الدروس التعليمية والتربوية والفقهية المستفادة من حجة الوداع
تاريخ النشر: 15th, June 2024 GMT
تزخر السيرة النبوية بكثير من الدروس والعبر التي يستفيد منها كل مسلم وكل إنسان، فيستفيد منها الإنسان العادي والفقيه والمؤرخ والمعلم والداعية، وفي هذا المقال سنتناول بعض الدروس التعليمية والتربوية والفقهية المستفادة من حجة الوداع باختصار.
أولًا: ـ الدروس التعليمية من حجَّة الوداع
أ ــ التَّعليم بمباشرة ما يراد تعليمه:
علَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام مناسك الحجِّ بصورةٍ عمليَّةٍ، بأن قام بها، وباشرها فعلاً، ولم يكتفِ بأن يعلِّمها لهم قولاً، ولذلك قال لهم: «خذوا عنِّي مناسككم».
ب ـ تكرار الخُطَب:
لاحظنا: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كرر خطبه، فقد خطب في عرفة، وفي منىً مرَّتين، كما كرَّر معاني بعض هذه الخطب، فعلى الدُّعاة أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكرِّروا خطبهم، ويكرِّروا بعض معانيها الَّتي يرون حاجةً لتكرارها؛ حتَّى يستوعبها السَّامعون، ويحفظوها؛ لأنَّ القصد من خُطب الخطيب إفادة السَّامعين بما يقول، فإذا كانت الفائدة لا تحصل، أو لا تتمُّ إلا بتكرار الخُطب من حيث عددها، أو بتكرارها من حيث تكرار معانيها، فليكرِّرها الدَّاعية، ولا يكون حرصه على أن يأتي بجديدٍ في خطبه، ما دام يرى الحاجة في ترسيخ معانٍ معيَّنةٍ في أذهان السَّامعين.
قال صلى الله عليه وسلم: «أيُّها النَّاس! اسمعوا قولي، واعقلوه، تَعَلَّمُنَّ: أنَّ كلَّ مسلمٍ أخٌ للمسلم، وأنَّ المسلمين إخوةٌ؛ فلا يحلُّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفسٍ منه، فلا تَظْلِمُنَّ أنفسكم»
إنَّ الدَّاعية همُّه أن يفيد السَّامعين، وليس همُّه أن يُظهر براعته في الخُطَب، وفي تنوُّع معانيها دون نظرٍ، ولا اعتبارٍ إلى ما يحتاج إليه السَّامعون، ودون اعتبارٍ لفهمهم هذه المعاني، واستيعابهم لها.
ت ـ فَلْيُـبَـلِّغ الشَّاهدُ الغائبَ:
وفي هذا توجيهٌ نبويٌّ كريمٌ لكي تعمَّ الفائدة أكبر عددٍ ممكنٍ من النَّاس، فهذا من باب التعاون على الخير؛ ولأنَّ الغائب قد يكون أوعى للعلم، وأكثر فهماً له من الحاضر الَّذي سمع، وعلى الدُّعاة، والعلماء عندما يُلْقُون درساً أو محاضرةً لإخوانهم أو لعامَّة النَّاس أن يقولوا للحاضرين: "فليبلِّغ الحاضرُ منكم الغائبَ بما سمعه".
ث ـ جلب انتباه الحاضر لما يقوله الخطيب:
يستفاد من سؤال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الحاضرين عن اسم اليوم الَّذي هم فيه، وكذا عن الشَّهر، والبلد ـ وهم يعرفونها ـ ما يجلب انتباههم إلى ما قد عسى أن يريده بطرح هذه الأسئلة، فيصغون إليه إصغاءً تامَّاً، قال القرطبيُّ: سؤال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة: أي: عن اليوم، والشَّهر، والبلد، وسكوته بعد كلِّ سؤالٍ منها؛ كان لاستحضار فهومهم، وليُقبلوا عليه بكلِّيَّتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه… فعلى العلماء، والدُّعاة أن يقدِّموا بين يدي ما يقولونه ما يدعو إلى جلب انتباه السَّامعين، ويشدُّهم إلى كلامهم.
