صالون منير
#مصعب البدور
زمان الشباب الذي نتعلق بكل شيء له فيه علقة يعني بنترتح فيه بس هو مش راضي
ونندمج بتفاصيله الباقية في أرض الواقع أو الغافية في طيات الذاكرة، عندما للتو أجر حقائب الاغتراب عائدا إلى حنايا الوطن هنا في تفاصيل الانحناءات وبين ارتفاعاتٍ وانخفاضاتٍ في شوارع إربد عابرا إيدون متجها إلى صمد، حينها كنت أغلقت دفاتر البحرين بشَعْر طويييل ولحية لا يجمعها وِفاقٌ شَعْراتها معلنةً الحرب بينها، كان لا بد لي من أحلق شعري وكنت جوار أمي في المقعد الخلفي أنظر إلى الشارع المسترسل في صعوده، أناوش شقيقي الأكبر بكر بعض النكات تارة وأستمع إلى أقوال والدي تارة وعقلي يقول تفقد صالون الحلاقة المعتاد لتهذب مظهرك الذي يبدو كمظهر دب أسود جائع كسا وجهه النحيل الشعر المتطاير.
مررت أخيرا بالصالون وإذا به مزدحم، فلم أطلب النزول إليه، لأنني إن كنت مؤمنا بوعورة تضاريس الشكل عندما أنظر في المرآة لكنني لا أؤمن بالمزاحمة، لا أزاحم أحدا في شيء أترك كل ما ازدحمت الرؤوس حوله أو فيه.
انقضت موجة الترحاب وسرعان ما تحولت من الأخ القادم من غربتي المُحْتَفَل به إلى ذلك الأخ الذي يثلّث الدفعة الأخيرة من صغار العائلة لأبوح لكم نحن لا نحسن فنّ الاحتفال لا تخبروا أحدا فشددت رحلة جديدة إلى صالون الحلاقة، الذي سبقت شتائم المزدحمين به إلى أذني، فانعطفت عن أدراجه متحولا إلى الرصيف في الطرف الآخر من الطريق، واسترسلت ماشيا حتى وجدتني أحول الاتجاه عند دوار العيادات في آخر إيدون مستمرا بالسير مستذكرا كل ما كان يدور حولي في هذه الشوارع انتظار الباص، وطابور المخبز وحلّة المدرسة.
وعندما لَحَظْتُ تزايد الحركة أدركت أني وصلت إشارة النسيم _ دوار النسيم سابقا_ وقفت لأنتظر أول باص يعود بي إلى القرية بكل تأكيد القرية لن تهرب لكن الشعور الداخلي بالاستغناء عن الحلاقة جعلني أشعر بالفشل، وأي فشل أكبر من أن تفشل بتهذيب مظهرك، خاصة أنني لا أحسن تهذيب اللحية أو الشعر.
أدرت ظهري للحاضر وسرحت في الذاكرة وإذا بذاكرتي تسخر مني: أنت تقف أمام صالون منير.
قررت الدخول: وإذا بالصالون مزدحم أيضا لكنه مزين بالهدوء والحوارات الودية، الصالون يديره منير ويعمل معه شقيقه، قررت أن أتخذ قرار يغير مسيرتي أن أغير الحلاق، وجلست مع المنتظرين كلهم يعرفون بعضهم بعضا، وأنا الجديد، سمعت شابا يردد: ما بقدر أحكي هالكلمة هون، منير بزعل.
ليبتسم منير: لأنه حرام وعيب.
ولأول مرة أستمتع بالانتظار منير وعثمان يتحدثان بلباقة يحللان كل شيء ويبذلان كل طاقتهما لإسعاد الزبون.
الرقي الأخلاقي الذي احتواه صالون منير بثنائيه الرائع منير وعثمان علامة فارقة ستبقى موجودة في زاويته من الجهة الجنوبية. لم يمض وقت طويل حتى صرت زبونا ثابتا عندهم وقد شاركني في هذا شقيقي أحمد رغم معاييره المعقدة لمظهره، لكن منير المبتسم دوما كان يناضل حتى اللحظة الأخيرة ليقدم له أفضل خدمة يرجوها _ صراحة الله يعين أي حدا يحلق له لأنه من جماعة الزاوية تسعين_ اليوم وبعد أعوام وجدتني على كرسي منير في ذات المكان وذات الهدوء وذات الكياسة والذوق.
