بهاراتیا جاناتا عقود من الزمن فورین بولیسی فی الهند على ذلک إلا أن إلى أن
إقرأ أيضاً:
فورين أفيرز: كيف تكسب الصين المستقبل وتحاول السيطرة على قيعان البحار والفضاء
نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالًا للزميلة في معهد هوفر بجامعة ستانفورد، إليزابيث إيكونومي، قالت فيه إنه عندما رست سفينة الشحن الصينية "جسر إسطنبول" في ميناء فيليكستو البريطاني في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، ربما بدا وصولها عاديا. فالمملكة المتحدة هي ثالث أكبر سوق تصدير للصين، وتسافر السفن بين البلدين طوال العام.
واللافت في "جسر إسطنبول" هو المسار الذي سلكته - فقد كانت أول سفينة شحن صينية رئيسية تسافر مباشرة إلى أوروبا عبر المحيط المتجمد الشمالي، واستغرقت الرحلة 20 يومًا، أي أسرع بأسابيع من الطرق التقليدية عبر قناة السويس أو حول رأس الرجاء الصالح، وقد أشادت بيجين بالرحلة باعتبارها إنجازًا جيوستراتيجيا ومساهمة في استقرار سلسلة التوريد. ومع ذلك، لم يعلن عن الرسالة الأهم: مدى طموحات الصين الاقتصادية والأمنية في عالم جديد.
وأضافت الكاتبة أن جهود بيجين في القطب الشمالي ليست سوى غيض من فيض، فمنذ خمسينيات القرن الماضي، ناقش القادة الصينيون المنافسة في حدود العالم، حرفيًا ومجازيًا: البحار العميقة والقطبين والفضاء الخارجي، وما وصفه الضابط السابق في جيش التحرير الشعبي شو غوانغيو بـ"مجالات القوة والأيديولوجيا"، وهي مفاهيم تشمل اليوم الفضاء الإلكتروني والنظام المالي الدولي.
وتشكل هذه المجالات الأسس الاستراتيجية للقوة العالمية، فالسيطرة عليها تحدد الوصول إلى الموارد الحيوية، ومستقبل الإنترنت، والفوائد العديدة التي تنجم عن طباعة العملة الاحتياطية العالمية، والقدرة على الدفاع ضد مجموعة من التهديدات الأمنية. وبينما يركز معظم المحللين على أعراض المنافسة - التعريفات الجمركية، وانقطاعات سلسلة توريد أشباه الموصلات، والسباقات التكنولوجية قصيرة الأجل - تعمل بيكين على بناء قدراتها ونفوذها في الأنظمة الأساسية التي ستحدد العقود المقبلة.
وتضيف، بدأ صانعو السياسات الأمريكيون للتو في إدراك المدى الكامل لنجاح الصين في بناء القوة في مجالات رئيسية من عالم اليوم. وهم الآن معرضون لعدم إدراك حرصها على الهيمنة على مستقبل العالم، ففي عام 1872، أرسل البريطانيون سفينة لاسترجاع أول مخزون عالمي من العقيدات متعددة المعادن: وهي كتل من حطام المحيطات تحتوي على معادن أساسية مثل المنغنيز والنيكل والكوبالت. ولكن لم يفترض العلماء أن لهذه العقيدات فوائد مالية كبيرة إلا في أوائل ستينيات القرن الماضي.
وفي منتصف سبعينيات القرن الماضي، زعمت شركة ديب سي فينتشرز الأمريكية، التابعة لشركة تينيكو، أنها تستطيع تلبية جميع احتياجات الجيش تقريبًا من النيكل والكوبالت من خلال تعدين قاع المحيط الهادئ، لكن لم تحصل ديب سي فينتشرز على الأذونات اللازمة لاستخراج كميات هائلة من العقيدات، وفي النهاية، انهارت. ولكن في غضون ذلك، بدأت جهات دولية أخرى مفاوضات بشأن حقوق والتزامات الدول فيما يتعلق بمحيطات العالم. وقد توجت هذه المفاوضات باعتماد اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي دخلت حيز النفاذ في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994.