ثانيًا ـ الأحكام الإيمانية المستقاة من حجَّة الوداع
جاءت حجَّة الوداع حافلةً بالأحكام الشَّرعية، وخاصَّةً ما يتعلَّق بالحجِّ، وبالوصايا، والأحكام الَّتي وردت في خطبة عرفات، لذلك اهتمَّ العلماء بحجَّة الوداع اهتماماً كبيراً، واستنبطوا منها الكثير من أحكام المناسك، وغيرها ممَّا تحفِل به كتبُ الفقه، وكتبُ شروح الحديث، وخصَّص بعضُهم مؤلفاتٍ مستقلَّةً في حجَّة الوداع. ونشير إلى بعض هذه الأحكام باختصارٍ شديدٍ، فمن هذه الأحكام:
أ ـ إفطار الحاجِّ يوم عرفة:
قالت ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ النَّاس شكُّوا في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلْتُ إليه بحلابٍ، وهو واقفٌ في الموقف، فشرب منه، والنَّاس ينظرون إليه.
ب ـ كيف يفعل بمن تُوفي مُحْرِماً؟
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: بينما رجلٌ واقفٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة؛ إذْ وقع عن راحلته، فَوَقَصَتْهُ، أو فأَوْقَصَتْهُ، فذُكر ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: «اغسلوه بماءٍ وسدْرٍ، وكفِّنوه في ثوبين، ولا تحنِّطوه، ولا تخمِّروا رأسه؛ فإنه يُبْعَثُ يوم القيامة ملبِّياً».
ت ـ هل يجوز الحجُّ عن الغير؟
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: كان الفضل بنُ العبَّاس رديفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأةٌ من خثعم، فجعل الفضلُ ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشِّقِّ الآخر، فقالت: يا رسول الله! إنَّ فريضة الله على عباده في الحجِّ
أوصى صلى الله عليه وسلم في خطبته بالمرأة والرَّقيق على أنَّهما نموذجان من الضُّعفاء، فقد شدَّد صلى الله عليه وسلم في وصيته بالإحسان إلى الضُّعفاء، وأوصى خيراً بالنِّساء
أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يَثْبُتُ على الرَّاحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: «نعم». وذلك في حَجَّة الوداع.
ث ـ منهج التَّيسير (لا حرج! لا حرج!):
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فطفق ناس يسألونه، فيقول القائل: يا رسول الله! إنِّي لم أكن أشعر: أنَّ الرمي قبل النَّحر، فنحرت قبل الرَّمي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ارم، ولا حرج!» قال: وطفق اخر يقول: إنِّي لم أشعر أنَّ النَّحر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر، فيقول: «انحر، ولا حرج!» قال: فما سمعته يُسأل يومئذٍ عن أمرٍ ممَّا ينسى المرء ويجهل، من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افعل، ولا حرج!".
هذه بعض الأحكام المختصرة، ومن أراد المزيد فليراجع ما كتبه الألبانيُّ عن حجَّة الوداع فقد لخص الحَجَّةَ في اثنتين وسبعين مسألة، وكتاب «الوصيَّة النَّبويَّة للأمَّة الإسلاميَّة» للدكتور فاروق حمادة، فقد جمع من المصادر الأدبيَّة، والحديثيَّة، وكتب أهل السِّير ثمانية وثلاثين بنداً، ثمَّ قام بتحليلها، وتخريجها، وتوثيق نصوصها بميزان الجرح والتَّعديل؛ الَّذي اعتمده أئمَّة المسلمين منذ الصَّدر الأول؛ لأنَّ الأمر دينٌ وشرعٌ كما قال، وقد أجاد، وأفاد.
ثالثًا ـ الدروس التربوية من حجة الوداع
أ ـ الأخوَّة في الله:
إن الأخوة في الله هي العُروة الوُثقى الَّتي تربط بين جميع المسلمين: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أيُّها النَّاس! اسمعوا قولي، واعقلوه، تَعَلَّمُنَّ: أنَّ كلَّ مسلمٍ أخٌ للمسلم، وأنَّ المسلمين إخوةٌ؛ فلا يحلُّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفسٍ منه، فلا تَظْلِمُنَّ أنفسكم». وقال: "إنَّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، حتَّى تلقَوا ربَّكم فيسألَكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلاَّلاً يضرب بعضُكم رقاب بعض".