*نترتح: نتمسك
#ناي_الحياة/ مذكرات شاب في الأربعين #مصعب_البدور مقالات ذات صلة رصيف الخيانة 2024/06/25المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
التنين الصيني الذي يريد أن يبتلع أفريقيا
في منتصف تسعينات القرن المنصرم كان الباعة الصينيون يقفون قبالة الشوارع الرئيسية في العاصمة السودانية الخرطوم، يعرضون دهان الفيكس الرخيص بلا ثمن يذكر، حتى بدا وكأن ذلك نوع من التسول اللطيف، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا مجرد طليعة كشفية لأنماط الثقافة الشرائية، هنا وفي معظم البلدان الإفريقية، أو بالأحرى مستعمرون جدد تزحف خلفهم مطامع اقتصادية بلا حدود.
وإن كانت تلك الشركات الصينية أمثال عمالقة النفط “سينوبك” و”كيونت” و”هاير” والمصانع المزدهرة في مقاطعة شاندونج وعلى ميناء غوانزو، وكذلك شركات الأسلحة والمسيّرات الصينية تستعمل استراتيجية تسويق عابرة للحدود، فإنها تسعى وبقوة لالتهام القارة السمراء بالكامل عما قريب.
على مدى أكثر من أربعة عقود تقريباً رقصت قاعة الشعب العظمى في بكين على وقع خطابات حكام الصين الشيوعيين، وكانت هذه الخطابات تترافق مع تصفيق مجازي للقائد ماو تسي تونغ، مدير الدفة العظيم، والملهم الأزلي للتجربة، وشيئاً فشيئاً فقدت قاعة الشعب بريقها الاشتراكي، ليظهر جيل جديد لا تستهويه الروح الأيديولوجية بأي حال، فكل ما يهمه الخروج إلى العالم وتأمين الازدهار الاقتصادي الكبير. كما لا يجب إغفال ملاحظات الاصلاحي دينغ زياوبينغ في بداية التسعينيات، حول عدم إمكانية الصينيين أن يصبحوا أثرياء جميعاً علامة سياسية مهمة، معتبرًا اللامساواة كثمن للتقدم، وقد أدرك دينغ أن القوة والثراء لا يتحدران ببساطة من داخل الحدود الوطنية للصين، فأطلق العنان لشركات بلاده لتقوم بالمهمة.
لبكين وبقايا مكونات الماركسية الماوية المحسنة أكثر من مدخل للتعامل مع الدول الإفريقية، فهى تختار صداقاتها بعناية، وتبني علاقتها مع دكتاتوريات قابضة، وعلى قطيعة مع العالم الليبرالي، مثل الرؤساء المتهمين بقمع المعارضة وانتهاك حقوق الإنسان، ضيوف محافل الإدانات السنوية في مجلس الأمن، وهؤلاء بالنسبة للصين صيد سهل التعامل معه. فهي من جهة تملك امتياز استخدام الفيتو لصالحهم، ومن جهة أخرى تمثل لهم طوق نجاة اقتصادي، فتنعم على الحكومات الإفريقية بالقروض الميسرة، والتسهيلات الائتمانية ومشروعات التنمية، من موانئ وسكك حديدية ومطارات، لكن ما هو المقابل؟
لا بد عن إلقاء نظرة قصيرة حول ما تقوم به الصين من نشاط اقتصادي هائل في أفريقيا. فهى تستثمر في كل شيء تقريبًا، وقد وصل حجم التبادل التجاري بينها والقارة الأفريقية نحو ثلاثمائة مليار دولار في العام 2015، فيما تمكنت المؤسسة الوطنية للنفط في الصين من امتلاك حصصٍ ضخمة في إفريقيا، تصل إلى 40% من مؤسسة النيل الأعظم للنفط، التابعة للحكومة السودانية، خلافاً لاستثمارات نفطية مُشابهة في جنوب أفريقيا، أثيوبيا، وأنغولا، وقد رفع منتدى التعاون الصيني الإفريقي الأخير وتيرة طموحات الرؤساء الأفارقة، والذين يواجهون مشاكل اقتصادية جمة، ولربما جعل منهم المنتدى منطلق لغزوات جديدة في أوطانهم، تعبر الصين فوق أحلامهم الصغيرة إلى حلمها الكبير.
إذًا وكما يبدو فإن الرباط الخانق الذي تضعه أمريكا والدول الأوربية حول رقاب الرؤساء الأفارقة، تحاول الصين بخبث حماية مدى إحكامه، دون تخليصهم منه نهائياً، حتى تحتفظ بهم تحت رحمتها، على الدوام، وفي حالة خوف ورغبة بالتنازل عن كل شيء مقابل الحُكم الأمن، وهنا يمكن للصين أن تحصل على ما تريد بسهولة.