وتضمنت الاتفاقية قواعد حوكمة لموارد قاع البحار العميقة الواقعة خارج المياه الإقليمية للدول، وأنشأت الدول الأطراف في الاتفاقية، بالتعاون مع كبرى شركات التعدين العالمية، الهيئة الدولية لقاع البحار (ISA) لإدارة هذه الموارد، ومولتها.
بدأت الصين بحوثها الخاصة في مجال التعدين في قاع البحار العميقة في أواخر سبعينيات القرن الماضي. وطور علماؤها ومهندسوها نماذج أولية للغواصات والآلات القادرة على التعدين ومسح قاع المحيط. وفي عام 1990، أنشأت بكين جمعية الصين لأبحاث وتطوير موارد المحيطات المعدنية التي تسيطر عليها الدولة لتنسيق أعمال التنقيب والتعدين في قاع البحار في المياه الدولية. وأدرجت قدرات التعدين في قاع البحار ضمن خططها الخمسية التي بدأت عام 2011.
وفي عام 2016، أصدرت بكين قانونا لقاع البحار العميقة يهدف إلى تطوير القدرات العلمية والتجارية للصين وتوفير إطار للمشاركة في المفاوضات الدولية المتعلقة بموارد قاع المحيط. وفي هذه العملية، أنشأت الصين ما لا يقل عن 12 مؤسسة مخصصة لأبحاث أعماق البحار، وبنت أكبر أسطول من سفن الأبحاث المدنية في العالم.
وقد حدد شي قاع البحار العميقة كمجال ذي أولوية للقيادة الصينية، وقال في أيار/مايو 2016: "تحتوي أعماق البحار على كنوز لا تزال غير مكتشفة وغير مطورة. من أجل الحصول على هذه الكنوز، علينا التحكم في التقنيات الرئيسية للوصول إلى أعماق البحار واكتشافها وتطويرها". وتهيمن الصين بالفعل على سلاسل التوريد العالمية البرية للعناصر الأرضية النادرة، ولن يؤدي التقدم في تعدين قاع البحار العميقة إلا إلى تعزيز قبضتها على هذه المعادن.
كما أن تعدين قاع البحار العميقة من شأنه أن يعزز ضرورة أمنية صينية أخرى من خلال تسهيل رسم خرائط قاع البحر ووضع الكابلات البحرية التي يمكن استخدامها لدعم الحرب البحرية والغواصات. قال شي في عام 2018: "لا يوجد طريق في أعماق البحار. لسنا بحاجة إلى مطاردة [دول أخرى]: نحن الطريق".
ومع توسع القدرات المحلية للصين، توسع دورها في الهيئة الدولية لقاع البحار. منذ عام 2001، شاركت بكين بشكل شبه مستمر في مجلس سلطة (ISA)، وهو الهيئة التنفيذية المكونة من 36 عضوا والتي تتخذ قرارات رئيسية بشأن لوائح التعدين، وموافقات العقود، واللوائح البيئية. تقدم الصين دعما كبيرًا للهيئة، بما في ذلك من خلال تقديم الأوراق والتعليق على المسودات.
وقد وضعت خبرائها ومسؤوليها في أدوار فنية رئيسية في سلطة (ISA)، كما وتقدم دعما ماليًا للسلطة يفوق أي دولة أخرى. وقد مهدت الطريق لممارسة نفوذ أكبر في صياغة القواعد واللوائح التي تحكم استكشاف واستغلال موارد قاع البحار. وقد حصلت الشركات الصينية بالفعل على خمسة عقود لاستكشاف تعدين قاع البحار من سلطة (ISA) - وهو أكبر عدد من العقود بين الدول.
لكن بكين واجهت أيضا صعوبات على الطريق. فعلى الرغم من مبادراتها التعاونية، فإن الصين تنتمي إلى أقلية صغيرة من الدول التي تدعو إلى نهج أكثر تسريعا للتعدين. ووفقا لتقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي، منعت بكين "بمفردها" في عام 2023 السلطة الدولية لقاع البحار من مناقشة حماية النظام البيئي البحري ووقف مؤقت لتراخيص التعدين.