ب ـ الوقوف بجانب الضَّعيف:
شرع الله الوقوف بجانب الضعيف حتَّى لا يكون هذا الضَّعف ثغرةً في البناء الاجتماعيِّ، فأوصى صلى الله عليه وسلم في خطبته بالمرأة والرَّقيق على أنَّهما نموذجان من الضُّعفاء، فقد شدَّد صلى الله عليه وسلم في وصيته بالإحسان إلى الضُّعفاء، وأوصى خيراً بالنِّساء، وأكَّد في كلمةٍ مختصرةٍ جامعةٍ القضاءَ على الظُّلم البائد للمرأة في الجاهليَّة، وتثبيت ضمانات حقوقها، وكرامتها الإنسانيَّة، الَّتي تضمَّنتها أحكام الشَّريعة الإسلاميَّة.
وصف صلى الله عليه وسلم الدَّاء، والدَّواء، ووضع العلاج لكلِّ المشكلات بالالتزام التَّامِّ بما جـاء من أحكامٍ في كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسَّكتُم به؛ لن تضلُّوا بعدي أبداً كتابَ الله، وسنَّتي".
ت ـ تنظيم العلاقة بين الراعي والرعية:
شرع الله التَّعاون مع الدَّولة الإسلاميَّة على تطبيق أحكام الإسلام، والالتزام بشرع الله، ولو كان الحاكم عبداً حبشيّاً؛ فإنَّ في ذلك الصَّلاحَ، والفلاحَ، والنَّجاةَ في الدُّنيا، والآخرة، فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم العلاقة بين الحاكم والمحكوم بأنَّها تعتمد على السَّمع، والطَّاعة ما دام الرَّئيس يحكم بكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا مال عنهما؛ فلا سمع، ولا طاعة، فالحاكم أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى.
ث ـ المساواة بين البشر:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتَّقوى. النَّاس من آدم، وآدم من تراب" عن رجل من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. حيث حدَّد: أن أساس التَّفاضل لا عبرة فيه لجنسٍ، ولا لون، ولا وطن، ولا قوميَّة، … إلخ، وإنَّما أساس التَّفاضل قيمةٌ خلقيَّةٌ راقيةٌ ترفع مكانة الإنسان إلى مقاماتٍ رفيعةٍ جدّاً.
ج ـ تحديد مصدر التَّلقِّي:
حدَّد صلى الله عليه وسلم مصدر التَّلقِّي والطَّريقة المثلى لحلِّ مشاكل المسلمين، الَّتي قد تعترض طريقهم، في الرُّجوع إلى مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم بعدَ الاعتصام بهما الأمان من كلِّ شقاءٍ، وضلالٍ، وهما: كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنَّك لتجده يتقدَّم بهذا التعهُّد، والضَّمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده؛ ليبيِّن للنَّاس أنَّ صلاحية التَّمسُّك بهذين الدَّليلين ليس وقفاً على عصرٍ دون آخر، وأنَّه لا ينبغي أن يكون لأيِّ تطوُّرٍ حضاريٍّ، أو عُرْف زمنيٍّ أيُّ سلطانٍ، أو تغَلُّبٍ عليهما.
لقد وصف صلى الله عليه وسلم الدَّاء، والدَّواء، ووضع العلاج لكلِّ المشكلات بالالتزام التَّامِّ بما جـاء من أحكامٍ في كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسَّكتُم به؛ لن تضلُّوا بعدي أبداً كتابَ الله، وسنَّتي".
هذا هو العلاج الدَّائم، وقد كرَّر صلى الله عليه وسلم نداءه للبشريَّة عامَّةً عبر الأزمنة، والأمكنة بوجوب الاهتداء بالكتاب، والسُّنَّة في حلِّ جميع المشكلات الَّتي تواجه البشريَّة؛ فإنَّ الاعتصام بهما يجنِّب النَّاس الضَّلال، ويهديهم إلى الَّتي هي أقوم في الحاضر، والمستقبل، لقد اجتازت تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه حدود الجزيرة، واخترقت حواجز الزَّمن، وأسوار القرون، وظلَّ يتردَّد صداها حتَّى يوم النَّاس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلم يكن يخاطب سامعيه، فيقول لهم: (أيُّها المؤمنون! أيُّها المسلمون! أيُّها الحجَّاج)؛ بل كان يقول لهم: (أيُّها النَّاس!)، وقد كرَّر نداءه إلى النَّاس كافَّةً مرَّاتٍ متعدِّدةً دون أن يخصِّصه بجنسٍ، أو بزمانٍ، أو مكانٍ، أو لونٍ، فقد بعثه الله للنَّاس كافَّةً، وأرسله رحمةً للعالمين.