بينما لا أحد يعلم بالضبط كم هى ديون الصين على الحكومة السودانية مثلاً، فالأرقام تتفاوت ما بين 5 إلى 7 مليار دولار، لكن ثمة جدل حول جدولة تلك الديون، وفشل في الإيفاء بها، أرغم حكومة الخرطوم للإذعان لكل شروط التسديد من جهة الصين، وذلك بعد زهاء عقود من التعاون الغامض، وابتداع آلية النفط مقابل المشروعات.
بمجازفة قليلة في الظن، يمكن القول أن تلك الديون مقصودة في حد ذاتها، وأن إغراق دول إفريقية بها هو هدف للوصول إلى هدف أكبر، غالباً بجعلها رهينة لإمداد نفطي دائم، وامتلاك أراضي استثمارية واسعة، قد تتحول بسببها إفريقيا في يوما ماء إلى أملاك إقطاعية خاصة بالتنين الصيني، أو مستعمرة تحت عيون الصين.
“العالم بأسره مسرح، وكل الرجال والنساء يؤدون دورهم فحسب” كانت تلك استعارة لائقة لشكسبير، ولكنها لن تحد من رغبة الصين في احتلال هذا المسرح الاقتصادي لأطوال فترة في المستقبل، وقد أدارت، أي الصين، عجزًا تجاريًا هائلاً مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أنها تمتص بشراهة مواد أولية ونصف منجزة، وتركز بصورة أساسية على النفط والعقود الطويلة في إفريقيا والشرق الأوسط.
ذلك التوسع التجاري والسيطرة على اقتصاد العديد من الدول النامية، يمكن في يوماً ما أن يحول بكين إلى حلقة حاكمة في السياسة الدولية، وبينما تحدثت صحيفة “لوموند” الفرنسية قبل أعوام عن تجسس الصين على مقر الإتحاد الإفريقي لم تعبأ بكين بذلك ونفته، رغم أنه قد يكون صحيحاً، فهو أيضاً تسريب مفهوم في سياق التنافس الشره بين فرنسا والصين، وشعور الأولى بخسارات مستعمراتها القديمة من خلال الزحف الصيني عليها. لكنها مع ذلك لم تسفر الصين عن دوافع ظاهرة للهيمنة، فقط تسعى لتمكين شركاتها، وكل ما يهمها أن يتخلى أصدقائها الجدد عن تايوان، العدو اللدود، ولذا قطعت معظم الدول الإفريقية علاقتها بتايوان لضمان وصلها ببكين.
يحب القادة الأفارقة الصين، وتحبهم الصين بقسوة، فهي على الأقل لا تقض مضاجعهم بكوابيس مطالب “التداول السلمي للسُلطة”، كما أنها لا تبدو مشغولة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا تتدخل في شؤون الحكم والسياسات الداخلية، ما يعني أنها النموذج المريح للتعامل، والذي لا يكسر بخاطر أحد، ومن هنا تقريباً تخلقت وشائج المنافع المتبادلة، كلغة وحيدة للتفاهم.
ولعل الصين التي تعتمد على إفريقيا في توفير ثلث مواردها النفطية طرحت نفسها كعاشق بديل، يبذل في سبيل مصالحه كل ما يمكن أن يداوي جراح صندوق النقد الدولي، والعقوبات الأمريكية، وتحاول أيضاً أن تغطي على كوارث الاستعمار القديم، بما يمكن أن يمنح الشعوب الإفريقية شعوراً بالزهو والتحرر، ولتحقيق ذلك عاودت فتح ممرات طريق الحرير القديم عبر المحيطات، كما لو أنها تبحث عن سلالة مينغ التي تزاوجت مع قبائل إفريقية قبل مئات السنين.
من المهم إدراك أن أكثر ما ينمي مشاعر القلق أن أفريقيا أصبحت مكباً للبضائع الصينية الرديئة، بينما خطوط الإنتاج الأولى تبقى من نصيب شمال الكوكب، والتي تعبر بخفة مقاييس الجودة والمواصفات، حتى أنه يمكن لجهاز آلكتروني أن ينفق في يدك خلال ساعات، دون أن تتوقف عمليات الشراء. وتحولنا نتيجة لذلك إلى مستهلكين شرهين، نؤمن حاجة الصين إلى خطوط إنتاج جديدة وفرص عمل لشعبها كل يوم، دون أن نعبأ بخساراتنا المديدة، وهذا باختصار مزعج بعض ما يمكن أن يقال عن اللعبة الاقتصادية الصينية.
عزمي عبد الرازق