ليست أعماق المحيطات الحدود الوحيدة التي يسعى شي للسيطرة عليها. ففي عام 2014، أعلن أيضا عن نيته في جعل الصين قوة قطبية عظمى. ومثل قاع البحر، فإن القطب الشمالي غني بالموارد الطبيعية، إذ يحتوي على ما يُقدر بـ 13بالمئة من إمدادات النفط غير المكتشفة في العالم، و30 بالمئة من الغاز الطبيعي غير المكتشف، ومخزونات كبيرة من العناصر الأرضية النادرة. ومع ذوبان الجليد هناك، سيصبح أيضا موطنًا لممرات شحن جديدة - مثل الممر الذي استخدمته جسر إسطنبول.
وقد واجهت جهود بكين مقاومة. وتزايد قلق دول القطب الشمالي بشأن الاعتماد المفرط على الاستثمار الصيني والمخاطر الأمنية الناتجة عن ذلك. رفضت كندا والدنمارك وأيسلندا والسويد أو ألغت عددا من مشاريع القطب الشمالي الصينية في أراضيها.
ولكن بينما أغلقت الدول الديمقراطية أبوابها في الغالب أمام الاستثمارات الصينية الجديدة، فتحت دولة من نوع مختلف أبوابها: روسيا. منذ عام 2018، أضفت الصين وروسيا طابعًا مؤسسيا على مشاوراتهما الثنائية بشأن القطب الشمالي. وأصبحت علاقتهما واضحة بشكل خاص بعد غزو موسكو لأوكرانيا في عام 2022 وعزلها اقتصاديًا عن بقية أعضاء مجلس القطب الشمالي.
منذ ذلك الحين، وقّعت شركات صينية اتفاقيات لتطوير منجم تيتانيوم ورواسب ليثيوم، بالإضافة إلى إنشاء خط سكة حديد جديد وميناء عميق. وتتجاوز قدرات الصين وروسيا معا في مجال استكشاف القطب الشمالي والتجارة والدوريات فيه قدرات الولايات المتحدة بكثير.
ثم هناك الحدود الأخيرة: الفضاء. منذ عام 1956، اعتبرت الصين استكشاف الفضاء أولوية للأمن القومي. وفي أعقاب إطلاق الأقمار الصناعية السوفيتية والأمريكية عامي 1957 و١1958، أعلن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ: "سنصنع أقمارا صناعية أيضا". ثم نفّذت البلاد هذا الوعد، فأطلقت دونغ فانغ هونغ 1 إلى مداره في نيسان/ أبريل 1970.
طوال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أنشأت الصين برنامجًا فضائيًا واسع النطاق مدفوعًا بمتطلبات علمية واقتصادية وعسكرية. في عام 2000، نشرت الحكومة أول ورقة بيضاء لها تحدد أولوياتها في الفضاء الخارجي. وشملت هذه الأولويات الاستفادة من موارد الفضاء، وتحقيق رحلات فضائية مأهولة، والقيام باستكشافات فضائية تتمحور حول القمر.
كما يُمثل الفضاء أولوية خاصة للرئيس شي، حيث قال في عام 2013: "إن تطوير برنامج الفضاء وتحويل البلاد إلى قوة فضائية هو حلم فضائي نسعى إليه باستمرار". وفي عام 2017، وضعت الصين خارطة طريق لتصبح "قوة فضائية رائدة عالميًا بحلول عام 2045"، مع خطط لتحقيق إنجازات كبيرة.
وقد حققت ذلك بالفعل: فبالإضافة إلى برنامجها الفضائي التجاري المتطور، طورت الصين قدرات حرب فضائية متطورة، بما في ذلك مجموعة متنامية من أقمار الاستطلاع والاتصالات والإنذار المبكر. ومن بين أكثر من 700 قمر صناعي وضعتها الصين في مدارها، يُستخدم أكثر من ثلثها لأغراض عسكرية.
وقد بشر الكتاب الأبيض الصادر عن الصين لعام 2022 بكل هذا التقدم. ويعتقد بعض مسؤولي وخبراء الفضاء الأمريكيين أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة كدولة رائدة في مجال الفضاء خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة، بما في ذلك كونها أول من يعيد البشر إلى القمر منذ مهمة أبولو 17 الأمريكية عام 1972.