مراجع المقال:
1 ـ أبي شبهة، السيرة النبوية، 2/ 575.
2 ـ صحيح البخاري، 4407.
3 ـ صحيح مسلم، 3017.
4 ـ علي الصلابي، السيرة النبوية، إستانبول، دار الروضة.
5 ـ الندوي، السيرة النبوية، 386.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تعاليم المسلمون حج مسلمون شعائر تعاليم أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة رسول الله صلى الله علیه وسلم صلى الله علیه وسلم فی السیرة النبویة کتاب الله ة الوداع رضی الله لا حرج إلى ال
إقرأ أيضاً:
هل المتوفى بسبب السرطان يُعتبر من الشهداء؟.. الإفتاء تجيب
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا مضمونه: كثير من الناس يموتون الآن بسبب مرض السرطان، فهل الذي يموت بسبب هذا المرض الخطير يُعَدُّ شهيدًا؟
وأجابت دار الإفتاء عبر موقعها الرسمى عن السؤال قائلة: إن الموت بسبب مرض السرطان تشمله أسباب الشهادة الواردة في الشرع الشريف؛ بناءً على أن هذه الأسباب يجمعها معنى الألم لتحقق الموت بسبب خارجي، فليست هذه الأسباب مسوقة على سبيل الحصر، بل هي منبهة على ما في معناها مما قد يطرأ على الناس من أمراض، وبناءً على أن مرض السرطان داخل في عموم المعنى اللغوي لبعض الأمراض، ومشارك لبعضها في بعض الأعراض، وشامل لبعضها الآخر مع مزيد خطر وشدة ضرر، فمن مات بسببه يرجى له أجر الشهادة في الآخرة؛ رحمةً من الله سبحانه وتعالى به، غير أنه تجري عليه أحكام الميت العادي؛ من تغسيلٍ، وتكفينٍ، وصلاةٍ عليه، ودفنٍ.
أنواع الشهداء في الإسلام وبيان كل نوع وسببه
وأوضحت انه قد تقرر أن الشهداء على ثلاثة أقسام:
الأول: شهيد الدّنيا والآخرة: الّذي يقتل في قتال الحربيين أو البغاة أو قطاع الطريق، وهو المقصود من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قاتلَ لِتَكُونَ كلِمةُ اللهِ هيَ الْعُليا فهوَ في سبيلِ اللهِ» متفقٌ عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وتسمى هذه الشهادة: بالشهادة الحقيقية.
والثاني: شهيد الدّنيا: وهو من قتل كذلك، ولكنه غلّ في الغنيمة، أو قتل مدبرًا، أو قاتل رياءً، ونحو ذلك؛ فهو شهيد في الظاهر وفي أحكام الدنيا.
والثالث: شهيد الآخرة: وهو من له مرتبة الشهادة وأجر الشهيد في الآخرة، لكنه لا تجري عليه أحكام شهيد الجهاد في الدنيا من تغسيله والصلاة عليه؛ وذلك كالميّت بداء البطن، أو بالطّاعون، أو بالغرق، ونحو ذلك، وهذه تُسمَّى بالشهادة الحكمية.
وقد وسَّعت الشريعة الغرّاء هذا النوع الثالث؛ فعدَّدت أسباب الشهادة ونوَّعتها؛ تفضلًا من الله تعالى على الأمة المحمدية، وتسليةً للمؤمنين:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا تَعُدّونَ الشّهيدَ فِيكُم؟» قالوا: يا رسول الله، من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، قال: «إنّ شُهَدَاءَ أمّتي إذًا لَقَلِيلٌ»، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: «مَنْ قُتِلَ فيِ سَبيلِ اللهِ فَهُو شَهِيدٌ، وَمَن مَاتَ في سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَن مَاتَ في الطَّاعُونِ فَهُو شَهِيدٌ، وَمَن مَاتَ في البَطنِ فَهُو شَهِيدٌ» قال ابن مقسمٍ: أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: «وَالغَرِيقُ شَهِيدٌ» رواه مسلم في "صحيحه".
ورواه الإمام البخاري في "صحيحه" من طريق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بلفظ: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطعُونُ، والمَبطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدمِ، والشّهِيدُ في سَبِيلِ اللهِ».
ورواه الطبراني في معجمَيْه "الكبير" و"الأوسط" من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه مرفوعًا، وزاد فيه: «وَالسُّلُّ شَهَادَةٌ».
وعن جابر بن عَتِيك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الشّهادة سبعٌ سوى القتل في سبيل الله؛ المطعونُ شهيدٌ، والغرقُ شهيدٌ، وصاحبُ ذاتِ الجنب شهيدٌ، والمبطونُ شهيدٌ، وصاحبُ الحريق شهيدٌ، والّذي يموت تحت الهدم شهيدٌ، والمرأةُ تموتُ بجمعٍ شهيدٌ» رواه أبو داود وغيره.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْحُمَّى شَهَادَةٌ» أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس"، وصححه الحافظ السيوطي في "الجامع الصغير".
فهذه الأسباب المتعددة وغيرها قد تفضَّل الله تعالى على من مات بها صابرًا مُحتسبًا بأجر الشهيد؛ لِما فيها من الشِدَّة وكثرة الألم والمعاناة:
قال الإمام أبو الوليد الباجي في "المنتقى شرح الموطأ" (2/ 27، ط. دار السعادة): [وإنما سألهم عن جنس جميع الشهادة فأخبروه عن بعضها؛ وهو جميع ما كان يسمى عنده شهادة فقالوا: القتل في سبيل الله، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الشهادة سبعة سوى القتل في سبيل الله؛ تسليةً للمؤمنين، وإخبارًا لهم بتفضل الله تعالى عليهم، فإنَّ الشهادة قد تكون بغير القتل، وإن شهداء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مما يعتقدهُ الحاضرون.. وهذه ميتات فيها شِدَّة الأمر، فتفضل الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم زيادةً في أجرهم حتى بلَّغهم بها مراتبَ الشهداء] اهـ.
قال العلامة ابن التين -فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 44، ط. دار المعرفة)-: [هذه كلها ميتات فيها شدة، تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم وزيادة في أجورهم، يبلغهم بها مراتب الشهداء] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرح مسلم" (13/ 63، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقد قال العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفَضُّل الله تعالى بسبب شِدَّتها وكثرة ألَمِهَا] اهـ.
والعدد في هذه الأحاديث غير مراد؛ فقد نص جماعة من العلماء على أن خصال الشهادة ليست محصورة في هذه الخِصال؛ بل أوصلها العلماء إلى أكثر من ذلك:
فعن محمد بن زياد الألهاني، أنه قال: ذكر عند أبي عِنَبَةَ الخولاني الشهداءُ؛ فذكروا المبطون، والمطعون، والنفساء: فغضب أبو عنبة، وقال: حدثنا أصحاب نبينا رضي الله عنهم، عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنَّ شُهَدَاءَ الله في الأرضِ، أمناء الله في الأرضِ في خَلقه، قُتِلُوا أو مَاتُوا» رواه الإمام أحمد.
وقال العلامة ابن المُنيِّر في "المتواري على أبواب البخاري" (ص: 154، ط. مكتبة المعلا): [ويحتمل عندي أن يكون البخاري أراد التنبيه على أن الشهادة لا تنحصر في القتل، بل لها أسباب أخر، وتلك الأسباب أيضًا اختلفت الأحاديث في عددها: ففي بعضها خمسة، وهو الذي صح عند البخاري، ووافق شرطه، وفي بعضها سبعة، ولم يوافق شرط البخاري، فنبه عليه في الترجمة، إيذانًا بأنَّ الوارد في عددها من الخمسة أو السبعة ليس على معنى التحديد الذي لا يزيد ولا ينقص؛ بل هو إخبار عن خصوص فيما ذكر الله، والله أعلم بحصرها] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 43): [والذي يظهر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بالأقل، ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقتٍ آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك، وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة] اهـ.