واجه نهج الصين الأوسع نطاقًا في إدارة الفضاء صعوبات أيضا. ففي عام 2022، انضمت إليها سبع دول أخرى فقط في التصويت ضد قرار اللجنة الأولى للأمم المتحدة لوقف تجارب الصواريخ المضادة للأقمار الصناعية ذات الصعود المباشر، والتي تُنتج حطامًا فضائيًا مدمرًا. وفي عام 2024، امتنعت الصين عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإدانة وضع الأسلحة النووية في الفضاء الخارجي، وهو اقتراح أيده جميع الأعضاء الآخرين باستثناء روسيا. ولم تحظَ محاولات بكين وموسكو لصياغة معاهدة خاصة بهما بشأن منع ووضع الأسلحة في الفضاء إلا بدعم عدد محدود من الدول، مثل بيلاروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
تريد الصين الهيمنة على أكثر من مجرد المجالات المادية. يريد شي أيضا أن تسيطر بكين على عالم الفضاء الإلكتروني. على مدار فترة ولايته، أصبحت الصين قوة عظمى في مجال الاتصالات. وقد مكّنت مبادرته "طريق الحرير الرقمي" لعام 2015 شركتي اتصالات صينيتين، هواوي وZTE، من الاستحواذ على ما يقارب 40 بالمئة من سوق معدات الاتصالات العالمية، قياسًا على الإيرادات، ويتميّز نظام بيدو الصيني للأقمار الصناعية بدقة تحديد مواقع أعلى من نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في أجزاء كثيرة من العالم. كما تُسهم تقنيات الكابلات البحرية الصينية في زيادة حصتها في السوق العالمية بوتيرة متسارعة.
وتسعى بكين أيضا إلى وضع معايير عالمية للتقنيات الاستراتيجية المستقبلية. وقد أدت مبادراتها، مثل استراتيجية الصين للمعايير 2035، إلى زيادة كبيرة في عدد المشاركين الصينيين والمقترحات المقدمة إلى هيئات وضع المعايير، كما شكّل التمويل العالمي، أكثر من أي مجال حدودي آخر، أرضا خصبة لجهود الصين الرامية إلى تعزيز مصالحها من خلال أطر متعددة الأطراف.
وقد استخدمت بكين مبادرة الحزام والطريق لدفع الدول الشريكة إلى قبول الرنمينبي في العقود، حتى أن بعض الاقتصاديين الصينيين دعوا إلى إلزام المشاركين في مبادرة الحزام والطريق بالتعامل بالرنمينبي، وقد نجحت هذه المساعي: بحلول حزيران/ يونيو 2025، وصلت حصة تجارة السلع الثنائية الصينية التي تتم بالرنمينبي إلى ما يقرب من 29 بالمئة.
وأوضح شي جين بينغ رغبته في إصلاح النظام الدولي بما يعكس المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية الصينية. يريد أن تكون الصين رائدة في استغلال قاع البحار العميقة والقطب الشمالي والفضاء. ويريد إنشاء بروتوكول إنترنت جديد يُرسّخ سيطرة الدولة. ويريد إنشاء نظام مالي عالمي، والاستثمار فيه، والتداول فيه، بعيدًا عن هيمنة الولايات المتحدة والدولار.
ولتحقيق هذه الأهداف، أمضت بكين سنوات - بل عقودا في معظم الحالات - في حشد موارد الدولة والقطاع الخاص على نحو استثنائي، وتطوير رأس المال البشري، والسعي إلى الاستحواذ على المؤسسات القائمة، وتطوير مؤسسات جديدة. ولعل الأهم من ذلك كله، أن بكين واصلت مسيرتها، فهي تتحين الفرصة، وتُكيّف تكتيكاتها، وتغتنم الفرص لتحقيق مكاسب عند ظهورها.
سيتعين على واشنطن أيضا استعادة مكانتها كقائد عالمي مسؤول. على سبيل المثال، سرعت حرب التعريفات الجمركية التي شنها ترامب من وتيرة التخلي عن الدولار، إذ جعلت الولايات المتحدة حَكَما غير موثوق به في الاقتصاد العالمي. وكما أشار الخبير الاقتصادي كينيث روغوف، فإن تهديد الدول لا يشجعها إلا على تنويع عملاتها. سيؤدي تهديد إدارة ترامب بتجاهل حظر الهيئة الدولية لقاع البحار على التعدين في قاع البحار إلى خلافات مع العديد من حلفاء الولايات المتحدة، وقد يقلب نظام الهيئة الدولية لقاع البحار رأسا على عقب.