وقال العلامة الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (6/ 551، ط. دار السلام): [ولا أعلم أنه تعرض أحدٌ لوجهِ غير هؤلاء من الشهداء؛ فإنَّ ثمة أمراضًا أعظم من هذه المذكورة، وقد ألحق في الأحاديث ما بلغه أربعين شهيدًا] اهـ.
وقد صنف في أسباب الشهادة جماعة من العلماء: منهم الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالته "أبواب السعادة في أسباب الشهادة"، وأوصلها إلى سبع وخمسين خصلة، وعدَّهم الأَجْهُوري المالكي ستين خصلة، والعلامة السيد عبد الله بن الصدّيق الغماري في رسالته "إتحاف النبلاء بفضل الشهادة وأنواع الشهداء".
والتحقيق أن الشهادة لا تنحصر في خصوص هذه الخصال؛ بل يلحق بها ما كان في معناها، أو جرى مجراها، وقد استنبط الإمام التقي السبكي السبب الكلي العام للشهادة الذي يشمل تحته أسبابَها الجزئية المتنوعة؛ فقال في "الفتاوى" (2/ 343، ط. دار المعارف): [إذا عرفت حقيقة الشهادة فاعلم أن لها أسبابًا؛ أحدها: القتل في سبيل الله وقد ذكرناه، الثاني: أسبابٌ أُخَرُ وردت في الحديث.. ووجدنا في السبب الأول أمورًا ليست فيها، فلما رأينا الشارع أثبت اسم الشهادة للكل وجب علينا استنباطُ أمرٍ عامٍّ مشترك بين الجميع وهو: الألم بِتَحَقُّقِ الموتِ بسببٍ خارجٍ، وإن اختلفت المراتب وانضم إلى بعضها أمورٌ أُخَرُ] اهـ.
هل المتوفى بسبب السرطان يعتبر شهيدا
وبناء على ذلك فالموت بسبب مرض السرطان داخلٌ في أسباب الشهادة من جهات متعددة:
الأولى: تفاقم أمره واستفحال شره وشِدَّة ألَمِه، والتي جعلها العلماء علةَ أجر الشهادة في الخِصال المنصوص عليها؛ كما سبق.
قال العلامة الكشميري (ت1353هـ) في "فيض الباري" (2/ 248، ط. دار الكتب العلمية): [لمَّا رأيت أن الأحاديثَ لا تستقرُّ فيه على عددٍ معيَّن، بدا لي أن تُوضَعَ له ضابطة، فاستفدتُ من الأحاديث: أن كل من مات في عِلَّةٍ مُؤْلمةٍ متماديةٍ، أو مرضٍ هائلٍ، أو بلاءٍ مفاجئٍ: فله أجر الشهيد] اهـ.
والثانية: أن مرض السرطان داخل في المعنى اللغوي العام لبعض الأمراض المنصوص عليها في أسباب الشهادة؛ كالمبطون، وهو عند جماعة من المحققين: هو الذي يشتكي بطنه مطلقًا؛ كما قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (13/ 63).
وهذا متحقق في أعراض كثيرة من الحالات المصابة بمرض السرطان؛ مثل: سرطان الأمعاء، وسرطان الكلى، والتهابات الكبد، والسُّعال المستمر، وتغيرات أنماط عمل الأمعاء والمثانة، وعُسر الهضم؛ كما سبق بيانه.
والثالثة: أن هناك أمراضًا جعلها الشرع سببًا في الشهادة إذا مات بها الإنسان؛ كالحمى، والسل، ونحوهما، وهذا المرض شامل لأعراضهما وزائد عليهما بأعراض أخرى ومضاعفات أشد.
والرابعة: أنَّ أحاديث الشهادة إنما نصت على الأمراض التي كانت معروفة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تأت لتخصيصها بثواب الشهادة بذاتها، بقدر ما جاءت منبهةً على ما في معناها من الأمراض التي قد تحدث في الناس جيلًا بعد جيل.